تفسير سورة يونس 31-36

تفسير سورة يونس 31-36
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31)}

قال ابن كثير: "يَحْتَجُّ تَعَالَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِاعْتِرَافِهِمْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ عَلَى وَحْدَانِيته الإلهية". انتهى

يعني كأن الله تبارك وتعالى يقول لهم كما تقرون وتعترفون وتؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق وحده، فيلزم عليكم بإقراركم بربوبيته أن تقروا وتؤمنوا بأنه هو الذي يستحق العبادة وحده، ولا يستحقها غيره ممن لا يخلق ولا يرزق.

فقال: {قُلْ} يا محمد للمشركين بالله {مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} من جهة السماء {وَالْأَرْضِ} أَيْ: يرزقكم مِن جهة السَّمَاءِ بإنزال الْمَطَرِ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} أَيْ: ومن يملك سمعَكم وبصرَكم، وسمعَ وبصرَ غيرِكم مِن خلقه؟ ومَن رزقَكُم السمع والبصر؟ {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كإخراج الإنسان وغيره من النطفة، والطير وغيره من البيضة {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} كالإنسان وغيره من النطفة، والبيضة من الطير وغيره {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أي يدبر أمر الخلق كلهم بالإحياء والإماتة وتوسيع الرزق وتضييقه وإنزال المطر بقدر والصحة والمرض والعطاء والمنع وغير ذلك، كل ذلك بحكمة، قال أهل العلم: هذا السؤال أعم من كل من الأربعة قبله، فهو من ذكر العام بعد الخاص {فَسَيَقُولُونَ} فسيجيب المشركون، ويقولون: {اللَّهُ} هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ {فَقُلْ} لهم يا رسول الله {أَفَلَا تَتَّقُونَ} أَفَلَا تَخَافُونَ عِقَابَهُ على شرككم ومخالفة أمره؟

قال الطبري: يقول: "أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم ربًّا غيرَ مَن هذه الصفة صفتُه، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئًا، ولا يملك لكم ضرًا ولا نفعا، ولا يفعل فعلا". انتهى

{فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)}

{فَذَلِكُمُ} فهذا الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هُوَ {اللَّهُ رَبُّكُمُ} خالقكم ومدبر أمركم الذي يستحق أن تعبدوه وحده {الْحَقُّ} الذي لا شك فيه {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} فأي شيء سوى الحق إلا الضلال، والضلال الانحراف عن الطريق المستقيم {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أَيْ: فكيف تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ بِهِ.
قال الطبري رحمه الله: "فأيّ وجه عن الهدى والحق تُصرفون، وسواهما تسلكون، وأنتم مقرُّون بأن الذي تُصْرَفون عنه هو الحق؟

{كَذلِكَ ‌حَقَّتْ ‌كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)}

{كَذَلِكَ} كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم {حَقَّتْ} وَجَبَتْ {كَلِمَةُ رَبِّكَ} حُكْمُهُ القدري السَّابِقُ، قال الطبري: وجب عليهم قضاؤه وحكمه في السابق من علمه {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} كَفَرُوا، وخرجوا عن طاعة الله {أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} بوحدانية الله ولا بنبوة نبيه صلى الله عليه وسلم.

﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤)﴾

يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ} يا محمد للمشركين {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} من أوثانكم ومعبوداتكم التي تعبدونها مع الله {مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} يُوجِد الْخَلْقَ من العدم، يوجده ابتداء من غير مثال سابق، ثم يُفنيه {ثُمَّ يُعِيدُهُ} كما كان بعد أن أفناه، فإن أجابوك فسيقرون بأنها لا تقدر على ذلك؛ فلا يمكنهم دعوى ذلك لها، فـ {قُلْ} أَنْتَ لهم عندها {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} فيوجده من العدم، ويحدثه من غير أصل، ثم يُفنيه إذا شاء {ثُمَّ يُعِيدُهُ} كما خلقه قبل أن يُفنيه إذا شاء {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْ: فكيف تصرفون عن عبادة الله وحده لا شريك له، خالقِ كلِّ شيء، والذي يعيد الخلق بعد موتهم، وتعبدون غيرَه مما لا يخلق ولا يقدر على إعادة الخلق؟!

فالذي يستحق أن يعبد هو الخالق القادر على ذلك وحده سبحانه.

قال الشنقيطي:" ألقم الله تعالى المشركين في هذه الآيات حجرًا، بأن الشركاء التي يعبدونها من دونه لا قدرة لها على فعل شيء، وأنه هو وحده جل وعلا الذي يبدأُ الخلق، ثم يعيده بالإحياء مرة أخرى، وأنه يهدي من يشاء".

وقال: والآيات في مثل ذلك كثيرة، ومعلوم أن تسوية ما لا يضر ولا ينفع ولا يقدر على شيء، مع من بيده الخير كله المتصرف بكل ما شاء، لا تَصدرُ إلا ممن لا عقل له، كما قال تعالى عن أصحاب ذلك: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.

﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ‌أَمَّنْ ‌لَا ‌يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)﴾

و{قُلْ} لهم يا محمد {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} الذين تعبدونهم من دون الله {مَنْ يَهْدِي} يُرشِد ويوفق {إِلَى الْحَقِّ} أي يبين طريق الحق بالأدلة والبراهين، ويوفق لاتباعه وسلوكه، فَإِذَا قَالُوا: لَا، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ {قُلِ} أنت {اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} أَيْ: إِلَى الْحَقِّ {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي} لا يَهْتَدِي {إِلا أَنْ يُهْدَى} أن يهديه غيره، فهو بحاجة إلى غيره، ولا يقدر على نفع غيره بذلك.

مَعْنَى الْآيَةِ: اللَّهُ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ أَمِ الصَّنَمُ وما هو مثله مما تعبدون، الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَّا أَنْ يهديه غيره.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قال: {إِلَّا أَنْ يُهْدَى} وَمن معبوداتهم الأصنام، والصنم لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَهْتَدِيَ، وَلَا أَنْ يُهْدَى؟ قِيلَ: مَعْنَى الْهِدَايَةِ فِي حَقِّ الْأَصْنَامِ الِانْتِقَالُ، أَيْ: أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ إِلَّا أَنْ تُحمَل وتنقل، بيّنَ بِهِ عَجْزَ الْأَصْنَامِ. كذا قال بعض أهل العلم.

{فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} قال السعدي: أي: أيّ شيء جعلكم تحكمون هذا الحكم الباطل، بصحة عبادة أحد مع الله، بعد ظهور الحجة والبرهان، أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده.

فإذا تبين أنه ليس في آلهتهم التي يعبدون مع الله أوصافا معنوية، ولا أوصافا فعلية، تقتضي أن تعبد مع الله، بل هي متصفة بالنقائص الموجبة لبطلان إلهيتِها، فلأي شيء جُعلت مع الله آلهة؟

فالجواب: أن هذا من تزيين الشيطان للإنسان، أقبحَ البهتان، وأضلَّ الضلال، حتى اعتقد ذلك وألفه، وظنه حقًا، وهو لا شيء.

﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} يعني المشركين {إِلَّا ظَنًّا} أي أوهاماً وخيالات مِنْهُمْ، من غير أدلة ولا براهين، يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَصْنَامَ آلِهَةٌ، وَإِنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ، لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ، وَأَرَادَ بِالْأَكْثَرِ جَمِيعَ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ {إِنَّ الظَّنَّ} كظنهم هذا، وهو الظن الذي لا يبنى على دليل، بل هو خيال وأوهام {لَا يُغْنِي} لا ينفع {مِنَ الْحَقِّ} الثابت بالأدلة والبراهين الصحيحة التي لا شك فيها {شَيْئًا} فلا يقوم مقامه، ولا ينفع صاحبه شيئاً.

قال ابن كثير: "ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ فِي دِينِهِمْ هَذَا دَلِيلًا وَلَا بُرْهَانًا، وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ مِنْهُمْ، أَيْ تَوَهُّمٌ وَتَخَيُّلٌ، وَذَلِكَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا".

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وسيجازيهم عليه.

قال ابن كثير: "تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُجَازِيهِمْ على ذلك أتم الجزاء".