الدرس الثالث: بتاريخ: 14/11/1444ه – 03/06/2023
الحمد لله، أما بعد:
فهذا المجلس الثالث من مجالس شرح صحيح البخاري، أسأل الله أن ينفع بها وأن يتقبل منا ومنكم.
وصلنا عند الحديث الثالث من أحاديث باب: "بدء الوحي".
الإمام البخاري رحمه الله بدأ بكيفية نزول الوحي وما يتعلق بذلك؛ لأن الشريعة جاءت عن طريق الوحي، فأول أمرها الوحي، فلذلك بدأ البخاري بالوحي، وكيفية نزوله، وما يتعلق به.
ثم بعد ذلك ثنّى بكتاب "الإيمان"؛ لأنه أول واجب على العباد، ومِنه كلمة التوحيد، فتكلّم أو كتب رحمه الله في تعريف الإيمان وذكر فيه أبوابًا للرد على المرجئة.
ثم ثلّث بكتاب "العلم"؛ لأن الشريعة لا يُعمَل بها عملًا مقبولًا عند الله إلا بالعلم، فطاعتنا لله تبارك وتعالى يجب أن تكون على ما شرع الله تبارك وتعالى، وهذا لا يُعرَف إلا بالعلم فلذلك ذكره الإمام البخاري رحمه الله بعد كتاب الإيمان.
ثم بعد ذلك ربّع بكتاب "الطهارة"؛ لأن الركن الثاني من أركان الإسلام بعد ركن التوحيد هو ركن الصلاة، والصلاة لا تصح إلا بالطهارة، فهي مقدَّمة؛ لذلك قدمها رحمه الله، ثم بعد ذلك تابع الكتب على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهو ترتيب علميٌّ نفيسٌ من هذا الإمام الذي جمع بين العلم والصلاح والحفظ والإمامة.
معنا اليوم الحديث الثالث من أحاديث بدء الوحي.
القارئ: أحسن الله إليكم شيخنا، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد:
فقد قال المؤلف البخاري -رحمه الله تعالى وغفر له ورفع قدره ولشيخنا وللحاضرين والسامعين-: "حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عن عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاء، فَجَاءَهُ الملَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾ [العلق: 2] فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي» فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ»، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ"
الشيخ: قال رحمه الله:
"حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ": هو يحيى بن عبد الله بن بكير المخزوميّ مولاهم، أبو زكريا المصري، يُنسَب إلى جدّه مباشرةً من غير ذِكر أبيه لشهرته بذلك، فتجده في الأسانيد: يحيى بن بكير، لكنه يحيى بن عبدالله بن بكير، هذا ينفعك عندما تبحث عن الرجل في كتب الرجال وتكون هذه الكتب مرتبة على حروف الهجاء: الاسم الأول والثاني والثالث، فتبحث عن يحيى بن بكير فلا تجده في موضعه الذي تظنه فيه، لأن اسمه الحقيقي هو يحيى بن عبد الله بن بكير، لذلك تكون حذرًا ومنتبهًا لمثل هذه الأسماء، فهذا يُنسب إلى جدّه لأن النسبة إليه أشهر، ويحيى بن بكير هذا ضعيفٌ إلا في روايته عن الليث بن سعد، قال ابن عَدِيّ: "هو أثبت الناس فيه" يعني في الليث بن سعد، انتهى.
وتكلَّمُوا أيضًا في سماعه من مالك.
مات سنة إحدى وثلاثين ومئتين (231هـ) وله سبعٌ وسبعون سنة.
روى له البخاري ومسلم وابن ماجه، وغالب ما روى له البخاري عن الليث كهذه التي معنا، وانتقى من رواياته انتقاءً عن بعض الشيوخ.
هنا مثل هذا سيمرّ معنا أكثر من مرة.
بعض الرجال قد تكلَّم فيهم علماء الحديث بكلام يُضعِّفهم لأن الجرح فيهم يكون مُفسَّرًا، كيحيى هذا.
بعض أهل العلم ذهب إلى قاعدة: أن كل من أخرج له البخاري وسلم فقد تجاوز القنطرة ويُحتَجُّ به.
هذا الكلام غير مُسلَّم، هذا القول ضعيف، فمُسلِم نفسه أقرّ بإخراجه لبعض الضعفاء، كيف يفعل في هذا؟! وبعض الذين أخرج لهم حتى البخاري ضَعْفُهم بيّنٌ واضحٌ ظاهرٌ، إلا أن البخاريَّ ومُسلمًا قد انتقيا من رواية أمثال هؤلاء انتقاءً، إما أن يكون هذا الراوي لم يتفرد بالحديث أصلًا وقد تابعه غيره كما فعل مسلم وذكر هذا لما انتقدوا عليه بعض من أخرج لهم من الضعفاء قال: "عندي لها أصول صحيحة"، أو أن يكون البخاري أو مسلم قد انتقيا من روايات هذا الضعيف انتقاءً.
أنتم تعلمون أن بعض الرجال لا يكون ضعيفًا من كل وجه، مثل يحيى بن بكير الذي معنا هنا، روايته عن الليث بن سعد قوية، فينتقون مثل هذه الروايات ويخرجونها في كتبهم، وهُم أئمة حُفّاظ يعرفون ما أخطأ فيه الراوي وما أصاب، فلذلك لا نضعّف الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وفي سنده راوٍ كهذا حتى وإن كان ضعيفًا من رواياته الضعيفة، لماذا؟
لأننا نعلم أن البخاريَّ ومسلمًا قد انتقيا من روايته انتقاءً إلا إن انتُقِد الحديثُ، عندئذٍ نرجّح بالأدلة والقواعد العلمية التي تعلمناها، وستأتي أمثلة على ذلك من خلال دروسنا هذه إن شاء الله.
هذا -يحيى بن بكير- الذي معنا الآن:
أولًا: روايته عن الليث بن سعد وهي رواية صحيحة فلا إشكال.
ثانيًا: هو مُتابَعٌ، لم يتفرد بهذا الحديث من هذه الطريق.
و"اللَّيْثُ": هو ابن سعد بن عبد الرحمن الفَهْمِيُّ، أبو الحارث المصريّ، فقيه المصريّين في وقته، ثقةٌ ثبْتٌ حافظٌ إمامٌ مشهورٌ من أئمة أهل السنة والجماعة، كان أحد أئمة وقتِه.
فالليث بن سعد كان في مصر في عهد أتباع التابعين كما كان مالك في المدينة، وكان الأوزاعي في الشام، وسفيان بن عيينة في مكة، وسفيان الثوري في الكوفة، وعبد الله بن المبارك في خراسان، هؤلاء كانوا أئمة الإسلام في وقتهم رحمهم الله، وكلهم من أهل السنة والجماعة من أئمة السلف رضي الله عنهم، وهو من أتباع التابعين.
مات في شعبان سنة خمسٍ وسبعين ومئة (175هـ).
روى له الجماعة، أي: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه.
الليث بن سعد يروي "عن عُقيل".
و "عُقَيْلٌ" هذا هو ابن خالد، عُقَيْلُ بنُ خَالِدٍ بن عَقِيل، الأول بضم العين والثالث بفتح العين، عُقَيْلُ بنُ خَالِدٍ بن عَقِيل الأَيْلِيُّ، نسبة إلى مدينة "أَيلة" على بحر القُلزُم الذي يسمى اليوم: البحر الأحمر، و "أيلة" اليوم في مدينة العقبة، في الساحل الأردني اليوم، هو اليوم الساحل الأردني، لكن على الخريطة القديمة هذا لم يكن من الأردن، لأننا عندما نتحدث عن الخرائط لا تتصور الخرائط الموجودة اليوم، هذه الحدود وضعها المستَدمِر الذي جاء ودمّر بلاد الإسلام (فرنسي – بريطاني – وغيرهم...) الشام كانت واحدة من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها.
هو أبو خالد الأموي، مولى عثمان بن عفّان، ثقةٌ حافظٌ حجّةٌ مِن أثبت الناس في الزهري، سكن المدينة ثم الشام ثم مصر، مات سنة أربعٍ وأربعين ومئة (144ه)، روى له الجماعة.
عُقيل يروي عن "ابْنِ شِهَابٍ": وهو أبو بكر، مُحَمَّدُ بنُ مُسْلِمِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بنِ شِهَابِ القُرشيّ الزُّهريّ، هذا أيضًا يُنسَب إلى جدّ جدّه لشهرته، يقال له ابن شهاب
الزُّهْرِيُّ: نسبة إلى جدّه الأعلى: زُهرة بن كلاب وهو من رَهْطِ آمنة أم النبي ﷺ.
ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ إمامٌ، اتفقوا على إتقانه وإمامته وجلالته، من أئمة التابعين، توفي سنة خمسٍ وعشرين ومئة (125هـ)، روى له الجماعة.
وابن شهابٍ روى عن "عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بن العوام": ثقةٌ فقيهٌ تابعيٌّ، تقدم، وهو مِن أثبتِ من روى عن عائشة رضي الله عنها.
عن "عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ": رضي الله عنها، تقدم ذكرها.
"أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ".
"مِن": بيانيّة، أي لبيان ما بُدئ به، أَوَّلُ مَا بُدِئَ بماذا؟ أو تتحدث حول ماذا؟ من الوحي؛ تبيّنُ لك ما الذي تتحدث عنه، فــ "مِن" بيانية، أو تبعيضية: أي من أنواع الوحي، الوحي أنواع كما سيأتي: منه الرؤيا الصالحة وهذه التي بُدئ بها.
"الرؤيا": في المنام تُكتَب بالألف، والرؤية بالعين تُكتَب بالتاء المربوطة، هذا الفرق بينهما في الكتابة، لذلك عند النطق بها عند الوصل، الثانية تُنطَقُ تاءً والأولى لا.
قالت: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ": يعني الصادقة كما في رواية أخرى، وهي التي ليس فيها خلطٌ وكذبٌ ولَبسٌ.
قال أهل العلم: "بُدِئَ ﷺ بِذَلِكَ لِيَكُونَ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِلْيَقَظَةِ، ثُمَّ مُهِّدَ لَهُ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا بسَلَامَ الْحَجَرِ عليه وغير ذلك" هي مقدمات، تمهيد.
قال ابن القيم رحمه الله: "هَذَا شَأْنُهُ -سُبْحَانَهُ- أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ مُقَدِّمَاتٍ تَكُونُ كَالْمَدْخَلِ إِلَيْهَا"
قالت: "فِي النَّوْمِ" هذا لزيادة الإيضاح أو لإخراج رؤية العين.
"فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ" تريد أنها واضحة وضوح الشمس.
وفلق الصبح: ضوء الصبح، وشُبّه به لظهوره الواضح الذي لا خفاء فيه.
"ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ": الخلاء: المكان الخالي، ويراد به الخلوة، ففي الخلوة فراغ القلب لما يريده العبد وانقطاع المشاغل فلا يقطعه شيء عما هو فيه.
"وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ": الغار: هو نَقْبٌ في الجبل، حفرة كبيرة في الجبل، و "حراء": جبل معروف بمكة.
"فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ": هذه الكلمة جاءت مفسّرة في الحديث فقال: "وَهُوَ التَّعَبُّدُ": تفسيرٌ للتحنّث، حقيقة التحنّث في الأصل: هو أن يفعل فعلًا يتخلص به من الحِنثِ ويتجنبه، والحِنث: هو الإثم، فكأن المتعبّد يلقي الإثم عن نفسه بالعبادة.
وقوله: "وَهُوَ التَّعَبُّدُ" هذا مُدرَجٌ في الخبر، أخذتم الإدراج وعرفتم معناه، وهذا من الإدراج في المتن، دلَّ على هذا الإدراج رواية البخاري في التفسير، في كتاب التفسير ستأتي إن شاء الله، ففيها قال: "التحنث التعبد"، أوضحت هذه أن هذا جاء للتفسير.
"اللَّيَالِيَ": أي يتحنث الليالي مع أيامهن، يتعبد في الغار.
"ذَوَاتِ العَدَدِ": صواحب العدد، يعني يبقى في الغار يتعبد أيامًا وليالٍ، كم عددها؟ الله أعلم.
الشُّرّاح عندما يشرحون الأحاديث أحيانًا يخوضون في:
1- مسائل لا فائدة من الخوض فيها.
2- وأحيانًا يخوضون في مسائل لا دليل عليها وإنما هي اجتهادات، ولسنا مضطرين للوقوف عليها.
3- وأحيانًا يخوضون في مسائل لا دليل عليها ولكننا بحاجة إلى معرفتها، هذه لا بد أن يكون في الشرع ما يشير إليها، فاجتهاداتهم تُظهِر لك ذلك وتبينه.
هذه الثالثة هي التي تهتم بها وتركز عليه، أما الأولى والثانية فلا داعي أن تشغل نفسك بها وتشغلك عما هو أهم، لا بأس من الاطّلاع عليها لو كان عندك وقت، لكن إذا ما كان عندك وقت لا تشغل نفسك بها، فتجدهم يسوّدون صفحات في البحث عن مسألة لا يوجد ما يدلهم عليها في الشرع، ولسنا بحاجة إليها أصلًا.
قالت: "قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ" أي: قبل أن يرجع إلى أهله، "يَنْزِعَ" هي بمعنى يرجع.
"وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا" أي: يأخذ معه زادًا يكفيه لمثل تلك الليالي.
التزوّد: هو استصحاب الزاد، يعني تأخذ معك زادًا.
و "خَدِيجَة": هي أم المؤمنين خديجة بنت خُوَيْلِدِ بنِ أَسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى بنِ قُصَيِّ، تلتقي مع النبي ﷺ في قصي، القُرَشِيَّةُ، الأَسَدِيَّةُ، زوج النبي ﷺ، هي أول من آمن بالله ورسوله من النساء وآزرَته على أمره.
قيل: تزوجها رسول الله ﷺ وهو ابن خمس وعشرين سنة وكان عمرها حينئذٍ أربعين سنة؛ هكذا قالوا والله أعلم، وأقامت معه أربعًا وعشرين سنة، والله أعلم.
كلُّ أولاد النبي ﷺ منها إلا إبراهيم، إبراهيم من ماريَة القِبطيّة، ومارية هذه كانت جارية أهداها المقوقِس للنبي ﷺ، والمقوقِس هذا كان حاكم مصر، قبط الأقباط، كان كافرًا، أهدى مارية للنبي ﷺ فأنجب منها إبراهيم، كانت أَمَةً سُرِّيّةً له يتسرّى بها؛ ملك يمين ولم تكن زوجة، نركّز على هذا لأنهم اليوم -بعض دعاة الضلالة تبعًا لمن أمرَهم- يحاولون أن يجعلوها من زوجات النبي ﷺ مع أن هذا بالاتفاق ليس صحيحًا، ولا قال به أحد من علماء الإسلام سابقًا فيما نعلم، ما الذي يريدونه من هذا؟ يريدون إنكار الرّقّ في الإسلام، وهذا باطل، الرق ثابت في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ومن أنكره يكفر، وهذه مارية كانت ملك يمين، ما كانت حرة ولا كانت زوجة للنبي ﷺ، بعد موت النبي ﷺ صارت حرة، ولعله يأتي لها مناسبة خاصة إن شاء الله.
سلّم عليها رب العزة تبارك وتعالى -أي على خديجة- وجبريل، (وأُمِرَ النبي ﷺ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيْهِ وَلَا نَصَبَ) توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين، رضي الله عنها وأرضاها.
"حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ": أي الأمر الحق وهو الوحي، جاء النبيَّ ﷺ جبريلُ وهو في غار حراء، وفي رواية: "حتى فَجِئَهُ الحق" أي جاءه فجأة بغتة.
"فَجَاءَهُ المَلَكُ" الذي هو جبريل "فَقَالَ:" الملَك للنبي ﷺ "اقْرَأْ، قَالَ:" النبي ﷺ "«مَا أَنَا بِقَارِئٍ»" أي لا أحسن القراءة، "قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي" يعني: ضمّني وعصَرَني وضغَطَني، "حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ" أي بلغ الغَطُّ منّي غاية وُسعي، ورُوي بالضم والرفع أي: الجُهدُ، أي: بلغ مني الجُهدُ مبلغه، "ثُمَّ أَرْسَلَنِي" يعني أطلقني "فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي" فلما قال ذلك ثلاثًا "فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾" اقرأ أيها الرسول ما يوحيه الله إليك مفتتحًا باسم ربك الذي خلق جميع الخلائق "﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾" مِن قطعة دمٍ متجمدةٍ بعد أن كانت نطفةً "﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾" اقرأ أيها الرسول ما يوحيه الله إليك وربك الأكرم المتصف بغاية الكرم، الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه، فهو كثير الجود والإحسان تبارك وتعالى.
قال: "فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" رجع بالآيات التي أوحي إليه بها، أو رجع بالقصة التي حصلت معه "يَرْجُفُ فُؤَادُهُ" يخفِقُ قلبُه ويضطرب، "فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»" يعني غَطّوني غَطّوني "فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ" الفزع؛ الخوف الشديد، يرجف فؤاده من الخوف، فدخل وأراد أن يُغطّوه حتى يطمئن ويهدأ، فغطوه وهدأ "فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ" ما الذي حصل معه، قال: "«لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»" أي خاف على نفسه الموت بسبب ما رآه، وبسبب ما حصل له في الغار، "فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا" هذا نفيٌ "وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا" من الخِزيِ: وهو الذل والهوان
"إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ": لماذا لا يخزيك الله؟ قالت: "إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ" يعني لأنك تصل الرحم، الرحم: القرابة، أي تُحسِن إلى قرابتك، والإحسان إليهم على حسب حال الواصل والموصول إليه، والضابط هو العرف وسيأتي لهذا مبحثٌ خاصٌّ.
"وَتَحْمِلُ الكَلَّ": وهو من لا يستقلّ بأمره، والمعنى: تحمل الذي لا يستطيع أن يحمل نفسه لتعبه فإنك تحمله، إن كان فقيرًا فبالمال، وإن كان ضعيفًا جسديًّا فبالمعونة، وهكذا...
"وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ": أي: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك.
"وَتَقْرِي الضَّيْفَ": يعني: تكرم الضيف.
"وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ": النوائب: جمع نائبة وهو ما ينوب الإنسان، يعني ما ينزل به من النوازل والحوادث، أي تعين من أصابته حاجة ونزلت به نازلة، تعينه في أمره وتخفف عليه وهذا لفظ عامٌّ مِن خُلقه ﷺ.
معنى كلام خديجة رضي الله عنها: إنك لا يصيبك مكروه لما جعله الله سبحانه وتعالى فيك من مكارم الأخلاق، وجميل الصفات، ولإحسانك إلى الخلق، هذا معنى جملة كلام خديجة رضي الله عنها.
كيف عرفَت هذا؟ قال العلماء: بالاستقراء، أي بالنظر إلى أحوال الناس وأن الإنسان إذا كان بهذه الصفات لا يخزيه الله سبحانه وتعالى.
قال أهل العلم: "فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْفَوَائِدِ اسْتِحْبَابُ تَأْنِيسِ مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ بِذِكْرِ تَيْسِيرِهِ عَلَيْهِ وَتَهْوِينِهِ لَدَيْهِ".
هذا ما فعلته خديجة رضي الله عنها، وهذا ما يُستحَبّ أن يُفعَل إن نزل بشخصٍ نازلة وجاءك بها، تهوِّن عليه، تخفِّف عنه، لا تأخذ باللوم والعتاب وما شابه حتى تزيد عليه الحِمل، بل هوِّن عنه وخفِّف عليه ما استطعت، هذا ما فعلت خديجة رضي الله عنها.
ثم من نزل به أمر استُحبّ له أن يُطلع عليه من يثق به، يثق بمشورته؛ بنصحه؛ يثق بحكمته في التعامل معه فيما نزل به، هذا أيضًا من الأمور التي تُستفاد من مِثل هذا.
"فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ" أي: مضت معه، الباء هنا للمصاحبة، أي اصطحبَته إلى ورقة، الباء هذه مهمّة، المهم في أمرها معرفة معناها عند دخولها في الجُمَل، لها من المعاني أربعة عشر معنىً ذكرها ابن هشامٍ في "المغني" وهي غاية في الأهمية، وإذا استصعب عليك فهم كلام ابن هشام فارجع إليها في "جامع الدروس العربية" للغلاييني، ذكرها هناك كاملة بألفاظٍ أسهل.
- من المعاني التي تأتي بها الباء هذه المصاحبة التي هي بمعنى "مع"، تقول: بعتك الدار بأثاثها، أي: مع أثاثها، مصحوبة بأثاثها.
- ومن معانيها: السببية، أي يكون ما بعدها سببًا لما قبلها.
وهو أحد المعاني التي قيلت في (إنما الأعمال بالنيات) قال بعض العلماء: الباء هذه باء السببية، فالنيات مقوِّمة للعمل وكأنها هي المسبِّبة للأعمال، والمعنى الآخر قالوا: هي للمصاحبة أيضًا، بمعنى: مع، فالنيات مصاحبة للأعمال.
- ومن معانيها: الاستعانة، كما هو أحد المعاني للباء التي في بسم الله أو هو أحد المعاني التي قالها بعض أهل العلم.
هذا فصّلت فيه قليلًا هنا لأني أجملت (إنما الأعمال بالنيات) في الباء في الدرس الماضي.
"فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ" فهو ابن عمّها، أبوه وأبوها أَخَوان.
"وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ" أي صار نصرانيًا وترك عبادة الأوثان وفارق طريق الجاهلية.
والجاهلية: هي الوقت قبل بعثة النبي ﷺ، سمُّوا بذلك لما كانوا عليه من فاحش الجهالة، وقد تُطلَق الجاهلية ويراد بها ما قبل دخول المحكِيّ عنه في الإسلام، تكون هذه جاهلية خاصّة.
"وَكَانَ -أي ورقة- يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ" العبرانية: لغة اليهود "فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ" الإنجيل: الذي نزل على عيسى "مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ" وفي رواية في الصحيحين: "وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ، وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ" والكل صحيح، يعني تَمكَّنَ من معرفة دين النصارى بحيث إنه صار يتصرّف في الإنجيل فيكتب أي موضع شاء منه بالعبرانية إن شاء أو بالعربية إن شاء، هذا هو السبب الذي جعل خديجة تأتي بالنبي ﷺ إليه، عنده علم بمثل هذه الأمور.
"فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ" هذا هو الصواب: يا ابن عم وليس يا عم، وقعت رواية في صحيح مسلم: "يا عم" وهي وهم، والصواب: "يا ابن عمِّ" "اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ" هذا على سبيل التوقير لسنه، لأنه أكبر من النبي ﷺ سنًّا فقالت له هذا "فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي" قال للنبي ﷺ "مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى".
الناموس في اللغة: هو صاحب السر، والمراد بالناموس هنا: جبريل عليه السلام.
قال أهل العلم: لمَ ذكر موسى ولم يذكر عيسى؟ قالوا: لأن رسالة عيسى عليه السلام كانت تابعةً لرسالة موسى والتوراة هي الأصل والإنجيل متمّمٌ لها، هذا قول والله أعلم.
قال: "يَا لَيْتَنِي فِيهَا" أي: في مُدَّة الدعوة "جَذَعًا" الجَذَع: هو الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعوة إلى الإسلام شابًّا ليكون أقوى على نصرة النبي ﷺ لأنه يعلم ما الذي سيحدث عندما يبدأ النبي ﷺ بدعوته، ولذلك وصفوه بكونه كان كبيرًا أعمى حتى تفهم معنى كلامه هذا، "لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ" أي: لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حين يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ من مكة، فقال رسول الله ﷺ: "«أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ»" استفهام على وجه الاستبعاد والتفجّع والتألّم، قومي يخرجوني! لماذا؟ استبعد النبي ﷺ هذا لأنه ما كان في سبب يقتضي إخراجه.
قال ورقة: "نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ" هذه سُنّة الله في خلقه، وفي رواية عند البخاري: "إلا أوذي" الأذى حاصلٌ ولا بدّ.
ذَكَرَ ورقةُ أن العلَّةَ في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم مِن الكُتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة بسبب هذا الأمر.
"لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ" وهكذا دعوة العلماء فهُم ورثة الأنبياء، إذا دعا العالم إلى ما جاء به النبي ﷺ أوذي ولا بد، فلا بد من الصبر، نسمع كثيرًا من طلبة العلم عندما يؤذى ويُتكلَّم فيه ويُحارَب يقول: سأجلس في بيتي وأُغلق على نفسي بابي، مالي ولهذا! هذا يريد أن يفرّ من الزحف لمجرّد أذىً صغيرٍ أصابه في ذات الله، ما الذي أصابك أمام ما أصاب الأنبياء والرسل؟! الصبر على الدعوة مقامٌ عظيمٌ، فمن قام هذا المقام وصبر كصبر أهل الإيمان من الأنبياء والرسل ومن اتبعهم من أئمة هذا الدين نال الرفعة والعزة، هذه لا تُنال من غير أذى؛ من غير ابتلاء، الابتلاء لا بد منه، هذا ما يفيده ما قاله ورقة.
قال: "وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا" يعني: يوم إخراجك أكون حيًّا في ذاك اليوم ويدركني هذا اليوم سأنصرك نصرًا قويًّا، لكن "لَمْ يَنْشَبْ" يعني لم يلبث "وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ" فتوفي ورقة ولم يدرك بلالًا وهو يعذّب، فما ورد في السيرة من أنه أدركه وهو يعذب وكلمه ضعيف لا يثبت.
من الغريب الذي تجده في بعض الشروح أنهم يأخذون في تأويل مثل هذه الأخبار أو حتى بعضهم يقدم ما في السيرة على ما في الصحيح، وهذا من العجب!
السيرة فيها أخبار كثيرة ضعيفة لا تثبت، وفيها أخبار مناقضة لما في الصحيحين، فلا يُنظر إلى خبر لا إسناد له صحيح، ويقدّم على الأخبار الصحيحة الثابتة، خلاص هنا دل هذا الحديث على أن ورقة مات قبل أن يُعذَّب بلالٌ، إذًا انتهى، إذًا ما هو في السيرة خطأ، انتهى الموضوع، بس.
فتور الوحي: يعني انقطاعه، يعني انقطع الوحي مدة قبل أن يرجع وينزل مرة أخرى.
قال أهل العلم: هذا الانقطاع كان ليذهب ما كان ﷺ وجده من الخوف الشديد والفزع، وليحصل له التشوق إلى العَود، فقد روى المؤلف في التعبير من طريق مَعمر ما يدل على ذلك.
هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن ثلاثة هم مِن أثبت أصحاب الزُّهريّ: مَعمَر وعُقيل ويونس، وله طرقٌ عنهم، وهو حديث صحيح متفق عليه لا إشكال فيه ولا علة له بفضل الله سبحانه وتعالى.
القارئ: قال رحمه الله: "قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ: وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: "بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَالرجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5]. فَحَمِيَ الوَحْيُ وَتَتَابَعَ".
"تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ: بَوَادِرُهُ"
الشيخ: هذا الحديث الرابع.
"قَالَ ابْنُ شِهَابٍ" الزهري الإمام، تقدم.
"وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ" بن عوف الزهري المدني، اسمه كنيته، ثقة فقيه بحر إمام حافظ كثير الحديث، تابعي، كان مولده سنة بضع وعشرين، توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين أو مئة وأربع، روى له الجماعة.
قول ابن شهاب الزهري: "وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ" لماذا أتى بحرف العطف هنا "وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ"؟
كي يبين لك أن هذا معطوفٌ على ما قبله، فهذا الإسناد ليس معلّقًا كما توهّم بعض أهل العلم، يعني كأن الزهري رحمه الله يقول في هذا الحديث: حدثني عروة بكذا وأخبرني أبو سلمة بكذا بنفس الإسناد الذي تقدم عند البخاري رحمه الله الذي هو: يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هذا تقدير الإسناد فهذا الخبر ليس معلّقًا، وسيأتي عند البخاري موصولًا عن عبد الله بن يوسف عن الليث عن عقيل به.
"أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ": هو جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ الأنصاري السَّلِمِيُّ، صحابي ابن صحابي، شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صغير، ولم يشهد العقبة الأولى، وفي شهوده غزوة بدرٍ روايتان، وغزا مع النبي ﷺ عدة غزوات، كان من المكثرين الحُفّاظ للسنن، فقدَ بصره في آخر عُمُره، وتوفي بعد السبعين وهو ابن أربع وتسعين، روى له الجماعة.
"قَالَ: وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ" أي: في حال التحديث عن المدة التي انقطع فيها الوحي عن النزول، كما قالت عائشة: "لم ينشب وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ" إلى هنا انتهى حديث عائشة.
الآن سيكمل لنا خبر انقطاع الوحي بحديث جابر، فجابر يحدث عن فترة انقطاع الوحي، ماذا قال؟
"فَقَالَ" النبي ﷺ "فِي حَدِيثِهِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي" بينا هذه ظرف زمان، أي أثناء الوقت الذي كنت فيه أمشي "إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ" لما رفع بصره ماذا رأى؟ رأى الملك الذي جاءه وهو في غار حراء، من هذا الملك؟ جبريل عليه السلام، رآه "جالسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" قال: "فَرُعِبْتُ مِنْهُ" خفت خوفًا شديدًا "فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" أي: غطوني غطوني "فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2] إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5]" أي: فنزلت ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ﴾: المتغطي بثيابه.
﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾: أنذر القوم الذين أشركوا بالله وعبدوا غيره، أي: خوِّفهم عذاب الله تبارك وتعالى
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّر﴾: وربك يا محمد فعظّم بعبادته والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد.
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّر﴾: طهّر نفسك من الإثم.
﴿وَٱلرُّجزَ فَٱهجُر﴾: الأوثان؛ اهجر عبادتها واترك خدمتها، هذا وإن كان لم يكن حاصلًا من النبي ﷺ لكنه أمر للبقاء على ما هو عليه من ترك ذلك، وهو أمر لأمته أيضًا وللناس جميعًا.
هذا يدل على أن هذه الآية ليست هي أول ما نزل من القرآن، لكنها أول بالنسبة للانقطاع، أي بعد الانقطاع هي أول آية نزلت لكن قبل ذلك أول ما نزل من القرآن مطلقًا هي ﴿اقرأ﴾.
قال: "فَحَمِيَ الوَحْيُ وَتَتَابَعَ" أي قوي واشتد وجاء بكثرة، في بعض روايات البخاري: "وتواتر" التواتر: مجيء الشيء يتلو بعضه بعضًا من غير تخلف.
"تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَأَبُو صَالِحٍ" تابعه: الضمير يرجع إلى من؟ الضمير يعود على يحيى بن بُكير، فيكون الرواة عن الليث ثلاثة: يحيى بن بكير يرويه عن الليث، وعبد الله بن يوسف يرويه عن الليث، وأبو صالح يرويه أيضًا عن الليث.
"عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ" التِّنِّيسيّ: ثقة تقدم.
ذكرنا أن من تقدم من الرواة نقتصر على قولنا ثقة إن كان ثقة ونمشي، نقتصر على قولنا ضعيف ونمشي، التفصيل تقدم في البداية، انتهى الأمر.
وثقة هذه أطلقها عليه سواء كان حافظًا أو ثقة أو صدوقًا، أقول ثقة وأمشي، أما الضعيف فأقول فيه ضعيف، والتفصيل عند الحاجة فقط.
"أبو صالح": هو عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجُهنيّ مولاهم، أبو صالح المصري، معروف بأنه كاتب الليث بن سعد، عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد، الراجح أنه ضعيف، يصلح في الشواهد والمتابعات، لا يرتقي إلى الاحتجاج به، ولا يقال فيه كذاب أو متروك، قيل فيه كل هذا والله أعلم.
أخرج له البخاري تعليقًا، وأبو داود والترمذي وابن ماجه أخرجوا له.
قوله: "وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ" هلال تابع من؟ تابع عقيلًا، فتكون من المتابعات التامة، هلال بن رداد تابع عقيلًا عن الزهري، هذه متابعة تامة لعقيل، أما إذا كان الضمير عائدًا إلى يحيى بن بكير تكون المتابعة هنا حاصلة أين؟ في الزهري، تابعه في الزهري، يعني التقى معه في الزهري.
"هلال بن رداد": شامي مجهول الحال، تفرّد بالرواية عنه ابنه، ولكن الذهلي أثنى عليه من وجه، وعلّق له البخاري، قال فيه الذهبي: "مجهول" وقال مرة: "لا يُدرى من هو" وقال ابن حجر: "مقبول" أي إن توبع، وإلا فلا، لم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، والبخاري ذكره هنا في صحيحه فقط، والله أعلم.
هذا التعليق -رواية هلال- وغيرها من المعلقات التي تقدّم تخريجها، ذكره الحافظ ابن حجر في شرحه فلا داعي للإطالة بذكر ذلك، لا داعي أن نقول لك مثلًا: رواية هلال أخرجها فلان ورواية عقيل أخرجها فلان إلى آخره...، لا داعي لهذا، رواية هلال، رواية أبي صالح، رواية عبد الله بن يوسف، فمن أرادها مخرّجة وموصولة يرجع إلى "تغليق التعليق" للحافظ ابن حجر أو "فتح الباري" وصلها هناك وبيّن من أخرجها موصولة.
قال: "وَقَالَ يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ بَوَادِرُهُ" أي أن أصحاب الزهري روَوا هذا الحديث فوافقوا عقيلًا عليه، لكنهم اختلفوا فروى عنه عقيل قال: "يرجف فؤاده" هذه رواية عقيل، وتابعه على ذلك هلال بن رداد، وروى عنه يونس ومعمر وقالا: "ترجف بوادره"، الآن دقّة الإمام البخاري رحمه الله في هذا تبيّن لك أين اتفقوا وأين اختلفوا.
و"ترجف بوادره": جمع بادرة: وهي اللحمة التي بين المنكب والعُنق، وهذه تضطرب عند فزع الإنسان، المعنى واحد لا إشكال، كله المقصود منه التعبير عن الخوف الشديد، لكن الدقة هذه في الرواية.
"يونس": هو ابنُ يَزِيْدَ بنِ أَبِي النَّجَادِ الأَيْلِيُّ، مولى معاوية بن أبي سفيان، ثقة، له منكرات، وهو من أثبت الناس في الزهري، من أتباع التابعين، مات سنة بضع وخمسين ومئة، روى له الجماعة.
"ومَعْمَرُ": هو ابنُ رَاشِدٍ الأَزْدِيُّ مَوْلَاهُم، البصري، سكن اليمن، لما دخل صنعاء كره أهل صنعاء أن يخرج من بين أظهُرِهم فقال لهم رجل: قيِّدوه فزوّجوه، هذا هو القيد، يعني ربطوه عندهم بالزواج، وهذا يدل على حرص أهل اليمن في ذاك الوقت على العلم، كانوا يعرفون قدر أهل العلم، وهو ثقة ثبت فقيه ورع، من أثبت الناس في الزهري، رواية البصريين عنه فيها ضعف، وكذلك روايته عن أهل العراق، قال أحمد في رواية الأثرم: "حديث عبد الرزاق عن معمر أحب إلي من حديث هؤلاء" البصريين، عبد الرزاق: الصنعاني "أحب إلي من رواية هؤلاء" يعني البصريين، "كان يتعاهد كتبه وينظر" يعني في اليمن "وكان يحدثهم بالخطأ في البصرة"، وقال يعقوب بن شيبة: "سماع أهل البصرة من معمر حيث قدم عليهم فيه اضطراب لأن كتبه لم تكن معه" وقال أبو حاتم: "ما حدّث معمر بن راشد بالبصرة ففيه أغاليط، وهو صالح الحديث" وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: "سمعت يحيى بن معين يقول: إذا حدّثك معمر عن العراقيين فخالفه" وفي نسخة: "فخَفه إلا عن الزهري وابن طاووس فإن حديثه عنهما مستقيم، فأما أهل الكوفة وأهل البصرة فلا" الزهري وابن طاووس ليسوا من العراقيين طبعًا، هذا يبين لك الفرق بين رواية العراقيين وغير العراقيين، فأما أهل الكوفة وأهل البصرة فلا، وما عمل في حديث الأعمش شيئًا، ومعمر أثبت في الزهري من ابن عيينة، قال ابن معين: "وحديث معمر عن ثابت وعاصم بن أبي النَّجود وهشام بن عروة وهذا الضرب مضطرب كثير الأوهام"
من أتباع التابعين، مات سنة أربع وخمسين ومئة، روى له الجماعة.
يعني باختصار رواية معمر قبل أن تصححها لا بد أن ترجع إلى ترجمته وتنظر ما الذي أصاب فيه وما الذي أخطأ.
قال ابن حجر في رواية: "يرجف فؤاده" ورواية: "ترجف بوادره": "فَالرِّوَايَتَانِ مُسْتَوِيَتَانِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا دَالٌّ عَلَى الْفَزَعِ"
وهذا الحديث متفق عليه من حديث الزهري وقد رواه عنه جمع في الصحيحين وغيرهما وتوبع الزهري عليه عند مسلم وغيره.
القارئ: أحسن الله إليكم شيخنا، قال المؤلف رحمه الله: "حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا، وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ قَالَ: جَمْعُهُ لَهُ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ قَالَ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ»".
الشيخ:
"حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ": المِنقريّ مولاهم، التَّبُوْذَكِيُّ، أبو سلمة البصري، مشهور باسمه وكنيته، ثقة ثبت حافظ من أتباع التابعين، مات سنة ثلاث وعشرين ومئتين، روى له الجماعة.
"حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ": الوضاح بن عبد الله اليشكري البزّاز الواسطي، مشهور بكنيته، ثقة ثبت، وكان كتابه في غاية الإتقان، قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أنه ثقة ثبت حجة فيما حدث من كتابه، وكان إذا حدّث من حفظه ربما غل"، انتهى.
من أتباع التابعين، مات سنة خمس أو ست وسبعين ومئة، روى له الجماعة.
"حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ": الهَمْدَانِيُّ، الهَمْدَانِيُّ وليس الهَمَذانيّ، الهَمْدَانِيُّ نسبة إلى قبيلة همدان في اليمن وما حول اليمن قبيلة كبيرة، هَمَذان: مدينة في خراسان النسبة إليها: الهَمَذاني.
الهَمْدَانِيُّ مولاهم، أبو الحسن الكُوْفِيُّ.
هو الذي يُذكَر عنه أنه قال: "ما أمر الله عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى غلو وإما إلى تقصير"
وهو ثقة عابد، من صغار التابعين، روى له الجماعة.
"قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ": بن هشام الأسَديّ الوَالِبِيُّ مَوْلَاهُم، الكوفي، تابعي من أصحاب ابن عباس، قتله الحجّاج بن يوسف صبرًا، قتله صبرًا: يعني كان أسيرًا عنده وقتله، وهذا كي يفرّقوا بينه وبين من قُتِل في المعارك، سنة خمس وتسعين، ثقة ثبت حافظ فقيه عابد،كان ينهى عن مجالسة أهل البدع، قال أيوب: «قال لي سعيد بن جبير: "ألم أرك مع طلق؟! قال: قلت: بلى، فما له؟ قال: لا تجالسه فإنه مرجئ"، قال أيوب: وما شاورته في ذلك -ما سألته عن الموضوع يعني- ولكن يحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه» انتهى كلامه. روى له الجماعة.
هذا يدلك -مثل هذا الأثر-على المنهجية التي كانت معروفة عند السلف رضي الله عنهم من أصحاب القرون الثلاثة الأولى، مباشرة رآه مع مبتدع أنكر عليه، وبيّن له أن هذا مبتدع، قبل أن تختلط الأمور ويظهر منهج التمييع.
"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ": هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو العباس، ابن عم رسول الله ﷺ، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين ودعا له رسول الله ﷺ بالفهم في القرآن، فقال: (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّيْنِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيْلَ)، فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه، وقال ابن مسعود: "نِعم ترجمان القرآن ابن عباس، لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا أحد" يعني لو كان في السن مثلنا ما بلغ أحد منا عُشر علمه.
مات سنة ثمان وستين بالطائف، وهو أحد المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة من فقهاء الصحابة.
والعبادلة أربعة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير
روى له الجماعة، كان إمامًا عالمًا بحرًا حتى إن كبار فقهاء الصحابة كانوا يعرفون له منزلته وقدره في العلم.
"فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾" كان النبي ﷺ إذا جاءه جبريل بالوحي وشَرع في تلاوته عليه بادره النبي ﷺ من حرصه عليه الصلاة والسلام على حفظه قبل أن يفرغ جبريل، فبادر النبي ﷺ وتلاه مع تلاوة جبريل إياه، فنهاه الله عن هذا وضَمِن له تبارك وتعالى أنه لا بد أن يحفظه ويقرأه وأن يجمعه الله له في صدره.
"قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً" المعالجة: هي محاولة الشيء بمشقة في تحصيله، والتنزيل: يعني تنزيل القرآن، "وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ" يحرك شفتيه ليحفظ ما ينزل عليه من القرآن خشية أن ينسى شيئًا منه، وفي رواية عند البخاري وغيره: "وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه" معناه كان كثيرًا ما كان يفعل ذلك، "فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا، وَقَالَ سَعِيدٌ" بن جبير راويه عن ابن عباس "أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ﴾" لا تحرك بالقرآن "﴿لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾" أي غايتك ومقصودك أن تعجل بحفظه "﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ قَالَ: جَمْعُهُ لَهُ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ" أي: ولا تنساه "﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ قَالَ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ".
معنى الآيات: لا تحرك أيها الرسول بالقرآن لسانك وشفتيك كما كنت تعمل لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلّت منك، فإن علينا أن نجمعه لك حتى نثبته في قلبك، ﴿فإذا قرأناه فاتبع قرآنه﴾ أي: إذا كمّل جبريل قراءة ما أوحى الله إليك فحينئذ اتبع ما قرأ واقرأه، ﴿ثم إن علينا بيانه﴾ أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه وحفظ معانيه، وهذا أعلى ما يكون، وهو الحاصل والحمد لله، مهما حاول أهل الضلال تحريفه فلن يُحرَّف، فهو محفوظ لفظًا ومعنى.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "وفي هذه الآية أدب لأخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم المعلمَّ قبل أن يفرغ من المسألة التي شرع فيها، فإذا فرغ منها سأله عما أشكل عليه، وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو قبوله، حتى يفرغ من ذلك الكلام، ليتبين ما فيه من حق أو باطل".
وهذا كما قال رحمه الله، فأنت عندما يبدأ الشخص بالكلام ربما تفهم من الكلام معنى غير الذي يريده فإذا أكمل كلامه اتضح الأمر فاصبر ولا تستعجل.
قال: "وليفهمه فهمًا يتمكن به من الكلام عليه، وفيها: أن النبي ﷺ كما بيّن للأمة ألفاظ الوحي، فإنه قد بيّن لهم معانيه" انتهى كلامه رحمه الله.
قال: "فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ" القائل هنا هو ابن عباس: "فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ..." إلى آخر ما قال.
أي استمع لقراءة جبريل، "فإذا انطلق" أي ذهب وانصرف من عنده "قرأه النبي ﷺ كما قرأه" جبريل، فامتثل ﷺ لأدب ربّه فكان إذا تلا عليه جبريل القرآن بعد هذا أنصت له فإذا فرغ قرأه.
هذا الحديث صحيح متفق عليه من رواية موسى بن أبي عائشة عن سعيد به، لا إشكال في صحته، ولا علة له والحمد لله، وقد توبع موسى على بعضه خارج الصحيحين، والله أعلم.
القارئ: أحسن الله إليكم شيخنا، قال رحمه الله: "حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ (ح). وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ»".
الشيخ:
"حَدَّثَنَا عَبْدَانُ": عَبْدُ اللهِ بنُ عُثْمَانَ بنِ جَبَلَةَ بن أبي روّاد الأَزْدِيُّ العَتَكِيُّ مَوْلَاهُمْ، معروف بعبدان، هذا لقبٌ له وهو معروفٌ به، أبو عبد الرحمن المَرْوَزِيُّ، ثقة حافظ، مات سنة إحدى وعشرين ومئتين (221ه)، روى له الجماعة سوى ابن ماجه.
"قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ" بنُ المُبَارَكِ بنِ وَاضِحٍ المَرْوَزِيُّ مولى بني حنظلة، قال إسماعيل بن عياش: "ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خصلةً من خصال الخير إلا وقد جعلَها في عبد الله بن المبارك" انتهى كلامه، قال ابن مهدي -هو عبد الرحمن بن مهدي وهو إمام معروف بعلم الجرح والتعديل- قال: "الأئمة أربعة: مالكٌ والثوريُّ وحمّاد بن زيد وابن المبارك" وقال أبو إسحاق الفزاري -من أئمة أهل الشام-: "ابن المبارك إمام المسلمين".
ثقةٌ مأمونٌ فقيهٌ جوادٌ مجاهدٌ إمامٌ من أئمة أهل السنة والجماعة، من أتباع التابعين، حتى قال بعضهم مبالغةً في وصف إمامة هذا الرجل: "ما سبقه الصحابة إلا بشرف الصحبة" كان قد بلغ من الصفات مبلغًا عظيمًا؛ صفات العلم والزهد والتقوى والحفظ، مات سنة إحدى وثمانين ومئة (181ه)، وله ثلاثٌ وستون سنة، ولد سنة ثماني عشر ومئة (118ه)، روى له الجماعة.
"قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ" هو ابن يزيد الأَيْلِيُّ، ثقةٌ له منكرات، مِن أثبت الناس في الزهري، تقدم.
"عَنِ الزُّهْرِيِّ": محمد بن مسلم بن شهاب، إمامٌ حافظٌ كبيرٌ، تقدم.
"ح": يعني تحويل الإسناد والرجوع إلى أول الإسناد من جديد.
"وحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ": فيكون بشر بن محمد هذا شيخ البخاري، هذا الشيخ الثاني له لأننا رجعنا إلى الإسناد من البداية فصار للبخاري شيخان.
"وحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ" أبو محمد المروزي السّختياني، وهو ممن انفرد البخاري بالرواية عنه عن سائر الكتب الستة، ذكره ابن حبان في ثقاته وقال: "كان مرجئًا" وقال ابن خلفون: "وقال أبو جعفر النحاس: بشر بن محمد المروزي ثقة" انتهى، مات سنة أربعٍ وعشرين ومئتين (224ه)، وهو هنا متابَعٌ.
"قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ" إذًا الآن اتحد المَخرَج في "عبد الله بن المبارك"، إذًا هما شيخان، يعني البخاري يروي الحديث عن عبدان وبشر بن محمد عن عبد الله بن المبارك، لكن ما قال هكذا البخاري وفرّق بينهما لما سيأتي.
قَالَ: "أَخْبَرَنَا يُونُسُ" بن يزيد، "وَمَعْمَرٌ": وهو ابن راشد ثقة، تقدم.
"عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ": أي أن عبد الله بن المبارك حدّثه به عبدان، عن يونس وحده، وحدّث به بشر بن محمد عن يونس ومعمر معًا، هذا الفرق بين الأمرين، أما باللفظ فعن يونس وأما بالمعنى فعن معمر.
"قال" الزهري "أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ" بن عتبة بن مسعود الهُذَليُّ، جدّه عتبة أخو عبد الله بن مسعود، عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عتبة بن مسعود، عبد الله بن مسعود يكون له هنا عمّ أبيه، أبو عبد الله المدني، ثقةٌ فقيهٌ ثبتٌ حافظٌ إمامٌ صالحٌ، أحد فقهاء المدينة السبعة، جامعٌ للعلم، وهو معلِّمُ عمر بن عبد العزيز، تابعي، مات سنة أربعٍ وتسعين وقيل ثمانٍ وتسعين، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.
الفقهاء السبعة تقدم ذكرهم وهم المجموعون في قول القائل:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر ... روايتهـــــم ليست عن العلم خارجـة
فقــــــــل هم عبيــد الله عروةُ قاسمٌ ... سعيدٌ أبو بكر سليمانُ خارجـــــــــــهْ
سعيد بن المسيب، عروة بن الزبير، القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدِ، خارجة بن زيد، أَبُو بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بنِ هشام، وسليمان بن يسار، وصاحبنا الذي معنا الآن: عُبَيْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ بن مسعود.
"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ": صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمّه، تقدم، صحابي.
قال ابن عباس: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ" أي أكثر الناس جودًا، هو أجود الناس على الدوام.
والجود: هو الكرم وهو من الصفات المحمودة، فكان ﷺ أجود الناس بماله وبدنه وعلمه ودعوته ونصيحته وفي كلِّ ما ينفع الخلقَ.
"وَكَانَ النبي صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ" أي: وكان أجود أوقاته وقتَ كونه في رمضان حين يلقاه جبريل.
قال أهل العلم: الحكمة في زيادة جوده ﷺ في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن أَنَّ مُدَارَسَةَ الْقُرْآنِ تُجَدِّدُ لَهُ الْعَهْدَ بِمَزِيدِ غِنَى النَّفْسِ، والقرآن خُلُقُه ﷺ -كما قالت عائشة رضي الله عنها-يأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه، وَأَيْضًا فَرَمَضَانُ مَوْسِمُ الْخَيْرَاتِ وزيادة الجود والكرم، وقد وصفه الله بأنه الذي أُنزِل فيه القرآن.
فمجموع ما ذُكر من الوقت الفاضل وهو رمضان، والمنزول به وهو القرآن، والنازل به وهو جبريل، ومدارسته معه حصل المزيد في الجود بكل ذلك والله أعلم.
"وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ" المدارسة: هي أن تقرأ على غيرك مقدارًا معلومًا ثم يقرأ عليك أو يقرأ قدره مما بعده وهكذا.
"فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ" هذا اسم جامع لكل ما يُنتفَع به؛ الخير.
"مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ" المرسلة: أي المُطلقة، يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح فيسارع إلى الخير ويجود به حتى إنه أسرع من الريح السريعة العاصفة.
قال أهل العلم: "عَبَّرَ بِالْمُرْسَلَةِ إِشَارَةً إِلَى دَوَامِ هُبُوبِهَا بِالرَّحْمَةِ وَإِلَى عُمُومِ النَّفْعِ بِجُودِهِ كَمَا تَعُمُّ الرِّيحُ الْمُرْسَلَةُ جَمِيعَ مَا تَهُبُّ عَلَيْهِ".
وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: "لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ" َثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: "مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ لَا".
وقال أهل العلم: في هذا الحديث فوائد منها: الْحَثُّ عَلَى الْجُودِ فِي كُلِّ وَقْتٍ -الحث على الكرم- وَمِنْهَا الزِّيَادَةُ فِي رَمَضَانَ، وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَفِيهِ زِيَارَةُ الصُّلَحَاءِ وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَتَكْرَارُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَزُورُ لا يكرهه، وَاسْتِحْبَابُ الْإِكْثَارِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي رَمَضَانَ، والتدبر، وَكَوْنُهَا أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَذْكَارِ، إِذْ لَوْ كَانَ الذِّكْرُ أَفْضَلَ أَوْ مُسَاوِيًا لَفَعَلَاهُ -أي النبي ﷺ وجبريل-.
قال ابن حجر: "وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّ نُزُولَهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً كَانَ فِي رَمَضَانَ كَمَا ثَبَتَ من حَدِيث ابن عَبَّاسٍ، فَكَانَ جِبْرِيلُ يَتَعَاهَدُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَيُعَارِضُهُ بِمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ عَارَضَهُ بِهِ مَرَّتَيْنِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَبِهَذَا يُجَابُ مَنْ سَأَلَ عَنْ مُنَاسَبَةِ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ"
الحديث متفق عليه رواه جمع عن الزهري عند الشيخين وغيرهما، ومنهم من قيل فيه إنه أثبت الناس في الزهري، يعني: ممن رواه عن الزهري من قيل فيه: إنه أثبت الناس في الزهري.
الحديث صحيح لا علّة له ولا إشكال فيه والحمد لله.
نكتفي بهذا إذًا والحمد لله.