تفسير سورة يونس (24-30)

تفسير سورة يونس (24-30)

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}.

هذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى لسرعة زوال هذه الحياة الدنيا وزينتها وأموالها، بسرعة زوال نبات الأرض وخضرتِها وحلاوتها الذي نبت بالمطر.

فاعتبروا واحذروا ولا تنخدعوا بالدنيا وزينتها عن طاعة الله؛ فالدنيا وزينتها وما تتفاخرون به فيها وما تحبونه من شهواتها وملذاتها سريع الزوال، وطاعة الله باقية.

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في سرعة فنائها وزوالها {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} أي من السحاب، وهو المطر {فَاخْتَلَطَ بِهِ} أي: بالمطر {نَبَاتُ الْأَرْضِ} أي: نبت فيها من كل صنف {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} من الحبوب والثمار {وَالْأَنْعَامُ} من الحشيش {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} حُسْنَها وبهجتها، وظهر خضارها وجمالها {وَازَّيَّنَتْ} أي: تزينت وتجملت بِالزَّهْرِ {وَظَنَّ أَهْلُهَا} أي أهل الأرض {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} قادرون على قطافها وحصادها والحصول على ثمارها، وبينما هم على تلك الحال {أَتَاهَا أَمْرُنَا} أتاها قضاؤنا بإهلاك ما عليها من نبات، إما {لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} وإما نهاراً {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} أي: محصودة مقطوعة لا شيء فيها {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} كأن لم تكن عامرةً مخضرةً بالأمس.

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ} أي: نبين ونوضح {الْآيَاتِ} الحجج والبراهين {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيعتبرون.

{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}

قال ابن كثير: "لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الدنيا وسرعة زَوَالِهَا، رَغَّبَ فِي الْجَنَّةِ وَدَعَا إِلَيْهَا وَسَمَّاهَا دَارَ السَّلَامِ، أَيْ مِنَ الْآفَاتِ، وَالنَّقَائِصِ وَالنَّكَبَاتِ".

{وَاللَّهُ يَدْعُو} المكلفين من الإنس والجن {إِلَى دَارِ السَّلَامِ} إلى الجنة، بدعوتهم إلى طاعته وطاعة رُسُله {وَيَهْدِي} يوفق {مَنْ يَشَاءُ} من عباده {إِلَى صِرَاطٍ} طريق {مُسْتَقِيمٍ} لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام.

{لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةٞۖ وَلَا يَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرٞ وَلَا ذِلَّةٌۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٦}

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} وهم الذين آمنوا بالله وأطاعوه، الذين أحسنوا عبادة الله في الدنيا، فأطاعوه فيما أمر ونهى {ٱلۡحُسۡنَىٰ} وهي الجنة {وَزِيَادَةٞۖ} النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، وصح عن جمع من السلف رضي الله عنهم.

ففيه إثبات رؤية الله في الجنة، وإثبات صفة الوجه لله تبارك وتعالى، وهما عقيدة أهل السنة والجماعة، خلافاً لأهل البدع من فرق الضلالة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال: {وَلا يَرْهَقُ} ولا يغشى {وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} غبار {وَلا ذِلَّةٌ} ولا يغشاها هوان ولا خزي.

قال السعدي: أي: لا ينالهم مكروه، بوجه من الوجوه؛ لأن المكروه، إذا وقع بالإنسان، تبين ذلك في وجهه، وتغير وتكدر.

وأما هؤلاء - فهم كما قال الله عنهم - {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم} {أُولَئِكَ} الموصوفون بهذه الصفات {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} سكانها وأهلها الملازمون لها {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ماكثون أبداً، لا يخرجون منها، ولا يموتون ولا يفنون، فلا ينقطع نعيمهم.

قال الطبري: هم فيها ماكثون أبداً، لا تبيد فيخافوا زوال نعيمِهم، ولا هم بمخرجين فتتنغَّصُ عليهم لذاتُهم.

{وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةِۭ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖۖ كَأَنَّمَآ أُغۡشِيَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مُظۡلِمًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧}

{وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ} عملوا {ٱلسَّيِّـَٔاتِ} الكفرَ والمعاصي في الدنيا {جَزَآءُ سَيِّئَةِۭ بِمِثۡلِهَا} لهم جزاء السيئة التي عملوها في الدنيا؛ بمثلها من عقاب الله في الآخرة.

{وَتَرْهَقُهُمْ} أي: تغشاهم {ذِلَّةٌ} وهوان {مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖ} لا يدفع أحدٌ عنهم عذابَ الله إذا نزل بهم، ولا يعصمهم منه عاصم {كَأَنَّمَآ أُغۡشِيَتۡ} أَلُبِسَتْ {وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا} أي جزءًا {مِّنَ ٱلَّيۡلِ مُظۡلِمًاۚ} فتصير وجوههم سوداءَ كقطع الليل، قال السعدي: فتسري تلك الذِّلة الباطنة إلى ظاهرهم، فتكون سوادًا في الوجوه.

{أُولَئِكَ} الموصوفون بهذه الصفات {أَصْحَابُ النَّارِ} سكانها وأهلها الملازمون لها {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ماكثون أبداً، لا يخرجون منها، ولا يموتون ولا يفنون، فلا ينقطع عنهم عذابها.

فكم بين الفريقين من الفرق، ويا بعد ما بينهما من التفاوت؟!

{وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَآؤُكُمۡۚ فَزَيَّلۡنَا بَيۡنَهُمۡۖ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِيَّانَا تَعۡبُدُونَ ٢٨}

{وَ} اذكر {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} أي نحشر الخلق {جَمِيعًا} أي: نجمع جميع الخلق، لميعاد يومٍ معلوم يومِ الحساب، ونُحضِر المشركين، وما كانوا يعبدون من دون الله.

{ثُمَّ نَقُولُ} حينئذ {لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} بالله فعبدوا معه غيره من الآلهة والأوثان وغيرهم {مَكَانَكُمْ} امكثوا مكانَكم، وقِفوا في موضعكم {أَنْتُمْ} أيها المشركون {وَشُرَكَاؤُكُمْ} الذين كنتم تعبدونهم مع الله في الدنيا، أي: الزموا مكانكم أنتم وهم؛ ليقع التحاكم والفصل بينكم وبينهم.

{فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي: ففرقنا بين المشركين بالله، وبين آلهتهم التي كانوا يعبدونها، قال السعدي: "بالبعد البدني والقلبي، وحصلت بينهم العداوة الشديدة، بعد أن بذلوا لهم في الدنيا خالص المحبة، فانقلبت تلك المحبةُ والوَلايةً بغضًا وعداوة".

{وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم} وتبرأ شُرَكَاؤُهُمْ منهم فقالوا: {مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} فإننا ننزه الله أن يكون له شريك، أو نديد.

{فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَٰفِلِينَ ٢٩}

المشركون قالوا كنا نعبدهم، وشركاؤهم أنكروا ذلك، وقال شركاؤهم: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي: فكفى الله سبحانه وتعالى شهيدًا وحكمًا {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} لا نشعر بها ولا نعلم، فما أمرناكم بها، ولا دعوناكم لذلك ولا رضينا بها.

قال مجاهد: يقول ذلك كل شيء كان يعبد من دون الله.

قال ابن كثير: "{إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} أَيْ: مَا كُنَّا نَشْعُرُ بِهَا وَلَا نَعْلَمُ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَنَا مِنْ حَيْثُ لَا نَدْرِي بِكُمْ، وَاللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنَّا مَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا، وَلَا أَمَرْنَاكُمْ بِهَا، وَلَا رَضِينَا مِنْكُمْ بِذَلِكَ.

وَفِي هَذَا تَبْكِيتٌ عَظِيمٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، مِمَّنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبَصِّرُ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ وَلَا رَضِيَ بِهِ وَلَا أَرَادَهُ، بَلْ تَبْرَأُ مِنْهُمْ فِي وَقْتٍ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَرَكُوا عِبَادَةَ الْحَيِّ الْقَيُّومِ، السَّمِيعِ الْبَصِيرِ، الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ". انتهى

{هُنَالِكَ تَبۡلُواْ كُلُّ نَفۡسٖ مَّآ أَسۡلَفَتۡۚ وَرُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّۖ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٣٠}

{هُنَالِكَ} أي: في ذلك اليوم، وفي ذلك الموقف العظيم {تَبْلُوا} تُختبَر {كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} تختبر كلُّ نفسٍ بما قدمت من عمل في الدنيا، من خير أو شر {وَرُدُّوٓاْ} وأُرجع المشركون {إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ} الذي هو ربهم ومالكهم {ٱلۡحَقِّۖ} لا شك فيه، دون ما سواه مما كانوا يعبدون في الدنيا {وَضَلَّ عَنۡهُم} وغاب عنهم وبطل {مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} ما كانوا يكذبون من قولهم بصحة ما هم عليه من الشرك، وأن ما يعبدون من دون الله تنفعهم وتقربهم إلى الله زلفى، وتدفع عنهم العذاب.