تفريغ شرح صحيح البخاري-20، كتاب العلم، الحديث 59و60و61و62

الدرس العشرون بتاريخ: 15/03/1445 - 30/09/2023

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، أما بعد.

فنبدأ اليوم بإذن الله تبارك وتعالى بالدرس العشرين من دروس شرح صحيح البخاري، وهو أول كتاب العلم.

القارئ:

"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم كِتَابُ الْعِلْمِ

‌‌بَابُ فَضْلِ الْعِلْمِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾

‌‌بَابُ مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ

حَدَّثَنَا ‌مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ‌فُلَيْحٌ (ح). وَحَدَّثَنِي ‌إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا ‌مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ‌أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي ‌هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ ‌عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: أَيْنَ -أُرَاهُ- السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ. قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»"

"كتاب العلم، بسم الله الرحمن الرحيم باب: فضل العلم"

الكتاب وما يتعلق بمعناه كله قد تقدم، والبسملة كذلك.

"فضل العلم": أي: مزيته والخير الذي تحصل عليه منه.

والمقصود بالعلم هنا: العلم الشرعي، فالأدلة التي ذكرها البخاري وغيره من أهل العلم في فضل العلم يعنون به العلم الشرعي لا الدنيوي.

واليوم الناس إذا سمعوا أدلة فضل العلم حملوها على العلم الدنيوي إلا من رحم الله سبحانه وتعالى لشدة تعلقهم بالدنيا وتقديمها على الآخرة، فصارت هي همهم، وحتى المعاني الشرعية يحملونها عليها، ومهد لهم ذلك وغشهم به بعض أهل البدع الذين فسروا لهم هذه الأحاديث بهذا المعنى.

العلم الشرعي هو المقصود فهو الأفضل وهو الأسمى، هو الذي به تحصل على خيري الدنيا والآخرة، أما العلم الدنيوي فزائل مع الدنيا إلا ما كان وسيلة إلى الآخرة.

من أفضل ما صُنف في العلم وفضله: كتاب "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر رحمه الله، كتاب نفيس نافع، وقد استوعب المراد من هذا، وكتاب العلم لزهير بن حرب كتاب نافع أيضًا مفيد

قال ابن حجر: (فائدة، قال القاضي أبو بكر ابن العربي: بدأ المصنف بالنظر في فضل العلم قبل النظر في حقيقته)

من عادة المصنفين في علم أن يبدؤوا بالتعريف، والتعريفات يبدؤون بها كي تتصور المسألة التي يتحدثون عنها، تنمي لها صورة في ذهنك، لذلك يبدؤون بالتعريفات كي يصوروا لك حقيقة الشيء في ذهنك قبل أن تعرف فضلها، هذه الطريقة هي التي سار عليها العلماء المتأخرون لحاجتهم لهذا.

السلف رضي الله عنهم لم تكن هذه طريقتهم في التصنيف، فكانوا يبدؤون بالفضائل كما فعل الإمام البخاري رحمه الله، وإذا احتاجوا إلى تعريف أمر عرفوه.

هنا قال المصنف يعني البخاري: "باب: فضل العلم" (بدأ المصنف بالنظر في فضل العلم قبل النظر في حقيقته وذلك لاعتقاده أنه في نهاية الوضوح فلا يحتاج إلى تعريف)

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، هل العلم يعرف أم لا يعرف؟ وهذه المسألة قد طرحت في أصول الفقه وذكرت هناك وذكرت فيها المذاهب.

يقول أبو بكر ابن العربي: (أو لأن النظر) يذكر الآن السبب الذي جعل البخاري رحمه الله يبدأ بالفضل قبل بيان الحقيقة، هو ما بين الحقيقة على طريقة المتأخرين، قال: (أو لأن النظر في حقائق الأشياء ليس من فن الكتاب)

يعني النظر في معرفة حقيقة الشيء وتعريفه ليس من فن الكتاب الذي هو صحيح البخاري (وكلٌّ من القدرين ظاهر؛ لأن البخاري لم يضع كتابه لحدود الحقائق وتصورها) لم يأت الكتاب لهذا، لو نظرت فيه لن تجده يعرف تعريفات لهذه الأمور.

قال: (بل هو جار على أساليب العرب القديمة، فإنهم يبدؤون بفضيلة المطلوب للتشويق إليه إذا كانت حقيقته مكشوفة معروفة).

هذه الطريقة السلفية وهذا الطريق الذي ذكره أخيرًا هو الظاهر، والله أعلم.

قال ابن حجر: (وقد أنكر ابن العربي في شرح الترمذي على من تصدى لتعريف العلم، وقال: هو أبين من أن يبين) انتهى.

"وقول الله تعالى: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾"

"﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم﴾" بإيمانهم وطاعتهم للنبي ﷺ "﴿والذين أوتوا العلم﴾" والذين أعطاهم الله تبارك وتعالى ومنَّ عليهم بالعلم النافع أيضًا يرفعهم الله سبحانه وتعالى على غيرهم من المؤمنين "﴿درجات﴾" في الدنيا والآخرة بما جمعوا من العلم والعمل، هذه فضيلة عظيمة لأهل العلم.

﴿والذين أوتوا العلم درجات﴾

قال ابن زيد: في دينهم، إذا فعلوا ما أُمروا به في الدين وليس في الدنيا.

قال الطبري رحمه الله: ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات إذا عملوا بما أُمروا به في الدين.

الكلام كله في الدين إذا عملوا بما أُمروا به، يعني أنه ليس مجرد أن تحصل على العلم الشرعي رفعك الله به درجات، لا، كم من جامع للعلم فاهم له لا نصيب له من العمل به، فهذا علمه حجة عليه «والقرآن حجة لك أو عليك»

ومثل هذا كثير عن السلف يفسرون هذا في الدين.

"وقوله عز وجل: ﴿وقل رب زدني علمًا﴾"

قال ابن حجر: (وقوله عز وجل: ﴿وقل رب زدني علمًا﴾ واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه ﷺ بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم)

يقول ابن حجر: (والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عبادته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه) هذه علوم الغاية، والعلوم الأخرى علوم الآلة علوم وسائل توصلك إلى هذه العلوم، انتهى كلامه رحمه الله.

لماذا لم يخرج البخاري رحمه الله حديثًا تحت هذا الباب؟ ما في حديث.

اختلف العلماء في هذا على أقوال، فقيل: بأنه لم يقع له حديث من هذا النوع على شرطه، وقيل غير ذلك، والله أعلم.

وقد خرج شيخنا مقبل الوادعي رحمه الله في الجامع الصحيح عدة أحاديث في فضل العلم، فراجعوها هناك.

الباب الذي بعده، قال: "من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل"

هذا يريد أن يبين أدب العالم والمتعلم.

المتعلم ينبغي أن يتأدب في طريقة سؤاله، والمعلم أيضًا يتأدب في طريقة جوابه، كما سيأتي إن شاء الله.

قال ابن حجر: (محصله التنبيه على أدب العالم والمتعلم، أما العالم فلِما تضمنه من ترك زجر السائل) في الحديث النبي ﷺ لما سأله هذا الرجل وكان مشغولًا في حديثه ما زجره ﷺ (بل أدبه بالإعراض عنه أولًا) أعرض عنه ما أجابه (حتى استوفى ما كان فيه) أي: حتى أكمل حديثه الذي كان فيه (ثم رجع إلى جوابه) رجع إلى جواب الرجل الذي سأل (فرفق به لأنه من الأعراب، وهم جفاة، وفيه العناية بجواب سؤال السائل ولو لم يكن السؤال متعينًا ولا الجواب، وأما المتعلم) الكلام هذا كله للحافظ (فلِما تضمنه من أدب السائل أن لا يسأل العالم وهو مشتغل بغيره، لأن حق الأول مقدم) الذي كان يتحدث معه حقه مقدم بأن يتم له حديثه ثم بعد ذلك يجيب السائل الجديد، فإذًا نتعلم من هذا أدبًا إذا كان الشيخ يتحدث في مسألة أن لا نسأل حتى يتم حديثه، والشيخ يترفق بالطلبة في طريقة تأديبهم.

"حدثنا محمد بن سِنان" الباهلي، أبو بكر البصري، معروف بالعرقي، يروي عن أتباع التابعين، ثقة حجة، قال البخاري: مات قريبًا من سنة 222، روى له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

"قال: حدثنا فُليح" هو ابن سليمان بن أبي المغيرة الخزاعي، ويقال: الأسلمي، أبو يحيى المدني، مولى آل زيد بن الخطاب، ويقال: فليح لقب واسمه عبد الملك، من أتباع التابعين، ضعيف، مات سنة 168، روى له الجماعة.

قال ابن معين: ضعيف، وقال مرة: ليس بقوي ولا يحتج بحديثه، وضعفه علي بن المديني وأبو حاتم الرازي وأبو زرعة الرازي وأبو داود السجستاني والنسائي والحاكم أبو أحمد وغيرهم، وقال الساجي: هو من أهل الصدق يهم، وقال الدارقطني: يختلفون فيه وليس فيه بأس.

قال أبو أحمد بن علي: ولفليح أحاديث صالحة، يروي عن الشيوخ من أهل المدينة أحاديث مستقيمة وغرائب، وقد اعتمده البخاري في صحيحه وروى عنه الكثير وهو عندي لا بأس به. انتهى مختصرًا.

وقال الحاكم النيسابوري: اتفاق الشيخين عليه يقوي أمره.

قال ابن حجر: من طبقة مالك، وهو صدوق تكلم بعض الأئمة في حفظه، ولم يخرج البخاري من حديثه في الأحكام إلا ما توبع عليه، وأخرج له في المواعظ والآداب وما شاكلها طائفة من أفراده وهذا منها.

وقال في هدي الساري: لم يعتمد عليه البخاري اعتماده على مالك وابن عيينة وأضرابهما، وإنما أخرج له أحاديث أكثرها في المناقب وبعضها في الرقاق. انتهى.

الراجح ضعفه، فالجرح مفسر، وكثير ممن وثقه أخذته هيبة الشيخين، لكن الضعف فيه واضح والجرح مفسر لأنه يهم ويروي الغرائب، والمجرحون أكثر عددًا وأعلم بالرجال من المعدلين في الجملة.

"ح" تحويل الإسناد.

"وحدثني إبراهيم بن المنذر" هو ابن عبد الله بن المنذر، القرشي، الأسدي، الحازمي، أبو إسحاق المدني، يروي عن أتباع التابعين، صدوق، مات سنة 236، روى له البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه.

"حدثنا محمد بن فليح" هو ابن سليمان الأسلمي، الخزاعي، أبو عبد الله المدني، ابن فليح الذي تقدم، فليح ضعيف، وهذا ابنه، وهو ضعيف أيضًا، هو من أتباع التابعين، ضعيف، ضعفه ابن معين، وقال أبو حاتم: ما به بأس ليس بذلك القوي، وقال العقيلي: لا يتابع في حديثه.

وأما الدارقطني فوثقه، وتوثيقه له في سؤالات الحاكم الدارقطني برقم 465، في كلام الحفاظ ما يشير إلى سوء حفظه، والله أعلم.

مات سنة 197، روى له البخاري والنسائي وابن ماجه.

قال الحافظ في هدي الساري: أخرج له البخاري نسخة من روايته عن أبيه عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة، وبعضها عن هلال عن أنس بن مالك، توبع على أكثرها عنده، وله نسخة أخرى عنده بهذا الإسناد، لكن عن عبد الرحمن بن أبي عمرة بدل عطاء بن يسار، وقد توبع بها أيضًا، وهي ثمانية أحاديث، والله أعلم. انتهى.

هنا متابع، وقد تابع محمد بن سنان في روايته عن فليح.

لكن الحديث مداره على فليح.

"قال: حدثني أبي" هو فليح بن سليمان.

"قال: حدثني هلال بن علي" هو ابن أسامة، ويقال: هلال بن أبي ميمونة، وهلال بن أبي هلال، القرشي العامري مولاهم، المدني، تابعي، ثقة أو صدوق.

قالوا: مات في آخر ولاية هشام بن عبد الملك، وكانت ولايته ما بين 105 إلى 125 هجري.

"عن عطاء بن يسار" ثقة، تقدم.

"عن أبي هريرة" رضي الله عنه "قال: بينما النبي ﷺ في مجلس يحدث القوم" يعني يحدث الرجال فقط أو الرجال والنساء، لأن القوم يشمل الرجال والنساء، وقد يطلق ويراد به الرجال.

"جاءه" أي: جاء النبي ﷺ "أعرابي" هو الذي يسكن البادية، وهو منسوب إلى الأعراب ساكني البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة.

وهذا الأعرابي، قال الحافظ: لم يسمَ هذا الأعرابي، لا نعرف اسمه من هو.

"فقال" هذا الأعرابي للنبي ﷺ: "متى الساعة؟" استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة.

"فمضى" استمر النبي ﷺ "يُحدِّث" القوم، ولم يلتفت إلى سؤاله.

"فقال بعض القوم" لما رأوا هذا: "سمع" النبي ﷺ "ما قال" الأعرابي "فكره ما قال" ولهذا لم يلتفت إلى سؤاله "وقال بعضهم: بل لم يسمع" سؤال الأعرابي.

"حتى إذا قضى" رسول الله ﷺ "حديثه" أي: أنهى حديثه الذي كان فيه.

"قال: «أين -أُراه- السائلُ عن الساعة؟»" أي: عن وقتها، أين السائل عن الساعة؟

وأُراه: أي أظن، وهو من كلام الراوي، يعني أظن أنه قال أين السائل.

قال ابن حجر: والشك من محمد بن فليح، ورواه الحسن بن سفيان وغيره عن عثمان بن شيبة عن يونس بن محمد عن فليح، ولفظه: "أين السائل، ولم يشك.

ولم يجبه النبي ﷺ لأنه كان مشغولًا بحديثه مع غيره.

"قال" الأعرابي: "ها أنا" السائل، الهاء هذه للتنبيه "يا رسول الله"

قال: "قال" الأعرابي: "ها أنا يا رسول الله" أنا السائل يعني.

"قال" النبي ﷺ: "«فإذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة»"

هنا النبي ﷺ لم يعطه وقتها؛ لأن وقتها لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، لكن بيّن له علامة من علاماتها، فقال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.

"قال" الأعرابي: "كيف إضاعتها؟ قال" ﷺ: "إذا وُسِد" يعني: إذا جعل الأمر المتعلق بالدين بالخلافة والقضاء والإفتاء ونحو ذلك...، "إلى غير أهله" أي: بولاية غير أهل الدين والأمانات، "فانتظر الساعة" أي: إذا كان الأمر كذلك فانتظر الساعة.

يعني كأنه يتحدث عن زماننا هذا الذي نحن فيه.

§ {C}قال ابن بطال: فيه أن الأئمة ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصح، وإذا قلدوا الأمر لغير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانات، وفيه أن الساعة لا تقوم حتى يؤتمن الخائن، وهذا إنما يكون إذا غلب الجهال وضعف أهل الحق عن القيام به ونصرته.

§ {C}قال الشراح: فيه أن من أدب المتعلم أن لا يسأل العالم ما دام مشتغلًا بحديث أو غيره؛ لأن من حق القوم الذين بدأ بحديثهم أن لا يقطعه عنهم حتى يتمه.

§ {C}ويؤخذ منه أنه ينبغي للعالم والقاضي ونحوهما رعاية تقدم الأسبق فالأسبق -في الإجابة يعني-

§ {C}وفيه الرفق بالمتعلم وإن جفا بسؤاله أو جهل؛ لأن النبي ﷺ لم يوبخه على سؤاله قبل كمال حديثه.

§ {C}وفيه تعليم السائل والمتعلم لقول النبي ﷺ: «أين السائل»؟ ثم أخبره عن الذي سأله عنه.

§ {C}وفيه مراجعة العالم إذا لم يفهم السائل –أي: إذا تكلم العالم أجاب في السؤال أو تكلم في الدرس ولم يفهم يراجع يسأل حتى يفهم، لقوله: "كيف إضاعتها؟" أراد أن يستفسر ويفهم.

§ {C}وقال ابن حبان: ذكر الخطر الدال على إباحة إعفاء المسؤول عن العلم عن إجابة السائل على الفور. انتهى، يعني لا يلزم المسؤول أن يجيب على الفور، وله أن يؤخر، لا يجب عليه أن يجيب السائل على الفور، ولا بأس بتأخيره، لكن هذا يقيد إذا لم يترتب على التأخير مفسدة كضياع فريضة مثلًا.

الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الرقاق مختصرًا، وهو مما انفرد به عن بقية الكتب الستة، وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه، والحديث رواه جمع عن فليح به.

مدار الحديث ومخرج الحديث هو فليح، وفليح ضعيف، هذا من غرائب فليح.

نظرت وبحثت فيمن انتقد هذا الحديث فلم أجد أحدًا من الحفاظ والأئمة انتقده أو ضعفه، وذلك والله أعلم لأسباب:

أحدها: أن فليحًا ليس شديد الضعف، حتى إن بعض أهل العلم يحتج به.

الثاني: أن الحديث معناه في الجملة صحيح، تقدم معنا لعلامة الساعة التي تقدمت سابقًا أن الحفاة الرُّعاة أو الرِّعاة يصيرون رؤوس الناس، هذا المعنى منه، وكذا حديث: لا تقوم الساعة حتى يؤتمن الخائن ويخون الأمين، وحديث حذيفة: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، هذه كلها تؤيد المعنى في الجملة.

السبب الثالث: أن الحديث ليس في الأحكام، ليس في الحلال والحرام.

بهذا يظهر لنا خطأ الشيخ الألباني رحمه الله في تضعيفه لهذا الحديث بهذه العلة الظاهرة التي لا تخفى على طلاب الحديث فضلًا عن حفاظهم.

قال الشيخ الألباني رحمه الله في الضعيفة في هذا الحديث: قال: (هو حديث ضعيف( ثم قال: (قلت: وهذا إسناد ضعيف تفرد به البخاري دون بقية الستة وسائر المشاهير)

طبعًا من المشاهير أحمد وابن حبان، وقد أخرجاه، وذكر الشيخ الألباني هذا، ذكر أنه أخرجه أحمد وابن حبان.

قال: (وعلته فليح بن سليمان فإنه وإن كان صدوقًا فهو كثير الخطأ كما صرح به أعرف الناس برجال البخاري ألا وهو الحافظ ابن حجر العسقلاني، وقد تقدم له قريبًا حديث آخر من أفراد البخاري برقم 6945 فراجعوا هناك تمام ما قيل في ترجمته) انتهى كلامه.

مع أن الشيخ نفسه قد صححه قديمًا سابقًا، صحح الحديث، ولكن على كل حال طبعًا واضح الأمر ظاهر جدًا، طلاب العلم مجرد أن تنظر فليح بن سليمان ضعيف انتهى الأمر.

إذًا لماذا لم يتكلم فيه الحفاظ؟ للأسباب التي ذكرنا، والله أعلم، وربما يكون لهم أسباب أخرى، على كل حال بما أن الحديث لم ينتقده أحد من الحفاظ إذًا فلا يجوز لأحد أن يضعف هذا الحديث خاصة لعلة ظاهرة كهذه، الأمر فيها واضح.

تضعيف أحاديث الصحيحين دون وجود من سبق إلى ذلك من الحفاظ يفتح باب شر عظيم، وقد حصل، يجرّئ أصحاب الأهواء والجهال على الصحيحين، وهذا ما حصل اليوم، فهذا باب يجب سده، وما فعله الشيخ زلة عالم لا يجوز لأحد متابعته عليها.

من احتج بالشيخ الألباني بهذا نجيبه، نقول له الشيخ الألباني بشر يخطئ ويصيب، وهذه زلة له، لا يجوز لأحد أن يتابعه عليها، وفتح هذا الباب فيه شر عظيم يعود على سنة النبي ﷺ، والله أعلم.

"باب: من رفع صوته بالعلم.

حَدَّثَنَا ‌أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا ‌أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ ‌أَبِي بِشْرٍ، عَنْ ‌يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ ‌عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا"

"باب: من رفع صوته بالعلم" أي: رفع صوته بكلام يدل على العلم ليسمعه البعيد ويُفهم عنه ويكون أعظم تأثيرًا، كما في الخطب والمواعظ.

"حدثنا أبو النعمان عالم بن الفضل" هو أبو النعمان، محمد بن الفضل، لقبه عالم ومشهور به، ثقة، تقدم.

"قال: حدثنا أبو عوانة" الوضاح اليشكري، ثقة، تقدم.

"عن أبي بشر" جعفر بن إلياس اليشكري، المعروف بابن أبي وحشية، الواسطي، البصري الأصل.

تابعي، ثقة، من أثبت الناس في سعيد بن جبير.

وكان شعبة يقول: لم يسمع أبو بشر من حبيب بن سالم.

وكان شعبة يضعف حديث أبي بشر عن مجاهد، وقال: لم يسمع منه شيء، في رواية عنه وقال: من صحيفة، وهذا الذي معنا ليس من هذه التي ذكرها.

مات سنة بضع وعشرين ومائة، روى له الجماعة.

"عن يوسف بن ماهك" هو ابن بَهزاد أو بُهزاد، بُهزاد ويقال بِهزاد، الفارسي، المكي، تابعي، ثقة، توفي سنة 113، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.

"عن عبد الله بن عمرو" هو ابن العاص رضي الله عنهما. تقدم.

"قال: تخلف عنا" أي: تأخر خلفنا "النبي ﷺ في سفرة سافرناها" من مكة إلى المدينة كما في صحيح مسلم "فأدركنا" النبي ﷺ، أي: لحق بنا "وقد أرهقتنا الصلاة" أي: أعجلتنا بضيق وقتها، والصلاة هي صلاة العصر كما في صحيح مسلم "ونحن نتوضأ" أي: وحالنا أننا نتوضأ، وفي صحيح مسلم: "حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر فتوضؤوا وهم عِجال" توضؤوا على عجلة بسرعة لأن الوقت قد ضاق "فجعلنا" أي: شرعنا "نمسح على أرجلنا" أي: من غير غسل.

"فنادى" "بأعلى صوته" وهذا الشاهد، نادى بأعلى صوته.

"«ويل»" هذه كلمة تقال، كلمة عذاب وهلاك "«ويل للأعقاب من النار»" أي: لأصحابها المقصرين في غسل الفرض.

الأعقاب: جمع عقب، وهو عظم مؤخر القدم، وهو أكبر عظامها، وعاقب كل شيء آخره، والمراد: كل عقب لم يعمها الماء.

"مرتين أو ثلاثًا" شك من ابن عمرو، "مرتين" يعني قالها النبي ﷺ "مرتين أو ثلاثًا"

مناسبة الحديث للترجمة واضح ظاهر في قوله: "فنادى بأعلى صوته" فرفع الصوت في العلم.

قال الشراح:

§ {C}استدل المصنف على جواز رفع الصوت بالعلم بقوله: فنادى بأعلى صوته، وإنما يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه لبعد أو كثرة جمع أو غير ذلك، ويلحق بذلك ما إذا كان في موعظة كما ثبت ذلك في حديث جابر: "كان النبي ﷺ إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته" الحديث أخرجه مسلم.

§ {C}وفي الحديث: التغليظ في الإنكار.

§ {C}استدل به أيضًا على مشروعية إعادة الحديث ليفهم.

§ {C}وفيه دليل على وجوب غسل الرجلين، ولا يجزئ المسح بالماء، وسيأتي في موضعه هذا إن شاء الله.

الحديث متفق عليه من طريق أبي عوانة به، فأخرجه مسلم، عن أبي يحيى الأعرج، عن عبد الله بن عمرو، وحديث: ويل للأعقاب من النار روي عن جمع من الصحابة، ذهب بعض أهل العلم إلى أنه حديث متواتر.

"بَابُ قَوْلِ الْمُحَدِّثِ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا

وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ: كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ.

وَقَالَ شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً.

وَقَالَ حُذَيْفَةُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ.

وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ.

وَقَالَ أَنَسٌ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ

حَدَّثَنَا ‌قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا ‌إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ ‌عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ‌ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي. قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ. ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ»"

"باب: قول المحدِّث" أي: راوي الحديث.

"حدثنا أو أخبرنا" هكذا النسخة التي بين يدي: حدثنا أو أخبرنا، وفي رواية من روايات الصحيح: "حدثنا وأخبرنا"، وفي أخرى: "حدثنا وأنبأنا وأخبرنا".

هذا من العلم الذي يحتاج إليه المحدث، لذلك ذكره الإمام البخاري رحمه الله هنا، معرفة الفرق بين الألفاظ المذكورة: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا.

من ناحية اللغة ومن ناحية الاصطلاح.

قال ابن حجر: (مراده هل هذه الألفاظ بمعنى واحد أم لا؟ وإيراده قول ابن عيينة دون غيره دال على أنه مختاره) يعني الذي يختاره من الأقوال هو ما ذكره عن ابن عيينة في أن البخاري يختار هذا؛ أن الألفاظ كلها بمعنى واحد حدثنا وأخبرنا وأنبأنا كلها بمعنى واحد، فإذا سمعت الحديث بإمكانك أن تنقله وتقول: حدثنا الذي سمعت منه، أو أخبرنا، أو أنبأنا ،كلها بمعنى واحد، والآثار التي ذكرها والأحاديث الإمام البخاري رحمه الله كلها ذكرها ليستدل بهذا، فهي جاءت أن الصحابة كانوا يتحدثون عن النبي ﷺ بهذه الألفاظ: حدثنا أو أخبرنا، دون تفريق، أو سمعت، كلها بنفس المعنى في استعمالهم، إذًا هي كلها بمعنى واحد عند الإمام البخاري وعند كثير من أهل العلم ذكروا هذا.

"وقال لنا الحميدي" قال ابن حجر: (في رواية كريمة والأصيلي: وقال لنا الحميدي، وكذا ذكره أبو نعيم في المستخرج، فهو متصل) انتهى.

الحميدي: هو أبو بكر عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي المكي، أحد شيوخ البخاري، فقيه، ثقة، تقدم معنا في أول حديث، أول رجل ذكره لنا الإمام البخاري رحمه الله.

"كان عند ابن عيينة" وسفيان بن عيينة فقيه من فقهاء أتباع التابعين، ثقة، أحد الأئمة، كان عنده، أي: كان مذهب ابن عيينة في هذا "حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحدًا" كلها عنده لا فرق بينها.

قال القسطلاني: (لا فرق بين هذه الألفاظ الأربعة عند المؤلف، كما يعطيه قوة تخصيصه بذكره عن شيخه الحميدي من غير ذكر ما يخالفه).

يعني يقول: الإمام البخاري يذهب إلى هذا، إلى أن هذه الألفاظ الأربعة كلها بمعنى واحد، كيف عرفت أن الإمام البخاري يذهب إلى هذا؟ قال: لأنه ذكر قول ابن عيينة دون أن يذكر قولًا يخالفه في ذلك، إذًا فهو اختياره، هذا معنى كلامه.

قال: (وهو مروي أيضًا عن مالك والحسن البصري ويحيى بن سعيد القطان ومعظم الكوفيين والحجازيين) انتهى.

قال القاضي عياض: (لا خلاف أنه يجوز في السماع من لفظ الشيخ أن يقول السامع فيه: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعته يقول، وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان) إلى آخره.

وقد ذكرنا المذاهب في هذه المسألة، والمسألة مستوعبة في كتب مصطلح الحديث، فلا تحتاج إلى كثرة كلام في هذا.

"وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق" قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه...» الحديث.

وصله البخاري في صحيحه، وسيأتي إن شاء الله، وأخرجه مسلم أيضًا.

نعطيكم طرف الحديث حتى تستطيعوا أن تصلوا إليه.

طرفه: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه...»

وهذا تقدم معكم في أحاديث الأربعين النووية صح؟ والمفروض كلكم ما شاء الله حافظينها ومعروف عندكم الحديث.

وقوله: «الصادق المصدوق»: هو وصف دائم للنبي ﷺ، الصادق في قوله وفعله، فهو يخبر بالحق والصدق.

المصدوق: أي الذي يخبره غيره بالصدق، فأخبره جبريل بالصدق، فصدقه فيما جاءه به من الوحي.

قال العلماء: الصادق: من صدق في قوله وتحراه في فعله، والمصدوق: من صدقه غيره أي صدقه جبريل فيما أخبره به، أو مصدق من عند الناس، كلمة مصدوق تحتمل هذا وهذا. انتهى كلامهم رحمهم الله.

"وقال شقيق" هو ابن سلمة، أبو وائل، ثقة، تقدم.

"عن عبد الله" هو ابن مسعود رضي الله عنه يقول عبد الله بن مسعود أيش؟ "سمعت"

الحديث الذي تقدم معنا حديث أبي هريرة، أما حديث ابن مسعود قال: سمعت.

حديث ابن مسعود الأول قال: حدثنا رسول الله، أما حديث ابن مسعود هذا قال: "سمعت النبي ﷺ" هل في فرق عند ابن مسعود بين حدثنا وسمعت؟ واحد، هذا المقصود.

سمعت، في رواية من روايات البخاري: "سمعت من النبي ﷺ كلمة"

قال رسول الله ﷺ كلمة، وقلت أخرى: من مات وهو يدعو من دون الله ندًا دخل النار... الحديث.

وصله البخاري، وهو حديث متفق عليه.

وقوله فيه: "سمعت" في بعض طرقه.

"وقال حذيفة" هو ابن اليمان، واسم اليمان: حسيل ويقال حسل العبسي، حليف الأنصار، صحابي جليل، من السابقين، من أعلم الصحابة في الفتن، وهو صاحب سر النبي ﷺ.

قال رضي الله عنه: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة.

وقال: أخبرني رسول الله ﷺ بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا وقد سألته إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة. أخرجه مسلم.

وقال أبو الدرداء لأهل الكوفة: أوليس فيكم صاحب سر النبي ﷺ الذي لا يعلمه أحد غيره؟

يعني حذيفة رضي الله عنه، فهو الذي أعلمه النبي ﷺ بأسماء الكثير من المنافقين، وأبوه صحابي، استشهد أبوه بأحد، ومات حذيفة في أول خلافة علي سنة ٣٦، روى له الجماعة.

ماذا قال هنا؟ قال: "حدثنا رسول الله ﷺ حديثين"

"رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال...»" الحديث، وصله البخاري، وسيأتي إن شاء الله، وهو حديث متفق عليه.

هنا حذيفة قال: "حدثنا رسول الله ﷺ" إذًا الصحابة كانوا يستعملون هذه الألفاظ ولا يفرقون بينها، هذا مراد البخاري رحمه الله.

يقولون فيما سمعوه من النبي ﷺ تارة حدثنا وتارة سمعت فدل على أنهم لم يفرقوا بين هذه الصيغ، والله أعلم.

"وقال أبو العالية" هو رُفيع بن مهران، الرياحي مولاهم، أسلم بعد موت النبي ﷺ بسنتين، تابعي مخضرم، ثقة، كثير الإرسال.

قال اللالكائي: مجمع على ثقته، مات سنة 90، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.

قال ابن حجر: (تنبيه: أبو العالية المذكور هنا هو الرياحي بالياء الأخيرة، واسمه رُفيع بضم الراء، من زعم أنه البرّاء بالراء الثقيلة فقد وهم، فإن الحديث المذكور معروف برواية الرياحي دونه) انتهى.

"عن ابن عباس عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه عز وجل قال: «لا ينبغي لعبد أن يقول إنه خير من يونس بن متى».

الشاهد هنا: "فيما يروي عن ربه" إذًا يروى بالعنعنة هنا، وربما أيضًا "عن ابن عباس عن النبي ﷺ" كذلك.

"وقال أنس: عن النبي ﷺ، فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: «إذا تقرب العبد إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا...» الحديث.

"وقال أبو هريرة: عن النبي ﷺ يرويه عن ربكم عز وجل قال: «لكل عمل كفارة، والصوم لي، وأنا أجزي به...» الحديث.

هذه الأحاديث الثلاثة -حديث ابن عباس وحديث أنس وحديث أبي هريرة في رواية النبي ﷺ عن ربه- قد وصلها في كتاب التوحيد الإمام البخاري رحمه الله الحديث رقم 7536 فما بعدها.

قال ابن حجر: (وأراد بذكرها هنا التنبيه على العنعنة وأن حكمها الوصل عند ثبوت اللقي، وأشار على ما ذكره ابن رُشيد -أو ابن رَشيد- إلى أن رواية النبي ﷺ إنما هي عن ربه سواء صرح الصحابي بذلك أم لا، ويدل له حديث ابن عباس المذكور فإنه لم يقل فيه في بعض المواضع "عن ربه" ولكنه اختصار يحتاج إلى تقدير) انتهى.

"حدثنا قتيبة" في رواية: ابن سعيد، هو أبو رجاء الثقفي، ثقة، تقدم.

كل رجال هذا السند تقدموا.

"إسماعيل بن جعفر" هو ابن كثير، ثقة.

"عبد الله بن دينار" العدوي مولاهم، ثقة.

"عن ابن عمر" ابن الخطاب رضي الله عنهما.

"قال: قال رسول الله ﷺ: «إن من الشجر»" يعني من جنس الشجر "شجرة لا يسقط ورقها" في جميع فصول السنة، فليست كبقية الشجر يسقط ورقه في بعض فصول السنة، هذه لا، لا يسقط ورقها.

"«وإنها مَثَل»" مَثَل أو مِثل المعنى واحد يعني شبه، تشبه "«المسلم»" هذه الشجرة الموصوفة بالوصف المذكور تشبه المسلم.

قال الجوهري: مَثله ومِثله كلمة تسوية، يعني تسوي الشجرة بالمسلم في هذا المثال الذي معنا، يعني تشبهه، كما يقال شِبهه وشَبهه بمعنى. انتهى.

"«فحدثوني»" هذا فعل أمر، أي: إن عرفتموها فحدثوني "«ما هي؟»" قال: "فوقع الناس في شجر البوادي" البوادي جمع بادية، أي: ذهبت أفكارهم وأفهامهم إلى أشجار البوادي، أشجار الصحارى والريف، وصار كل واحد منهم يفسرها بنوع من أنواع شجر البوادي، وذهلوا عن النخلة، ما أتوا بالنخلة.

"قال عبد الله" بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: "ووقع في نفسي أنها النخلة" أي خطر على بالي وظننت أنها النخلة "فاستحييت" أن أتكلم، لماذا استحيى؟ في رواية عند البخاري ستأتي إن شاء الله: "فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم فسكت" وفي رواية نافع: "ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم" فسكت هيبة منه وتوقيرًا واحترامًا لمن هم أكبر منه.

"ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: «هي النخلة»"

اختلف العلماء في وجه الشبه ما بين النخلة والمسلم، يبين ذلك رواية البخاري في كتاب الأطعمة من طريق الأعمش، قال: حدثني مجاهد، عن ابن عمر، قال: "بينا نحن عند النبي ﷺ إذ أتي بجُمَّار نخلة" -الذي هو لب النخلة– "فقال: إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم" الشبه في أيش؟ في البركة، بركة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعًا، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها، حتى النواة علف للدواب، والليف في الحبال، وغير ذلك مما لا يخفى على أهل زراعة هذه الشجرة، وكذلك بركة المسلم عامة في جميع أحواله، ونفعه مستمر له ولغيره بكثرة طاعته ومكارم أخلاقه ويواظب على صلاته وصيامه وقراءته وذكره والصدقة والصلة وسائر الطاعات، حتى بعد موته، كذا قال أهل العلم.

قال ابن حجر: وأما من قال إن وجه الشبه كون النخلة خلقت من فضل طينة آدم فلم يثبت الحديث بذلك. انتهى.

وقال: (فإن قيل: فمن أين تظهر نسبة حديث ابن عمر للترجمة؟ ومحصل الترجمة التسوية بين صيغ الأداء الصريحة) حدثنا وأخبرنا وسمعت وأنبأنا، كلها سواء، طيب أين هذا في حديث ابن عمر؟

قال: (وليس ذلك بظاهر في الحديث المذكور) لو نظرت إلى الحديث وحده هكذا ما في شيء يشير إلى هذا، قال: (فالجواب أن ذلك يستفاد من اختلاف ألفاظ الحديث المذكور) يعني بجمع طرق الحديث تظهر عندك اختلاف الألفاظ (ويظهر ذلك إذا اجتمعت طرقه، فإن لفظ رواية عبد الله بن دينار المذكور في الباب: «فحدثوني ما هي؟» وفي رواية نافع عند المؤلف في التفسير «أخبروني» وفي رواية عند الإسماعيلي «أنبئوني» وفي رواية مالك عند المصنف في باب الحياء في العلم «حدثوني ما هي» وقال فيها: "فقالوا: أخبرنا ما هي؟" فدل ذلك على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء) إذا استعملت كل هذا الألفاظ (وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى اللغة) من الناحية اللغوية لا إشكال، من الناحية الاصطلاحية عند أهل الحديث قال: (وأما بالنسبة للاصطلاح ففيه الخلاف، فمنهم من استمر على أصل اللغة) يعني مشى مع طريقة أهل اللغة أنه لا فرق بينها، وهو الذي تبناه الإمام البخاري رحمه الله. انتهى كلامه باختصار.

ذكر أيضًا منهم من غاير بين هذه الألفاظ، واختلفوا في طريقة المغايرة، التفصيل كله موجود في كتب المصطلح.

حديث ابن عمر هذا متفق عليه، طيب نأخذ الحديث الأخير.

"‌‌بَابُ طَرْحِ الْإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ

حَدَّثَنَا ‌خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا ‌سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا ‌عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ‌ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟» قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ. ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ»"

هذا الحديث، "باب: طرح" أي: إلقاء "الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم" أي: ليمتحن الذي عندهم "من العلم".

يعني هذا الحديث أصل في الامتحانات، نكثر من الامتحانات معناها، نعم.

بعض الطلبة الذين ما زالوا كانوا في بدء النشأة في طلب العلم كان ينكر الامتحانات، يقول هذه ليست من طريقة أهل العلم هذا غريب.

هذا النبي ﷺ يبين لك هذا.

كأنه استصعب موضوع الامتحانات أراد أن يتخلص منه.

"حدثنا خالد بن مخلد" القطواني، أبو الهيثم البجلي مولاهم ،الكوفي، يروي عن أتباع التابعين، صدوق له مناكير.

ومناكيره ذكرها ابن عدي في الكامل، وليس هذا الحديث منها، يعني محصورة معلومة، شيعي، مات فيما بين ٢١١ و٢١٥ ، روى له الجماعة سوى أبي داود روى له في مسند مالك.

قال ابن حجر في هدي الساري: (وأما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد ابن عدي من حديثه وأوردها في كامله، وليس فيها شيء مما أخرجه له البخاري، بل لم أرَ له عنده من أفراده سوى حديث واحد) يعني تفرد به (وهو حديث أبي هريرة: «من عادى لي وليًا...» الحديث) انتهى.

"حدثنا سليمان" هو ابن بلال، أبو محمد التميمي، ثقة، تقدم.

"حدثنا عبد الله بن دينار" العدوي مولاهم، ثقة، تقدم.

"عن ابن عمر" هو ابن الخطاب رضي الله عنهما، "عن النبي ﷺ" أنه "قال: «إن من الشجر شجرة»" زاد المؤلف في باب الفهم في العلم قال: "صحبت ابن عمر إلى المدينة، فقال: كنا عند النبي ﷺ فأتي بجُمّارٍ" لب النخلة قلب النخلة "فقال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها" هذا الذي جعل ابن عمر رضي الله عنه يعلم أنها النخلة من هنا، فإن سبب الحديث هو الذي جعله يفهم هذا قال: "«لا يسقط ورقها، وإنها مَثل»" ويقال مِثل "«المسلم، حدثوني ما هي؟» قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله" ابن عمر رضي الله عنهما: "فوقع في نفسي أنها النخلة" وفي صحيح أبي عوانة قال: "فظننت أنها النخلة من أجل الجمار الذي أتي به.

زاد في رواية أبي ذر وغيره: "فاستحييت" "ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: «هي النخلة»"

وفي رواية متفق عليها قال عبد الله: "فحدثت أبي بما وقع في نفسي" عبد الله بن عمر يقول: حدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: "لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا"

قال الشراح: (وفائدة إعادته لهذا الحديث) الإمام البخاري رحمه الله أعاد هذا الحديث حديث ابن عمر - قالوا: (اختلاف السند المؤذن) يعني المعلم (بتعداد مشايخه، واتساع روايته، مع استفادة الحكم المترتب عليه المقتضي لدقة نظره في تصرفه بتراجم أبوابه، والله الموفق والمعين)

قال العلماء: وفي هذا الحديث فوائد، منها:

§ {C}استحباب إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليختبر أفهامهم ويرغبهم في الفكر والاعتناء.

جيد هذا أيضًا إعطاء الواجبات كويس.

§ {C}وفيه: ضرب الأمثال والأشباه.

§ {C}وفيه: توفير الكبار كما فعل ابن عمر، لكن إذا لم يعرف الكبار المسألة فينبغي للصغير الذي يعرفها أن يقولها.

§ {C}وفيه: سرور الإنسان بنجابة ولده وحسن فهمه. عمر لابن عمر، وقول عمر رضي الله عنه: لأن تكون قلت هي النخلة أحب إلي أراد بذلك أن النبي ﷺ كان يدعو لابنه، لذلك أحب عمر أن يكون هذا، ويعلم حسن فهمه ونجابته.

§ {C}وفيه فضل النخلة. انتهى.

الحديث متفق عليه من حديث مجاهد ونافع وعبد الله بن دينار كلهم عن ابن عمر رضي الله عنه، والله أعلم، والحمد لله، نكتفي بهذا القدر.