الثلاثاء 3 جمادة الاخرة 1446 هـ
03 ديسمبر 2024 م
جديد الموقع   تفسير القرآن: تفسير سورة يونس 93- 109 آخر السورة   تفسير القرآن: تفسير سورة يونس 71-92   تفسير القرآن: تفسير سورة يونس 62-70   تفسير القرآن: تفسير سورة يونس 53-61   تفسير القرآن: تفسير سورة يونس 37-52   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-78 آخر كتاب التيمم، الحديث 345و346و347و348   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-77 كتاب التيمم، الحديث 344   الصوتيات: شرح العقيدة الشامية-12   الصوتيات: شرح العقيدة الشامية-11   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-76 كتاب التيمم، الحديث 338و339و340و341و342و343      

شرح صحيح البخاري-1 المقدمة

الدرس الأول: بتاريخ: 30/10/1444ه – 20/05/2023

الحمد لله الذي من علينا وتفضل بأن وصلنا إلى هذا المستوى وإلى هذه المرحلة من مراحل التعلم، بعد أن انتهينا بفضله تبارك وتعالى من برنامج التأصيل العلمي، نبدأ اليوم بحول الله وقوته بمرحلة جديدة من مرحلة التعلم، فمن أنهى معنا دروس التأصيل يكون قد بنى القواعد والأساسات التي تمكنه من فهم ما سيأتي من معلومات بإذن الله تعالى.

هذه المرحلة هي مرحلة دراسة كتب السنة.

العلم يبدأ بأصوله، وتلك الأصول التي درستموها هي مرحلة تخدم هذه المرحلة وتعين الطالب على فهمها واستيعابها، والغاية من دراستنا هي فهم كتاب الله وسنة رسول الله ، أما القرآن قد عقدنا له دروسًا في التفسير -نسأل الله أن ينفع بها- والآن نبدأ في كتب السنة نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم وأن يتقبل منا، وأن ينفعنا بهذه المجالس.

وكما هو معلوم فإن أصح كتاب بعد كتاب الله هو صحيح البخاري، وهذا أمر عليه أكثر أهل العلم، والخلاف فيه قليل، ولذلك سنبدأ بإذن الله تعالى بصحيح البخاري.

اليوم معنا مقدمة بين يدي دروس هذا الكتاب، فائدة هذه المقدمة:

1- إزالة بعض الشبه حول السنة، وحول صحيح البخاري، لكنني لن أذكر الشبهة، شبه ساذجة ضعيفة، لا تستحق حتى الذكر، ولكن من درس هذه المقدمة وعلمها، وعلم المعلومات التي فيها، سيعرف كيف يرد هذه الشبه إذا طرأت عليه.

2- الفائدة الثانية من هذه المقدمة: هي فهم الرموز الموجودة في نسخ البخاري التي بين أيدينا. إذا فتحت صحيح، البخاري تجد رموزًا في هوامشه، هذه الرموز تذكر فروقا في النسخ، فهذه المقدمة تعينك على فهم هذه الرموز، وكيف جاءت

3- الفائدة الثالثة: تصل سلسلة اتصال الأحاديث إلينا، تصلها بعضها ببعض، كيف وصلنا صحيح البخاري؟ هذه الأحاديث التي فيه ما هي أسانيدها؟

بداية أقول: السنة وحي من الله، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى﴾ وهي بيان لكتاب الله، قال تبارك وتعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ فهذه السنة فيها بيان للكتاب، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني، أصلي) وقال: (خذوا عني مناسككم).

ولما بدرت بادرة شبهة الاستغناء عن السنة عرض بعضهم هذه الشبهة على مسامع أحد أصحاب النبي فاحتج عليه الصحابي بماذا؟ قال له: أين تجد في كتاب الله صلاة الظهر أربع ركعات، والعصر أربعًا. والمغرب ثلاثًا، وهكذا... أشار في جوابه هذا إلى أن السنة مبينة للكتاب، ولا يمكنك الاستغناء عنها بالكتاب، فلا يغني الكتاب عن السنة، ولا السنة عن الكتاب، فهما وحي الله وهما دينه.

لذلك أجمع علماء الإسلام على كفر من أنكر السنة، لأن من أنكر السنة هدم الدين، انتهى. كيف سيصلي؟ كيف سيصوم؟ كيف سيزكي؟ كيف سيحج؟ إلى آخره... ليس عنده شيء، إذا لم يأخذ بالسنة، فهو هدم الدين. فالسنة بيان للكتاب.

جاء أثر عن أحد السلف رضي الله عنهم وهو مطرف بن عبد الله بن الشخير، يقول أيوب بن أبي تميمة السختياني: "جاء رجل إلى مطرف، فقال: لا تحدثونا إلا بما في القرآن" شفتوا! الشبهة قديمة، "لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال له مطرف: إنا والله ما نريد بالقرآن بدلًا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا" من يفسر لنا القرآن؟ هي السنة.

لكن انظر إلى جواب أئمة السلف رضي الله عنهم وطريقتهم، ما أفهم السامع تزهيدًا بالقرآن ولا قدر أنملة، لا، عرّفه المكانة للقرآن عندنا في نفوسنا. لكن بيّن له مع ذلك أننا بحاجة إلى السنة كي نفهم القرآن، وهذا من تعظيم القرآن أيضًا.

وقال حسان بن عطية: "كان جبريل ينزل على النبي بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن" وحي كله من الله سبحانه وتعالى.

وعن الأوزاعي قال: قال أيوب السختياني: "إذا حدثت الرجل بالسنة فقال دعنا من هذا، وحدثنا من القرآن، فاعلم أنه ضال مضل" هذه آثار سلفية تبين لك منزلة السنة عند القوم.

وأمر النبي بالأخذ بالسنة، وجاء هذا في كتاب الله آمرًا أيضًا ربنا بذلك، فقال تبارك وتعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ وقال: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم﴾ وقال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني خذوا عني) و (عليكم بسنتي) إلى آخر ذلك...، هذا للتذكير ولا الأصل أنكم قد درستم هذا كله فيما تقدم.

وحذر النبي من مخالفتها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) هذا تحذير من مثل هذا.

وقال المقدام بن معد كرب عن رسول الله أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) وهي السنة.

(ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) هذا التحذير من النبي من أمثال هؤلاء الذين كثروا في هذا الزمن، وما مرادهم تعظيم الكتاب، وإنما مرادهم الطعن في السنة، والقضاء على دين الله. فمن يذكر مثل هذا فاعلم أن النبي قد حذّر منه قبل أكثر من 1400 سنة.

وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾

وقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) كيف سنتمسك بالسنة إذا تركنا السنة؟ هذه منزلة السنة، ومكانتها في شرع الله سبحانه وتعالى.

وقد أمر النبي بتبليغها، قال: (فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع) وقال: (بلغوا عني ولو آية) وقال: (نّضر الله امرأ سمع منا حديثًا، فحفظه حتى يبلّغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه، ليس بفقيه) وقال لوفد عبد القيس: (احفظوه وأخبروه من ورائكم) وقال لمالك بن الحويرث: (ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومورهم) هذا كله أمر بالبلاغ عنه ، فمن هنا حرصت هذه الأمة على حفظ السنة، وتبليغها.

فكيف بدأت رواية الحديث؟

بدأ الأمر من عهد الصحابة رضي الله عنهم.

فهمك لهذا التسلسل ومعرفتك له يزيل عنك الكثير من الشبهات.

بدأ الأمر من عهد الصحابة رضي الله عنهم في تلقي السنة وحفظها، فمنهم من كان متفرغًا لحفظها لا يعمل في أمور الدنيا، إنما عمله حفظ سنة النبي عنه، ومنهم من كان يجمع بين العلم والعمل طلبًا للرزق، ومنهم من كان يحفظ، ومنهم من كان يحفظ ويكتب ممن كان متفرغا، ويحفظ ولا يكتب أبو هريرة رضي الله عنه.

هناك شبهات دارت قديمة، وسمعها أبو هريرة، فكان الرد منه أغنانا عن كل قول بعد ذلك فيها، قال: "يقولون: إن أبا هريرة قد أكثر" يعني أكثر من الحديث عن النبي "والله الموعد" يعني لقاؤنا عند الله سبحانه وتعالى وموعدنا عند الله للحساب "على ما يقولون. وعلى ما أحدث به". فهو تخويف لهم، وبيان أنه يتقي الله سبحانه وتعالى، ويخاف هذا اليوم، فلا يكذب على الله سبحانه وتعالى، ولا على رسوله "ويقولون ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه؟" لماذا هو الذي يكثر ويجيب أحاديث لا يحدث بها المهاجرون ولا الأنصار؟ "وسأخبركم عن ذلك" الكلام له رضي الله عنه "إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم، وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق" يعني الخروج إلى التجارة "وكنت ألزم رسول الله على ملء بطني" يعني يلزم النبي على ما يجده من أن يأكل ويقيت نفسه بس "فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا" "فأشهد إذا غابوا" لأنهم في عملهم وهو متفرغ "وأحفظ اذا نسوا" لأنه يحفظ عن النبي بجلوسه معه بشكل مستمر "ولقد قال رسول الله يومًا: (أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لم ينسَ شيئا سمعه) فبسطت بردة علي حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدري، فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئًا حدثني به، ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئًا أبدًا ﴿إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى﴾ إلى آخر الآيتين من سورة البقرة" هذا أبو هريرة رضي الله عنه بيّن لكم السبب الذي جعله يكثر من الأحاديث، ويروي ما لم يروِ غيره. فأزال الشبه وبيّن الأمر جزاه الله خيرًا.

وممن كان يكتب ويحفظ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب" فإنه كان يكتب ولا أكتب.

وممن كان يجمع بين حفظ السنة والعمل طلبًا للرزق: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول عمر: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية ابن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك" فهذا عمر رضي الله عنه جمع بين طلب العلم وطلب الرزق.

هكذا كان أصحاب النبي يحرصون على الحفظ، على تعلم سنة النبي بهذه الطريقة، وكان غالبهم يحفظ، والكتابة قليلة كما سيأتي إن شاء الله.

ثم بعد حفظهم وتحملهم لسنة النبي بلّغوا كما أمرهم الله تبارك وتعالى، وكما أمرهم النبي ، وقد تقدم قول أبي هريرة رضي الله عنه: "لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت" فكان هو يبلغ، ويخشى من كتمان العلم، وكذلك فعل أصحاب النبي ، وأحاديثهم كثيرة مبثوثة، تدل على قيامهم بهذا الواجب، كما أُمروا.

متى بدأ التأليف؟ في بداية الأمر كان النبي قد نهى عن الكتابة عنه.

اختلف العلماء في سبب هذا النهي؛ ولكن أصح الأقوال في ذلك أن هذا النهي كان خشية أن تختلط السنة بالكتاب، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).

ثم أذن عليه الصلاة والسلام في الكتابة عنه، وقال: (اكتبوا لأبي شاه) فأمر بالكتابة هنا، وكان عبد الله بن عمرو يكتب، وبإذن النبي كما تقدم قول أبي هريرة رضي الله عنه، وعن عبد الله بن عمرو قال: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله ، بشر يتكلم في الغضب والرضا" ينكرون عليه هذا، قال: "فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله ، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق)" وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: "قلت لعلي رضي الله عنه هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يُقتل مسلم بكافر" هذا كان مكتوبًا في صحيفة، وهمَّ عليه الصلاة والسلام بالكتابة لهم في آخر حياته، فكان أكثر اعتماد الصحابة رضي الله عنهم على الحفظ، لا على الكتابة:

- لأنهم بداية نهوا عن الكتابة.

- ولأن من يعرف الكتابة فيهم قليل.

- ولأن حفظهم كان قويًا بحيث يغنيهم عن الكتابة.

هذا كان الحال في عهد الصحابة رضي الله عنهم، وفي عهد التابعين كثرت الكتابة، فصار بعد ذلك المحدثون يعتمدون على كلا الأمرين، فيجمعون بين حفظ الصدر وحفظ الكتاب، فمنهم من يكتب، ومنهم من لا يكتب، عامر الشعبي مثلًا من أئمة التابعين، قال: "ما كتبت سوداء في بيضاء" ما كان يكتب، لكن كان يحفظ حفظ عجبًا، حتى قال بعض حفاظ ذاك الزمان ما أذكر هو نفسه، ما أدري هو عامر أو غيره، قال: كلما مر بأغنية أحدهم يغني، يغلق أذنيه بأصبعيه، خشية أن تعلق الأغنية في ذهنه.

وسيأتي معنا في تراجم بعض الحفاظ أنه كان إذا قرأ الكتاب أو الصفحة حفظها بس من مرة واحد، سيأتي، ومر معكم أيضًا ما ذُكر عن الإمام البخاري رحمه الله من حفظه للخطأ الذي ذكروه له من مرة واحدة، حتى صار الحفاظ يعجبون من حفظه، حفاظ! مش نحن، هذا موجود، وهكذا كانوا قديمًا، فأنت عندما تأتي وتتكلم عن هؤلاء الأئمة، لا تقس هؤلاء الجهابذة على نفسك، فالحفظ يضعف، ويقل كذلك العلم والدين، كل هذه الأمور، فلما تفهم تلك العصور وتعرف حالهم، عندئذ تكلم.

وصلنا إلى التابعين، وقلنا المحدثون بعد هذا كانوا يعتمدون على الحفظ؛ حفظ الصدر، وحفظ الكتاب، فمنهم من يكتب، ومنهم من لا يكتب، ومنهم من يجمع بين الحفظ والكتابة، وكثرت الكتابة فيهم.

قال ابن الأثير: "وكان اعتمادهم أولًا على الحفظ والضبط في القلوب والخواطر، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه" الاهتمام ليس فيما يكتب، الكتابة كانت زيادة توثيق. قال: "ولا معوِّلين على ما يسطرونه محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله عز وجل" هكذا كانوا يحفظون السنة "فلما انتشر الإسلام واتسعت البلاد، وتفرقت الصحابة في الأقطار، وكثرت الفتوح، ومات معظم الصحابة، وتفرق أصحابهم وأتباعهم، وقلَّ الضبط" شوف هنا إيش يقول "وقلَّ الضبط" ضعف الحفظ، قال: "احتاج العلماء إلى تدوين الحديث، وتقييده بالكتابة، ولعمري إنه الأصل، فإن الخاطر يغفل، والذهن يغيب، والذكر يهمل، والقلم يحفظ، ولا ينسى" انتهى كلامه.

فكان المحدثون بعد ذلك يعتمدون على الحفظ والكتابة معًا لزيادة التوثيق والتثبت، وبدؤوا بجمع الأحاديث في كتبٍ في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر ابن حزم: "انظر ما كان في حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي ، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا"

هكذا بدأ التصنيف، وكثرت المصنفات في السنة، من سننٍ ومسانيدَ وجوامع في عهد التابعين ومن بعدهم.

حتى جاء الإمام البخاري رحمه الله وعزم على تأليف الصحيح، وإفراد الأحاديث الصحيحة عن الضعيفة.

فمن هو الإمام البخاري؟ هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ابن بردزبه الجُعفي.

بردزبه: كلمة فارسية هو اسم الآن، لكن له معنى عندهم بالفارسية هم الزراع كما يقول أهل بخارى.

الإمام البخاري كان من بخارى، وبخارى هذه: فيما يعرف اليوم بأوزباكستان.

طبعا بردزبه هذا كان فارسيا على دين قومه.

وأما المغيرة ابن بردزبه: فأسلم على يدي يمان والي بخارى، ويمان هذا جُعفي، فالآن يقال في نسبة البخاري الجعفي، هذه النسبة هي أصلًا ليمان الذي أسلم على يديه جد الإمام البخاري، فهذه النسبة نسبة ولاء، هو لم يكن جعفيًا، ولكن الرجل الذي أسلم على يديه جده كان جعفيًا، وهناك مذهب عند بعض العلماء أن من أسلم على يد شخص كان ولاؤه له، فصار جعفيًا بالولاء.

وجده إبراهيم: قال الحافظ ابن حجر: "لم أقف على شيء من أخباره"

وأما أبوه إسماعيل فترجم له ابن حبان في الثقات، وقال: "إسماعيل بن إبراهيم والد البخاري يروي عن حماد بن زيد، ومالك، وروى عنه العراقيون" فأبوه كان من أهل الحديث.

ولد البخاري سنة 194 في بخارى، توفي والده وهو صغير، فربّته أمه، وأقبل على طلب العلم من الصغر، وقد تحدث عن نفسه فيما ذكره تلميذه الفربري، عن محمد بن أبي حاتم وراق البخاري، قال: سمعت البخاري يقول: "أُلهمت حفظ الحديث" هذا توفيق الله سبحانه وتعالى للعبد، إلهام من الله تبارك وتعالى "أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكتّاب" وهو صغير "قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟" كم كان عمرك يعني؟ "قال: عشر سنين أو أقل" إلى أن قال "فلما طعنت في 16 سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء" يعني أصحاب الرأي، ثم قال: "ثم خرجت مع أمي وأخي إلى الحج، فلما طعنت في 18 سنة، صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين، ثم صنفت التاريخ بالمدينة عند قبر النبي " 18 سنة عندنا اليوم ما زال يلعب في الشارع، هذا 18 سنة، قال: "صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين، ثم صنفت التاريخ بالمدينة عند قبر النبي ، وكنت أكتبه في الليالي المقمرة" يكون في ضوء، على ضوء القمر، قال "وقلَّ اسمٌ في التاريخ إلا وله عندي قصة" التاريخ هذا في أسماء الرجال، يقول لك أسماء الرجال هؤلاء الذين تراهم في كتاب التاريخ، كل واحد منهم له عنده قصة "إلا أني كرهت أن يطول الكتاب" هذا حفظ عجيب، اشتغل وهو صغير في طلب العلم وسماع الحديث، ورحل الى أكثر محدثي الأمصار في خرسان والشام ومصر والحجاز والعراق، قدم بغداد مرارًا، واجتمع إليه أهلها، واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علمي الرواية والدراية في وقته، ونُقل عنه أنه قال: "كتبت عن 1080 نفسًا ليس فيهم إلا صاحب حديث" وقال أيضًا: "لم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل" صاحب سنة ما كتب عن المرجئة.

أما قوة حفظه: فهي شيء عجب، كان رحمه الله قوي الذاكرة، سريع الحفظ، ذكر عنه المطّلعون على حاله ما يتعجب منه الأذكياء الحفاظ، فضلًا عمن سواهم، قال أبو بكر الكلوذاني: "ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل، كان يأخذ الكتاب من العلماء. فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الأحاديث بمرة، وقال محمد ابن أبي حاتم وراق البخاري: "قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل: تحفظ جميع ما أدخلته في المصنف؟ قال: لا يخفى علي جميع ما فيه" وقال محمد بن حمدويه: "سمعت البخاري يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح" وقال محمد بن الأزهر السجستاني: "كنت في مجلس سليمان بن حرب، والبخاري معنا، يسمع ولا يكتب" حفظ فقط "فقيل لبعضهم: ما له لا يكتب؟ فقال يرجع إلى بخارى، ويكتب من حفظه" وقال علي بن الحسين بن عاصم البيكندي: "قدم علينا محمد بن إسماعيل، قال فاجتمعنا عنده، فقال بعضنا: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي، فقال محمد بن إسماعيل، أو تعجب من هذا؟ لعل في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف حديث من كتابه، وإنما عنا به نفسه" وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم: "سمعت أبا عمر سليمان بن مجاهد، يقول: كنت عند محمد بن سلام البيكندي، فقال: لو جئت قبل لرأيت صبيًا يحفظ سبعين ألف حديث، قال فخرجت في طلبه حتى لحقته، قال: أنت الذي يقول إني أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم وأكثر، ولا أجيئك بحديث من الصحابة والتابعين إلا عرفتك مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي من ذلك أصل أحفظه، حفظًا عن كتاب الله وسنة رسول الله "

ولعل من أعجب ما ذُكر من أخبار حفظه رحمه الله هو ما حصل معه عندما دخل العراق، وامتحنه محدثوه العراق، وقد علمتم هذه القصة في كتب المصطلح عندما درستم هناك، قال الحافظ ابن حجر، الحافظ ابن حجر حافظ قال: "هنا يُخضع للبخاري" ما نأتيكم بكلامنا، نأتيكم بكلام الحفاظ، قال: "هنا يُخضع للبخاري، فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظًا" يعني يحفظ الصواب، ما في مشكلة "بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة" أمر يُتعجب منه جدًا، هؤلاء أناس قد أوجدهم الله سبحانه وتعالى لحفظ دينه.

ثناء العلماء على الإمام البخاري رحمه الله، كان البخاري موضع تقدير من شيوخه وأقرانه، تحدثوا عنه بما هو أهله، وأنزلوه المنزلة التي تليق به، من غير إفراط ولا تفريط، فهذا حال أهل الحديث في إنصافهم، في كلامهم على الرجال، وكذلك غيرهم ممن عاصره أو جاء بعده، وقد جمع مناقبه الحافظان الذهبي وابن حجر في مؤلفين خاصين، كما ذكر ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ، وابن حجر في تهذيب التهذيب.

نذكر لكم نماذج من ذاك وبعضًا منه، قال أبو عيسى الترمذي: "كان محمد ابن إسماعيل عند عبد الله ابن منير، فقال له لما قام يا أبا عبد الله؟ جعلك الله زين هذه الأمة، فاستجاب الله تبارك وتعالى له فيه" يقول الإمام البخاري: "كنت إذا دخلت على سليمان بن حرب" سليمان بن حرب شيخه "يقول: بيّن لنا غلط شعبة" شيخه يرجع إليه في هذا، وقال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: "سمعت يحيى بن جعفر البيكندي، يقول: لو قدرت أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم" وقال أحمد بن حنبل: "ما أخرجتْ خراسان مثل محمد بن إسماعيل"

ولما بلغ علي بن المديني، وأنتم تعرفون من هو علي بن المديني قول البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني" قال علي بن المديني لمن أخبره: "دع قوله، ما رأى مثل نفسه" وقال رجاء بن رجاء: "هو" يعني البخاري "آية من آيات الله، تمشي على ظهر الأرض" وقال الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك: "هو إمام أهل الحديث، بلا خلاف بين أهل النقل" وقال ابن خزيمة صاحب الصحيح: "ما رأيت تحت أديم السماء، أعلم بحديث رسول الله ، ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري" وقال الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ: "وكان رأسًا في الذكاء، رأسًا في العلم، رأسًا في الورع والعبادة" وقال في كتابه العبر -يعني الذهبي-: "وكان من أوعية العلم، يتوقد ذكاء، ولم يخلّف بعده مثله رحمة الله عليه" وقال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: "أبو عبد الله البخاري جبل الحفظ، وإمام الدنيا، ثقة الحديث" وقال ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: "هو إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه"

وقال أيضًا -كلام ابن كثير-: "وقد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء، والشجاعة، والسخاء، والورع، والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الآخرة دار البقاء" هذا قليل من كثير.

محنته كيف بدأت؟ وفيما حصلت رحمه الله؟

قبل ذلك تعلمون فتنة القول بخلق القرآن، قد مرت معكم، التي حصلت في زمن الإمام أحمد، وما الذي حصل فيها من محنة على أهل السنة والجماعة، وكيف وقف الإمام أحمد رحمه الله في تلك الوقفة التي سطرت إلى آخر الزمان، وكان لها من نصرة السنة ما هو معلوم، بسببها وجد قول الواقفة، واللفظية.

الواقفة: الذين قالوا نتوقف في خلق القرآن، فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق.

اللفظية: وهم الذين يهموننا الآن هنا في هذه النقطة، الذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق، كان أئمة السلف يقولون: "من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع" فلا يجوز أن تقول لفظي بالقرآن مخلوق، ولا لفظي بالقرآن غير مخلوق، ليش؟ يعني لا بد أن نفهم هذه القضية حتى نعرف الفتنة التي مرت على الإمام البخاري رحمه الله.

لفظي بالقرآن مخلوق، اللفظ ما هو؟ كلمة مشتركة مجملة، لذلك كانت هذه الجملة: "لفظي بالقرآن مخلوق"، تحتمل حقًا، وباطلًا، اللفظ: يطلق على المصدر الفعل، ويطلق على الملفوظ.

يعني لما تقول لفظي بالقرآن مخلوق يحتمل أحد أمرين:

· أن تريد بلفظي: فعلي، حركة لساني، وشفتي صوتي.

· أو تريد الملفوظ، وهو القرآن.

فصار في الكلمة جزء حق، وهو قولك: "لفظي بالقرآن مخلوق" بمعنى فعلي، وفيها باطل، وهو أن: "القرآن الملفوظ مخلوق" وهذا كفر، هذه الكلمة المشتركة، قالها من قالها في فتنة خلق القرآن للتلبيس، ولَبْس الحق بالباطل، استعمل اللفظ المجمل، ولا يصلح استعمال الألفاظ المجملة في العقيدة، خاصة في وقت الفتنة بها، ليش؟ لأنه يخلط الحق بالباطل، ويضيع الحق ويميع الدين، الأمر خطير، فلذلك قال على من قال من السلف: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي" لأنه يغطي الحق بمثل هذه الألفاظ، هو حقيقة جهمي، لكنه يتستر.

طيب من قال: "لفظي بالقرآن غير مخلوق" القرآن صحيح غير مخلوق، لكن الكلمة لفظي بالقرآن، تحتمل أمرًا آخر، وهو فعلك، كيف فعلك مش مخلوق؟ وهذا كفر أيضًا، عقيدة الاتحادية كما قال بعض أهل العلم.

فلما كانت الكلمة تحتمل هذا وهذا، صارت محرمة ممنوعة، ويشنِّع السلف على من يقول هذا الكلام، ولا يُعلم بينهم خلاف في تحريم قول: "لفظي بالقرآن مخلوق"

ماذا قال ابن تيمية رحمه الله؟

"فمن قال اللفظ بالقرآن؟ أو القراءة أو التلاوة مخلوقة، أو لفظي بالقرآن، أو تلاوتي، دخل في كلامه" يعني: المعنى الذي يدل عليه كلامه "نفس الكلام المقروء المتلو، وذلك هو كلام الله تعالى، وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعنى صحيحًا، لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره" "هذا" الذي هو فعله، وصوته "وغيره" وهو القرآن، قال: "ولهذا قال أحمد في بعض كلامه: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن، فهو جهمي، احترازًا عما إذا أراد به فعله وصوته، وقال: ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق، أو تلاوتي دخل في ذلك المصدر الذي هو عمله" فصار عمله غير مخلوق مشكلة قال: "وأفعال العباد مخلوقة" فلا يجوز له أن يقول هذا، قال: "ولو قال: أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق، لا نفس حركاتي، قيل: لفظك هذا بدعة" إن كان من حيث المعنى صحيح، لكن لفظك بدعة "وفيه إجمال وإيهام" شوف "وإن كان مقصودك صحيحًا، فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا، وهذا" لا تقول لفظي بالقرآن مخلوق، ولا تقول لفظي بالقرآن غير مخلوق "وكان هذا وسطًا بين الطرفين"

طيب ما الذي حصل مع الإمام البخاري؟ هذه استفتاحية من أجل أن نفهم ما الذي حصل مع الإمام البخاري رحمه الله.

قال محمد بن يحيى، أولًا نبدأ بمحمد بن يحيى الذهْلي، إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، من أئمة أهل الحديث، حافظو كبير إمام، كان ذا قدر وشأن عند أهل الحديث، وقد أثنى عليه أئمة العلم والسنة، فلا يُسمح بالطعن فيه لأي أحد، حتى وإن كان مرادك الدفاع عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى لا يجوز لك هذا، كما سيأتي إن شاء الله الكلام في ذلك.

قال محمد بن يحيى الذهلي: "قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية، واللفظية عندي شر من الجهمية" إذن محنة الإمام البخاري من هنا تأتي، أنه اتُهم بأنه يقول بقول اللفظية، عرفنا من هم اللفظية.

وقال أبو حامد بن الشرقي: "سمعت محمد بن يحيى الذهْلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته، وحيث تُصرف، فمن لزم هذا استغنى عن اللفظ" يعني ما يحتاج إلى أن يقول مخلوق ولا غير مخلوق "وعما سواه من الكلام في القرآن" خلاص، استغنى عن كل هذا "ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر، وخرج عن الإيمان، وبانت منه امرأته، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وجعل ماله فيئًا بين المسلمين، ولم يدفن في مقابرهم" إلى هنا هذا الكلام ليس لمحمد بن يحيى الذهلي وحده، هذا لأئمة الإسلام جميعًا، كانوا يقولون هذا ويصرحون به، قال: "ومن وقف فقال: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق، فقد ضاهى الكفر مَثَلَه، ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق، فهذا مبتدع، لا يُجالس، ولا يُكلّم" هذا بيان مذهب محمد بن يحيى الذهلي في هذه المسألة، وهو يتهم الآن الإمام البخاري بأنه يقول بقول اللفظية قال: "ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه".

من حيث الأصل والتأصيل أصول سلفية، هذه أصول سلفية، لا يختلف فيها أهل السنة والجماعة، بغضّ النظر عن تطبيقها على الشخص، أنا أقول هذا، لماذا؟ للتعليقات الكثيرة على هذه المسألة في كتب الرجال من أناس هم مرضى أصلًا بداء البدع، فعندما يأتي إلى مثل هذا الكلام يبدأ بالطعن في الذهْلي رحمه الله بطريقة خبيثة، أو مميع يطعن في طريقة تقعيده، وهي طريقة سلفية بحتة، من أراد أن يعرفها، يرجع إلى كتب السلف رضي الله عنهم في هذه المسائل.

نقاشنا مع الإمام محمد بن يحيى الذهلي في ثبوت هذا القول على الإمام البخاري، بس مش أكثر، لا نقر بأن البخاري قال هذا الكلام، وسيأتي دليلنا على ذلك، بهذا ندافع عن الإمام البخاري، لا بالطعن في محمد بن يحيى الذهْلي، هذا عندنا إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، وهذا عندنا إمام من أئمة أهل السنة والجماعة. أما التقعيد والتأصيل فسلفي من محمد بن يحيى الذهلي رحمه الله.

ما الذي قاله البخاري رحمه الله؟ سئل عن اللفظ بالقرآن، فقال: "أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا" وقال: "من زعم من أهل نيسابور، وعدَّ مدنًا أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة" هذا لا يختلف فيه اثنان أن أفعال العباد مخلوقة.

نفى نفيًا صريحًا واضحًا عن نفسه هذه التهمة، وهو إمام، لما حصلت هذه الفتنة كان إمامًا، وكان له قدر وشأن عند المسلمين، مُصدَّق، فإذا قال هذا فلا مجال للتشكيك بعد ذلك فيما قال.

ثم خرج من البلد التي فيها الذهْلي، وذهب إلى غيرها، فقدم محمد بن إسماعيل الري، وسمع منه أبو حاتم، وابو زرعة، وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق، تركه أبو زرعة وأبو حاتم، أصول سلفية، طريقة سنية، نتعلم منها كيف كان السلف يتعاملون مع المخالفين، وإن كنا نخالفهم في محمد بن إسماعيل البخاري، لكن الطريقة صحيحة لا إشكال فيها.

فمن يعلّق على تصرفات هؤلاء الأئمة، وينظّر عليهم... ما نريد أن نكبر عليه في الكلام، لكن ينبغي أن يحترم نفسه مع أئمتنا، فنحن نحترمك ما احترمت أئمتنا.

فكان رحمه الله ينتقل من بلد إلى بلد، ويخرج من البلد التي يدخلها بسبب هذه المحنة، إما بأن يخرجه أميرها، أو إذا حصل انقسام بين طلبة العلم بسببه خرج حتى يقضي على هذا الشر الذي حصل.

إذن سبب هذه المحنة اتهام محمد بن إسماعيل البخاري أنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق.

هل هذا ثابت عليه؟ لا، بنصّه رحمه الله بأنه لم يقل هذا، فهو بريء منه، فلا يجوز لأحد بعد ذلك أن يتهمه بذلك.

الظاهر أن محمد بن يحيى رحمه الله قد نقل له من يثق به أنه قال الإمام البخاري هذه الكلمة.

الإمام البخاري قال كلمة أوهمت البعض أنه يقول بهذا كما ذكر ما الذي قاله.

فيقول بعض الذين لا يعرفون مقام محمد بن يحيى الذهْلي أنه حسد البخاري.

نعم قاله الإمام البخاري، لكن الإمام البخاري صار بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي إشكال فيقول مثل هذا يدافع عن نفسه.

أما أنت، ليس لك أن تقول هذا، هذا إمامٌ ديّن تقي صالح، صاحب علم ومكانة عند المسلمين، وهو شيخ البخاري، وفي بعض البلاد كان معظمًا أكثر من البخاري نفسه، فكيف يحسده؟ على ماذا يحسده؟

لما دخل نيسابور خرج منها لكلام محمد بن يحيى، يعني كان كلامه مسموعًا عند أهلها، أكثر محمد بن إسماعيل البخاري، يحسده على ماذا؟

فلا يجوز رمي هذا الإمام بمثل هذه التهمة، هذه تقدح في الدين، حسد، ومعاداة الشخص على الدنيا، على الرياسة والعلم والصدارة، نعوذ بالله! هذا كلام باطل، نعم مخطئ محمد بن يحيى الذهلي، نعم مخطئ فيما اتهم به محمد بن إسماعيل البخاري، نعم، البخاري كان إمامًا، ولا يقول باللفظية، بل هو إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، ويقول بقول أهل السنة والجماعة.

لكن أيضًا نتعلم فوائد كثيرة من هذه القصة، كيفية التعامل مع المخالفين من أهل البدع والضلال، كيف كان السلف رضي الله عنهم يفعلون، وكيف تتابع الناس على قبول كلام محمد بن يحيى الذهلي لأن الأمر مقرر، كان عندهم مخالفة غير مقبولة في أمور العقيدة أبدًا، والتمييع في الدين غير مقبول نهائيًا.

كيف أبو زرعة وأبو حاتم لما جاءتهم الرسالة من محمد بن يحيى خلاص عندهم، انتهى الأمر، هكذا كان السلف يتعاملون مع المخالفين، لا كالذي يحصل اليوم! منهج التمييع عم وطم عند الكثير، واختلطت الأمور، وسيأتي، وسنذكر لكم صورة تبين لكم الفساد العريض الذي صار في الأرض بسبب منهج أو فعل هو موافق لما يريده المميعة وسترون.

خلاصة الكلام قبل ما ننهي: محمد بن إسماعيل البخاري، إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، محمد بن يحيى الذهْلي إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، أخطأ في اتهامه لمحمد بن إسماعيل البخاري، والإمام البخاري إمام من أهل السنة والجماعة لا يقول بقول أهل البدع بأن لفظي بالقرآن مخلوق، بل هو يصرح بأن القرآن كلام الله غير مخلوق. وله كتاب في خلق أفعال العباد.

وفاته ومدة عمره رحمه الله: توفي في قرية من قرى سمرقند سنة 256، ومدة عمره 62 سنة.

قال عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي: "جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتنك" قرية تبعد فرسخين عن سمرقند، وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم "فسمعته ليلة يدعو، وقد فرغ من صلاة الليل، اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى مات" وقبره بخرتنك، هذا لما حصلت له هذه المحنة، اشتد الأمر عليه ودعا بهذا الدعاء فمات رحمه الله، وقد ابتلي ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا البلاء رفعة، له وزيادة مكانة عند الله سبحانه وتعالى.

قال الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: "وقد ترك رحمه الله بعده علمًا نافعًا لجميع المسلمين، فعلمه لم ينقطع، بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة، وقد قال رسول الله : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به...) الحديث رواه مسلم"

من مؤلفاته:

- كتاب الأدب، يسميه العلماء الأدب المفرد، كي يفرقوا بينه وبين كتاب الأدب الذي في صحيح البخاري.

- وله كتاب رفع اليدين في الصلاة.

- والقراءة خلف الإمام.

- وبر الوالدين.

- والتاريخ الكبير هذا في الرجال والأوسط والصغير، ثلاث كتب كلها في الرجال.

- وله كتاب خلق أفعال العباد، وغير ذلك...

سبب تأليف البخاري لصحيحه: الإمام البخاري رحمه الله أول من أفرد الصحيح بشروطه المعروفة المتفق عليها، وسبب التأليف سببان:

1- الأول: جاء عن محمد بن سليمان بن فارس، قال: سمعت البخاري يقول: رأيت النبي وكأني واقف بين يديه، وبيدي مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبّرين، فقال لي: أنت تذب عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح" هذا هو السبب الأول؛ رؤيا.

2- الثاني: قال إبراهيم ابن معقل النسفي: "سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل يقول: كنت عند إسحاق ابن راهويه، فقال لنا بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبي ، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب يعني كتاب الجامع" هذا السبب الثاني.

اسم صحيح البخاري: الكتاب مشهور عند الناس بصحيح البخاري عند أهل العلم وطلابه، وعند الناس جميعًا، وغلب عليه هذا الاسم، لكن ليس هو الاسم الذي وضعه البخاري، له.

الاسم: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسننه وأيامه.

الجامع: يجمع فيه أحاديث الأحكام والفضائل والآداب، والتفسير والفتن، وأشراط الساعة، وغير ذلك...، فهو جامع، وليس مختصًا بفن دون فن.

المسند: هذا هو المقصود الأصلي من الكتاب تخريج الأحاديث المسندة المتصل إسنادها إلى رسول الله ، وما أدخله فيه من غير ذلك فإنما ذكره للاستشهاد به، والاستئناس.

الصحيح: يدل على أنه لا يدخل الأحاديث الضعيفة فيه، قال الإمام البخاري: "ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح خشية الطول"

المختصر: يدل على أنه اختصره، يعني أنه لم يذكر كل الأحاديث الصحيحة عنده، بل ذكر بعضها كما جاء في كلامه أيضًا "تركت من الصحيح خشية الطول"

من أمور رسول الله وسننه وأيامه: يعني أن مقصوده الأصلي إخراج سنة النبي القولية، والفعلية، والتقريرية، وغيره يذكره استشهادًا.

بهذا الاسم ذكره جمع من العلماء ووجدته في بعض المخطوطات باسم: "الجامع الصحيح المسند المختصر" تقديم وتأخير ما بين الصحيح والمسند.

وقيل: اسمه: "الجامع المختصر المسند الصحيح" بتقديم المختصر بهذا الترتيب.

والبعض قال: "الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله ، وسننه وأيامه" بدون ذكر كلمة المختصر، وكلمة حديث بدلًا من كلمة أمور، وهذا اختاره الحافظ ابن حجر، وهذا موجود أيضًا في بعض المخطوطات.

وأما شرطه في صحيح البخاري فهذا تكلم عنه أهل العلم، الكلام عنه يطول، لكن اكتفينا بما ذكرناه في دروس المصطلح، ارجعوا إليها كي تتذكروها.

شهادة العلماء بصحة صحيح البخاري: قال أبو جعفر العقيلي: "لما صنف البخاري كتابه الصحيح، عرضه على ابن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم... فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة، إلا أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة" هذه شهادة جهابذة، أئمة، حفاظ، لو لم يكن إلا هؤلاء الثلاثة لكفى، قال: "وغيرهم".

مكانة صحيح البخاري، ليس لأن البخاري ألّفه، مع مكانة البخاري، وحفظ البخاري، وإمامة البخاري، ولكن لهذا؛ لأن الحفاظ أقروا البخاري على ما فيه، وأجمعت الأمة على صحة ما فيه إلا ما انتقد، وهي أحاديث قليلة، وغالب الانتقاد في الأسانيد لا في صحة المتون، وسيأتي إن شاء الله تفصيله مع الأحاديث التي ستمر بنا.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: "وأجمع العلماء على قبوله" يعني صحيح البخاري "وصحة ما فيه وكذلك سائر أهل الإسلام" هذا كلام كثير رحمه الله في نقل الإجماع.

وقال أبو عمرو ابن الصلاح في علوم الحديث بعد ذكره أن أول من صنف في الصحيح البخاري، ثم مسلم، قال: "وكتابهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز" ثم قال: "ثم إن كتاب البخاري أصح الكتابين، وأكثرهما فوائد"

وقال النووي في مقدمة شرحه لمسلم: "اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد الكتاب العزيز الصحيحان: البخاري، ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد، ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلمًا كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث" انتهى كلامه رحمه الله.

وقال الحافظ عبد الغني المقدسي -هذا الحافظ حافظ إمام، أنصح بقراءة ترجمته، وأنا أظن والله أعلم أنه كان من المجددين- في كتابه "الكمال": "وهذا هو الإمام أبو عبد الله الجُعفي مولاهم البخاري، صاحب الصحيح، إمام هذا الشأن، والمقتدى به فيه، والمعوّل على كتابه بين أهل الإسلام" انتهى.

هذا كلام عبد الغني، وهو من هو في علم الحديث وفي الإيمان.

الكتب المؤلفة على صحيح البخاري: لا يمكننا استيعابها الآن، ماذا سنعد ونعد؟ هي كثيرة وكثيرة جدًا، في رجاله، وفي متونه، وشروح عليه، واختصارات، وتعليقات، وشرح غريب، ومعلقات، وشرح تبويبات، وغير ذلك الكثير، لو أردنا أن نسرد، سنأخذ وقتًا طويلًا.

من أفضل شروحه:

· وهذا الشرح أكثر الشروح حسرة في عدم تمامه لنا، وهو فتح الباري لابن رجب الحنبلي، شرح نفيس غايةً في النفاسة لو أنه أتمه، لكن للأسف ما منه إلا جزء صغير، مفقود من أوله، وهو أتم إلى كتاب الجنائز فيما أذكره الآن، على طريقة السلف عقيدةً ومنهجًا، وسردًا للفقه أيضًا، وأقوال أهل العلم.

· أشهر الشروح فتح الباري للحافظ ابن حجر، جمعه من شروح كثيرة، وزاد عليها، وهو شرح مفيد؛ إلا أنه في العقيدة ليس على طريقة أهل السنة والجماعة، فهو يذكر أقوال المتكلمين في مسائل العقيدة، ويرجحها في مواضع كثيرة، فلذلك لا بد من الحذر من هذا الأمر.

· شرح القسطلاني يمتاز باهتمامه باليونينية، ما هي هذه اليونينية؟ سيأتي الكلام عنها، واعتماده في شرحه عليها، فقابله على اليونينية، المتن يعني، وقبل ذلك قابله على فرع له، هذا الكلام سيأتي شرحه وتفصيله فيما هو آت، وهذا الفرع كان فرعًا نفيسًا، أثنى هو عليه، وهو فرع الغُزُولي، يوجد منه اليوم النصف الثاني، سيأتي إن شاء الله تفسير هذه الكلمات، ذكر القسطلاني في شرحه مجموعة من شروح صحيح البخاري.

كيف وصل إلينا صحيح البخاري؟ كان البخاري رحمه الله يجلس للإملاء -إملاء الحديث-، وإسماع الجامع الصحيح.

قديمًا المساجد كانت تعج بطلبة العلم بعقد مجالس الحديث، إما بالتحديث أو بالشروحات أو بغير ذلك، اليوم للأسف هجرت المساجد، ما بقي فيها إلا الصلوات، لكن ليس هذا الحال الذي ترونه هو الذي كان قديمًا، فكان العلماء وطلبة العلم يجلسون للتحديث، فيحدّثون، ويشرحون، ويعلّمون، كذلك الإمام البخاري.

في زمنهم كان طالب العلم يقرأ القرآن، ويحفظه في صغره، ثم يبدأ بطلب الحديث. ويخرج في طلبه من صغره، حتى يدرك المشايخ الكبار فيعلو بالأسانيد، وهؤلاء المشايخ كانوا يجلسون في المجالس ويعلّمون ويُسمعون، فكانوا يطوفون ويدورون في البلاد.

هكذا فعل الإمام البخاري رحمه الله، فلما حصّل صار يعلّم ويعطي، فيعقد مجالس للإملاء، ولإسماع صحيحه، فسمع الصحيح من البخاري تسعون ألفًا، هذا العدد قاله تلميذ البخاري محمد بن يوسف الفربري، ورواه عنه جمعٌ منهم.

ركزوا الآن على الأسانيد، فهذه الأسانيد مهمة جدًا فيما سيأتي من شرح الرموز التي على صحيح البخاري.

الذين رووا عن البخاري كثير، لكن من أشهرهم الذين دارت عليهم الأسانيد بعد ذلك أربعة:

1- إبراهيم بن معقل النسفي

هو العلامة الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن معقل بن الحجاج قاضي مدينة نسَف. ويقال لها نخشب، من شيوخه البخاري، وقتيبة بن سعيد، كان من جلة أهل السنة أصحاب الحديث، ومن ثقاتهم، هذا يقوله السمعاني، وهنا انتبهوا جيدًا، أريد أن أنبه على هذه النقطة، وسأنبه عليها أكثر من مرة.

المترجِم لا المترجَم؛ المترجِم انتبه لها، مهم جدًا عندما تأخذ ترجمة العالم ممن تأخذها تعرف ذلك، تعرف ممن تأخذ الترجمة، فإذا كان المترجم أشعريًا، وقال لك فلان ابن فلان، كان من أهل السنة، ماذا يعني؟ من الأشاعرة، وإذا كان سلفيًا وقال لك فلان ابن فلان من أهل السنة، ماذا يعني؟ يعني أنه من أهل السنة، من أهل الحديث، من السلفيين، فلا بد أن تعرف المترجِم قبل أن تقرأ الترجمة، فربما يطعن المترجِم في المترجَم له لأجل العقيدة، موجود، قال: "كان من جلة أهل السنة، وأصحاب الحديث" السمعاني كان سلفيًا، فإذًا هو من أهل السنة إبراهيم بن معقل النَسَفِي، الاهتمام بالعقيدة والفقه، ومعرفة عقائد العلماء، مهم جدًا، يترتب عليه أشياء كثيرة، وسيأتي ذكرها ومعرفتها، في أثناء الدروس "كان من جلة أهل السنة، وأصحاب الحديث، ومن ثقاتهم، وأفاضلهم ثقة حافظ فقيه". توفي سنة أربع أو خمس وتسعين ومائتين.

في الغالب: من قبل الثلاثمائة هم أهل السنة، ومن كانت فيه لوثة يذكرونها في ترجمته، يقولون كان مرجئًا، كان قدريًا، وإذا سكتوا فهو من أهل السنة، هذا هو الأصل؛ إلا أن لا يعرف، بعد الثلاثمائة بدأت الخربطة، صارت الأمور مشكلة، بعد الستمائة والسبعمائة، وهكذا... الكثير منهم أشاعرة ومعتزلة، وأشياء من هذا القبيل.

قبل الثلاثمائة التي قال فيها النبي : (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ثم بعد ذلك ذم القرون التي بعدها، وستأتي قصة الهروي مع الدارقطني، والباقلاني، ونوضح لكم كيف حصل التغيير، إذا ما نسيت إن شاء الله.

سماع إبراهيم بن معقل النسفي لصحيح البخاري فيه نقص في آخره، رواه بالإجازة، ليس بالسماع.

نسخة ابن عبد البر لصحيح البخاري من طريق إبراهيم هذا، ومن طريقه يروي الخطابي معظم صحيح البخاري، قال في شرحه على الصحيح -الخطابي-: "وقد سمعنا معظم هذا الكتاب من رواية إبراهيم بن معقل النسفي حدثناه خلف بن محمد الخيام، قال: حدثنا إبراهيم بن معقل عنه سمعنا سائر الكتاب إلا أحاديث من آخره، من طريق محمد بن يوسف الفَربري، حدثنيه محمد بن خالد بن الحسن، قال: حدثنا الفربري عنه، ونحن نبين مواضع اختلاف الرواية في تلك الأحاديث، إذا انتهينا إليها إن شاء الله". انتهى.

قال القاضي عياض: "أما كتاب الجامع المسند الصحيح المختصر من آثار رسول الله للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري المولد، والمنشأ، والدار، الجعفي النسب بالولاء، فقد وصل إلينا" إلينا يعني إيش؟ أهل المغرب العربي والأندلسي "فقد وصل إلينا من رواية أبي عبد الله محمد بن يوسف الفربري، وأكثر الروايات من طريقه، ومن رواية إبراهيم بن معقل النسفي عن البخاري، ولم يصل إلينا من غير هذين الطريقين عنه، ولا دخل المغرب والأندلس إلا عنهما، على كثرة رواة البخاري عنه لكتابه، فقد روينا عن أبي إسحاق المستملي أنه قال: عن أبي عبد الله الفربري أنه كان يقول: روى الصحيح عن أبي عبد الله تسعون ألف رجل، ما بقي منهم غيري" انتهى.

يعني باختصار أن الأندلس والمغرب وصلهم صحيح البخاري، من طريقين طريق إبراهيم بن معقل النسفي، ومن طريق محمد بن يوسف الفربري.

2- حماد بن شاكر النَسَفي

نسبة إلى مدينة نسف، أبو محمد الوراق، ثقة مأمون من شيوخه البخاري والترمذي توفي سنة 311ه، فاته سماع المجالس الأخيرة للبخاري، فرواها بالإجازة

روى الحاكم النيسابوري الصحيح من طريق حماد بن شاكر، من طريق هذا.

3- أبو طلحة منصور البَزْدَوي

أبو طلحة منصور بن محمد البَزْدَوي النسفي دهقان قرية بزدة، بزدة: من قرى مدينة نسف، ودهقان القرية نسميه نحن اليوم أيش؟ مختار، مختار القرية، هذه كلمة فارسية معناها هذا، ثقة مات سنة 329ه.

قال الذهبي: "الشيخ الكبير المسند أبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن قرينة ابن سوية البَزْدي، ويقال البَزْدَوي النسفي دهقان قرية بزدة، وثّقه الأمير ابن ماكولا، وقال: كان آخر من حدث بالجامع الصحيح عن البخاري.

قال الحافظ: "جعفر المستغفري، يضعفون روايته من جهة صغره حين سمع" لما سمع البخاري سمعه وهو صغير، "ويقولون وجد سماعه بخط جعفر ابن محمد مولى أمير المؤمنين دهقان توبن، فقرأوا كل الكتاب من أصل حماد ابن شاكر" يعني رجعوا إلى أصل حماد ابن شاكر "وسمع منه أهل بلده، وصارت إليه الرحلة في أيامه" ثم قال المستغفري: "حدثنا عنه أحمد بن عبد العزيز المقرئ، ومحمد بن علي بن الحسين، ومات سنة 329 قلت: -والكلام للذهبي- هو آخر من حدّث بالصحيح عن المؤلف".

4- محمد بن يوسف الفربري

الرابع: وركزولي على هذا الرابع، المحدث الثقة العالم الورع أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفَربري، ويقال الفِربري، كلاهما صحيح، لكن الأُولى تقريبًا لم يختلفوا فيها، واختلفوا في الثانية.

الفَربري بفتح الفاء لا بكسرها، لكن كلاهما صحيح.

راوي الجامع الصحيح عن أبي عبد الله البخاري، سمعه منه بفربر مرتين، قال: "سمعت الجامع في سنة 248ه ومرة أخرى سنة 252ه"

ذكر أبو بكر السمعاني في أماليّه أنه ولد سنة 231ه قال: "وكان ثقة ورعًا، مات الفربري سنة 320ه، وقد أشرف على التسعين".

رواية محمد بن يوسف الفربري أكثر الروايات انتشارًا، وهي من أحسن النسخ وأتقنها وأتمها، روى عن محمد بن يوسف الفربري صحيح البخاري كثير من أهل الحديث.

قال ابن رشيد: "ثم تواتر الكتاب من الفربري، فتطوق به المسلمون، وانعقد الإجماع عليه" بعد هؤلاء الأئمة الذين رووا عن البخاري، وهم كثر، وهو مستفيض عن البخاري، إلا أنه بعدهم تواتر الكتاب، وانعقد الإجماع عليه.

والفربري هذا كان عنده أصل البخاري، كان عند الفربري أصل البخاري، النسخة المكتوبة التي كتبها وراق البخاري له، أصله، كان مكتوبًا عنده، موجودًا عند محمد بن يوسف الفربري، ومنه نقل غير واحد ممن أخذ الجامع الصحيح عن الفربري نقلًا، نسخوه نسخًا عن نسخة البخاري رحمه الله.

يأخذونه حفظًا وكتابةً كما تقدم، زيادةً في التوثيق والحفظ والتثبت، الاعتماد الأكبر كان عندهم على الحفظ، لا على الكتابة، والكتابة داعمة، فكان عند المحدثين أعلى مراتب التحمل: السماع، وليست النسخة؛ الوِجادة، وهؤلاء كان يأخذ بعضهم عن بعض سماعًا وكتابةً، إذا فتحتم المخطوطات سترون من السماعات الشيء الكثير لصحيح البخاري، يسمع فلان عن شيخه، فلان عن شيخه، فلان عن شيخه كثير جدًا، هذه العمدة عندهم.

أين نسخة أبي هريرة من الأحاديث التي رواها؟ أين نسخة النبي من الأحاديث التي رواها؟ هذا كلام فارغ، في علم الحديث لا يقوم أصلًا.

عند طلبة الحديث المؤصلين هذه شبهة ما تقوم من أرضها أصلًا، ما تخرج إلا من إنسان جاهل، أو إنسان مريض، يريد أن يشكك الجهال في دينهم، بس، ولّا حقيقة ليست بشيء، افتح إسناد البخاري وكيف وصل إلينا، تجد العجب العجاب في تثبت الأئمة في نقل هذا الكتاب.

روى عن محمد بن يوسف الفربري صحيح البخاري كثير من أهل الحديث منهم:

1- ابن السكن، أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن، الإمام الحافظ المجود الكبير، قال الذهبي: "سمع بخراسان صحيح البخاري، مِن محمد بن يوسف الفربري، كان أول من جلب الصحيح إلى مصر، وحدّث به" توفي سنة 353ه، تعلموا علشان الشبهة هذه ما عاد تقوم عندكم أصلًا.

2- أبو زيد المروزي الثاني الذي أخذ عن محمد بن يوسف الفربري، توفي سنة 371 محمد بن أحمد المروزي، قال الذهبي: "الشيخ الإمام المفتي القدوة الزاهد شيخ الشافعية أبو زيد محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد المروزي راوي صحيح البخاري عن الفربري" قال الخطيب: "حدث أبو زيد ببغداد ثم جاور بمكة وحدّث هناك بالصحيح وهو أجلّ من رواه" أبو زيد المروزي، شفتو من رواتنا؟ شفتوا مين اللي وصلوا لنا صحيح البخاري؟ رأيتم صفاتهم كيف؟ ديننا على هذا يقوم، مش على أوهام، وعلى أكاذيب، وعلى أخبار مقطعة، وروى الذهبي بإسناده عن أبي سهل محمد بن أحمد المروزي، قال: "سمعت الفقيه أبا زيد المروزي يقول: كنت نائمًا بين الركن والمقام، فرأيت النبي فقال: يا أبا زيد، إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي؟ قلت: يا رسول الله، وما كتابك؟ قال جامع محمد بن إسماعيل، يعني البخاري" قال الذهبي: "وسئل أبو زيد متى لقيت الفربري قال: سنة 318ه"

3- الثالث: المستملي، نحن نذكر لكم من في ذكرهم الآن بالنسبة لنا فائدة، وإلا هم كثر، المستملي هذا توفي سنة 376ه، الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي، الإمام المحدث الرحّال الصادق أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد ابن داود البلخي المستملي راوي الصحيح عن الفربري، حدّث عنه أبو ذر ابن أحمد الهروي، وهذا قصته قصة ستأتي وحدها إن شاء الله، قال أبو ذر: "كان من الثقات المتقنين ببلخ طوّف، وسمع الكثير، وخرّج لنفسه معجمًا" توفي سنة 376ه وكان سماعه للصحيح في سنة 314ه قال أبو إسحاق المستملي -اللي هو صاحب الترجمة-: "انتسخت كتاب البخاري من أصله كان عند محمد بن يوسف الفربري" انتهى.

4- الحمُّويي هذا الرابع: أبو محمد عبد الله بن أحمد ابن حمُّويَة السرخسي الحَمُّويي بضم الميم وتشديدها نسبة إلى حمُّويَة، وليس نسبة إلى حماة، ذاك يقال له الحمَوي، هذا الحمُّويي، بعضهم يذكره بياء واحدة: "الحمُّوي" لكن الميم مشددة ومضمومة على الحالتين، السرَخسي، أو السرْخسي، كلاهما صحيح، السرَخسي بفتح الراء، أو السرْخسي بإسكانها، كلاهما صحيح، في الرموز الحمُّويي، بعضهم يذكره بالسرَخسي، وبعضهم يذكره بهذا، ذكرت لكم في البداية ما يذكره به العلماء.

الإمام المحدث الصدوق المسند خطيب سرخس سمع في سنة 316ه الصحيح من أبي عبد الله الفربري، وسمع المسند الكبير والتفسير لعبد بن حميد من إبراهيم بن خُزيم الشاشي، وسمع مسند الدارمي من عيسى بن عمر السمرقندي عنه، حدث عنه الحافظ أبو ذر الهروي وأبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي وآخرون، قال أبو ذر: "قرأت عليه وهو ثقة، صاحب أصول حسان" قال الذهبي: "له جزء مفرد، عد فيه أبواب الصحيح، وما في كل باب من الأحاديث، فأورد ذلك الشيخ محمد محيي الدين النواوي في أول شرحه لصحيح البخاري" جزء موجود صغير موجود شرح صحيح البخاري للنووي، وقد بقي حديثه يرُوى عاليًا في سنة 730ه عند أبي العباس الحجار" كثير من المخطوطات نساخها يبدؤون أسانيدها بهذا، بأبي العباس الحجار، لأنه وجد عنده الصحيح بإسناد عالي هو ووزيرة أيضًا.

مولده في سنة 293 مات سنة 381

5- الخامس: الكُشْمِيهني، 389ه سنة وفاته، أبو الهيثم محمد بن مكي بن محمد بن مكي بن زراع بن هارون المروزي الكشميهني، حدّث بصحيح البخاري مرات عن أبي عبد الله الفربري، حدّث عنه أبو ذر الهروي وأبو سهل محمد بن أحمد الحفصي، وكريمة المروزية وآخرون، وكان صدوقًا، كان صدوقًا ليس في مرتبة أولئك، هو أنزل مرتبة، لكنه محتج به، مات في يوم عرفة سنة 389ه.

هؤلاء الرجال الذين نريد ذكرهم، لأنهم يهموننا الآن في كتابنا الذي معنا.

أشهر روايات صحيح البخاري عند المشارقة: "رواية أبي الوقت عن أبي الحسن الداودي عن الحمُّويي، عن الفربري، احفظوا هذا الإسناد: الفربري ذكرناه، الحمويي ذكرناه، وقلنا الحموي يروي عن الفربري عن الإمام البخاري، صح؟ تمام، هذا الإسناد، أشهر الأسانيد عند المشارقة لصحيح البخاري.

أبو الوقت، عن أبي الحسن الداودي، عن الحمُّويي، عن الفربري، عن محمد بن إسماعيل البخاري، هذا الإسناد احفظوه.

أبو الوقت هو عبد الأول بن عيسى بن شعيب أبو الوقت السجزي، مولده في سنة 458ه وسمع في سنة 465ه من أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، سمع منه الصحيح، وكتاب الدارمي، ومنتخب مسند عبد بن حميد ببوشانج، حدّث عنه ابن عساكر، والسمعاني وابن الجوزي. قال السمعاني: "شيخٌ، صالح، حسن السمت والأخلاق، متودد متواضع، سليم الجانب، وكان صبورًا على القراءة محبًا للرواية" وقال البِرزالي: "طاف أبو الوقت العراق وخوزستان، وحدّث بهرا ومالين وبوشانج وكِرمان ويزد و أصبهان والكرج وفارس، وهمذان، وقعد بين يديه الحفاظ والوزراء، وكان عنده كتب وأجزاء، سمع عليه من لا يحصى ولا يحصر".

أبو الحسن الداوودي شيخه، توفي سنة 467، عبد الرحمن بن محمد بن المظفر، البوشنجي ثقة، ثبت فقيه، فاضل إمام حجة، متفق عليه، هذه أسانيدنا.

وعندهم أيضًا المشارقة رواية أبي ذر الهروي، من رواية ابنه أبي مكتوم عيسى وغيره.

أبو مكتوم عيسى ابن أبي ذر عن أبيه أبي ذر، عن مشايخه الثلاثة الكشميهني، والمستملي، والحموي عن الفربري.

هذا الإسناد احفظوه: أبو ذر الهروي عن مشايخه الثلاث المستملي والحموي والكشميهني، عن الفربري، عن البخاري.

هذا الإسناد الثاني هو الأشهر عند المغاربة، يرويه عن أبي ذر أكثر من واحد، لكن الرواية المشهورة عند المغاربة رواية أبي الوليد الباجي، عن أبي ذر الهروي، وعن أبي الوليد الباجي أخذ الصحيح أبو علي الصدَفي، مش الصفدي، وعن أبي علي الصدفي أخذه صهره ابن سعادة.

نسخة أبي علي الصدفي وابن سعادة إلى وقت قريب كانتا موجودتين، ابن سعادة مازالت موجودة إلى الآن، ويوجد منها مجلدات، ومجلد أو مجلدين فُقدا.

نسخة أبي علي الصدفي، كانت موجودة عند الملك إدريس السنوسي تبع ليبيا إلى وقت قريب، قبل أن يهمل المسلمون كتبهم.

سيأتي موضوع المخطوطات وكيف تحقق؛ إلى آخره...

هذه المعلومة ذكرناها لأنها متعلقة بموضوعنا أيضًا، هذا الإسناد: أبو ذر الهروي، عن مشايخه الثلاث: الكشميهني، والمستملي، والحموي، عن الفربري، عن البخاري، هذا الإسناد الذي اعتمد عليه الحافظ ابن حجر في شرح فتح الباري، وقد ذكر أنها أصح نسخة، وأتقنها، لذلك اعتمدها في شرحه فتح الباري.

بالمناسبة فتح الباري الحافظ ابن حجر لما شرح صحيح البخاري ما وضع المتن في البداية، أدخل الشرح في المتن على طول، فالمتن الذي ذكره هي رواية أبي ذر الهروي هذه، اعتمدها لأنها أصح رواية، وأتقنها عنده، وهذا ذكره في بداية كتابه، وهذه الرواية كانت موجودة عند المشارقة، ولكنها الرواية الأشهر عند المغاربة.

الطبعات الموجودة لفتح الباري لما وضعت المتن وضعته ملفقًا، لذلك أنت عندما تقرأ، تلاحظ هذا الأمر بشكل واضح، تجد المتن فوق شيء، وشرح الحافظ ابن حجر أحيانا يقول لك هذه الكلمة رويت في رواية أخرى بكذا، وهي الرواية تكون هي اللي في المتن فوق. وهذا فيه إشكال، وضع المتن بهذه الطريقة خطأ، ما خُدم خدمة جيدة إلى الآن، اللهم دار الكمال المتحدة أخرجت نسخة إلى الآن لما اطلع عليها، المفروض منهم على حسب طريقتهم في العمل أنهم عالجوا هذه المشكلة، خُدم قبل ذلك، لكنها ليست متقنة على رواية أبي ذر.

نرجع إلى موضوعنا، عند المشارقة أشهر الروايات أو الأسانيد هذان الإسنادان، لكن إسناد أبي الوقت، هو الأشهر عندهم، أما المغاربة فالأشهر عندهم رواية أبي ذر، وأبو ذر هذا الهروي، هو عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير.

الوقت لن يكفي، طيب نذكر قصة أبي ذر ونتوقف عندها إن شاء الله.

أبو ذر الهروي توفي سنة 434ه هو عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير المعروف ببلده بابن السمّاك الأنصاري الخرساني الهروي المالكي، إيش هو؟ مالكي، وهذه مهمة طبعًا ستفيدكم بشيء.

صاحب التصانيف، وراوي الصحيح عن الثلاثة: المستملي، والحمُّويي، والكشميهني، قال: "ولدت سنة خمس وخمسين أو ست وخمسين وثلاثمائة" سمع من مشايخه الثلاثة، ومن الدارقطني وغيره، حدّث عنه ابنه أبو مكتوم عيسى، حدّث عنه الجامع الصحيح، وأهل المشرق يروون الجامع الصحيح إحدى الطرق عندهم من طريق ابنه هذا، والقاضي أبو الوليد الباجي، وهذه رواية المغاربة تأتي من هذه الطريق وغيرها، لكن هذه مشهورة عندهم، وروى عنه بالإجازة أبو عمر ابن عبد البر، وأبو بكر الخطيب البغدادي، كان ثقة ضابطًا ديّنًا، مات بمكة في ذي القعدة سنة 434ه، وقال الأمين ابن الأكفاني: "حدثني أبو علي الحسين بن أبي حريصة، قال: بلغني أن أبا ذر مات سنة أربع بمكة وكان على مذهب مالك ومذهب الأشعري" مذهب أبي الحسن الأشعري، يعني كان أشعريًا ما كان سلفيًا، قال الذهبي: "أخذ الكلام ورأي أبي الحسن عن القاضي أبي بكر ابن الطيب" يعني الباقلاني، "وبث ذلك بمكة" لاحظ الآن كل كلمة لها اعتبار، لأن هذا موضوعنا اللي كنا أشرنا إليه سابقًا "وبث ذلك بمكة، وحمله عنه المغاربة إلى المغرب والأندلس" شفتوا الشر العظيم كيف انتشر! كل هذا بسبب من؟ بسبب الدارقطني غفر الله له، وسيأتي إن شاء الله "وقبل ذلك كانت علماء المغرب لا يدخلون في الكلام، بل يتقنون الفقه أو الحديث أو العربية، ولا يخوضون في المعقولات، وعلى ذلك كان الأصيلي، وأبو الوليد بن الفرضي، وأبو عمرو الطلمنكي، ومكي القيسي، وأبو عمرو الداني، وأبو عمر ابن عبد البر والعلماء" انتهى.

شوف إيش اللي عمل الدارقطني عشان وصلنا إلى هذه النتيجة؟

كان يمشي أبو ذر الهروي مع الدارقطني والتقوا بأبي بكر الباقلاني فالتزمه الدارقطني، يعني حضنه، وقبّل على رأسه وأثنى عليه، لما سأله أبو ذر الهروي من هذا؟ فقال هذا، وهذا، وهذا وأثنى عليه، أثنى عليه بماذا؟ بمحاربته أهل البدع من المعتزلة وما شابه، فذهب أبو ذر الهروي إلى أبي بكر الباقلاني، وأخذ عنه الأشعرية، ومعه أيش؟ معه صحيح البخاري، والرجل ديّن، معروف بالحفظ، فأقبل عليه الناس، وذهب إلى مكة، مكة مكان اجتماع المسلمين، وطلبة العلم، وعالم يأتون هناك، فنشر الأشعرية، وأخذ الناس الأشعرية عنه، وذهبوا إلى المغرب، ونشروها في الأندلس، وفي بلاد المغرب، ولا الناس كانوا على السلفية، ما كانوا بهذه الطريقة، هو كان سببًا لذلك، الدارقطني السبب الرئيس في هذا الأمر، رحمه الله وغفر له، الدارقطني كان سنيًا، لكن هذه الغلطة أدت إلى هذه المصيبة، وهذا ما يحاول المميعة أن يفعلوه، تصافح أهل البدع، تسلم عليهم، تثني عليهم وتدافع عنهم، اجتهدوا وأخطأوا، خلاص ليش تشدد في الأمور؟ هذا الذي يريدون، وهذه النتيجة، تحول الناس إلى الأشعرية بسبب ثناء الدارقطني على أبي بكر الباقلاني أمام أبي ذر الهروي، هذه هي خطورة الثناء على أهل البدع التي كان قد أدركها السلف، وحذّروا منها أشد التحذير، لكن بعد القرون الثلاثة الأولى، اختلفت الموازين عند كثير من الناس، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خالفهم أو من خذلهم، حتى يأتي أمر الله، انتشر منهج التمييع بشكل كبير، وصار الاختلاط بين السني والمبتدع أمرًا مستساغًا، لا ينكر، بل ينكر على من أنكر، فعمّ وطمّ الفساد في الأرض، وكثرت البدع، وانتشرت بين الناس، خاصة إذا كان المبتدع ديّنًا، ويظهر الدفاع عن السنة، خطره أعظم من خطر غيره.

انظر الآن! أبو ذر الهروي معه صحيح البخاري، والرجل وصفوه بالدين، وصفوه بالحفظ، فأقبل الناس عليه وأخذوا منه، الناس لا تغتر بفاسد، لكن تغتر بمن يظهر الصلاح، ومن كان عنده دين، فالتحذير من هذا أولى من التحذير من غيره، وهذا ما فعله النبي (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاته، وصيامه إلى صيامه، وقراءته إلى قراءته، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ما قال لكم النبي هذا؟ إذًا ليش تنخدع؟

فاحذروا بارك الله فيكم من منهج الميوعة الذي انتشر بشكل كبير، وعليه مدافعون، وله مروجون في هذا الزمن كثر، فالتشديد في أمره واجب في محاربته في هذا الزمن، والغلظة على أهله، لا بد منها، من أجل فصل الحق عن الباطل، وتخليص الناس من البدع والضلالات.

ثناؤك على أهل البدع، ومجالستك لهم تضرك في دينك، وتضر غيرك أيضًا بأن ينخدعوا بما فعلت، كما حصل مع أبي ذر مع الدارقطني.

بقي أن نتحدث عن اليونينية نسخة البخاري هذه، ثم ندخل في الموضوع، نترك ذلك للدرس القادم. نكتفي بهذا القدر. والحمد لله، والله أعلم.

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الاحد 1 ذو الحجة 1444
عدد المشاهدات 585
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق