الدرس الثامن: بتاريخ: 20/12/1444ه – 08/07/2023
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد:
كنا قد ذكرنا في بداية دروس صحيح البخاري أن نُسخ البخاري منها ما جمع مجموعة من النسخ، وهذه النسخ هي ثلاث:
1- نسخة اليونيني وهذه التي نعتمدها في القراءة، وهي أجود النسخ.
2- النسخة الثانية: نسخة أبي ذر الهروي، وقد تضمنتها نسخة اليونيني.
3- والنسخة الثالثة: هي نسخة الصغاني، وهذه النسخة التي تسمى بالنسخة البغدادية.
وبفضل الله سبحانه وتعالى قد حصلنا في الأيام الماضية على مخطوطتين:
· الأولى: تعود للنسخة البغدادية نسخة الصغاني، التي تطبع لأول مرة، تصوّر لأول مرة؛ لأنها نسخة مصورة مخطوطة صورتها دار المقتبس، وهذه النسخة هي نسخة الصغاني، إلا أن هذه المخطوطة هي فرع عن فرع لها، هذا الفرع هو فرع الوسطاني أحد أهل العلم المشايخ، له حاشية على صحيح البخاري على نفس هذه المخطوطة، هي المخطوطة بخط يده، وله عليها حاشية؛ فكونها لأحد أهل العلم تأخذ مزية في هذا، إلا أن النسخة التي نسخها عنها لا نعرف عنها شيئًا، النسخة التي نسخها عنها هي فرع عن نسخة الصغاني مباشرة؛ لكن لا نعرف عنها شيئًا، لم يذكرها في الوصف؛ لكن كونه من أهل العلم ونسخها، وهو يعلم شروط النسخ، والنُسخ كيف يجب أن تكون؛ فلذلك يؤتمن جانبها إن شاء الله، وكما ذكرت هي أول مرة نطّلع فيها أو تنتشر فيها نسخة الصغاني هذه، بهذا الفرع فرع الوسطاني، فإذا عزوت في أثناء الشرح إليها فسيكون إلى فرع الوسطاني هذا إن شاء الله.
· أما المخطوطة الثانية: -كل هذه المخطوطات مصورة طبعًا، صورته الدار- المخطوطة الثانية مصورة نسخة أبي ذر الهروي، وهذه النسخة هي نسخة الغزولي، هو نفسه ناسخ اليونينية والتي أثنى على عمله فيها القسطلاني رحمه الله في شرحه، وهذا الغزولي أيضًا ممن لهم شغل في العلم، ونسخته هذه ذكر في آخرها أنه هو الذي نسخها، وهي النسخة الحادية عشر من نسخ هذا الكتاب، وذكر الإسناد في البداية أنها لأبي ذر الهروي، ثم ذكر إسناده، إلا أنه لم يذكر من رواية من عن أبي ذر، أبو ذر روى عنه أكثر من واحد، فيوجد رواية ابن أبي مكتوب، ويوجد رواية أيضًا الصَّدَفِي عن أبي الوليد الباجي وغيرهم أيضًا رووا عن أبي ذر، فهذه النسخة لم تبين لنا أي الروايات هي عن أبي ذر الهروي إلا أنها من نسخ الغزولي، وهو ممن له اشتغال بهذا العلم.
فهما مخطوطتان نفيستان جيدتان، وخاصة الثانية التي لم نطلع على أصلها في الأساس، نعم نسخة أبي ذر الهروي قد تضمنتها اليونينية وأيضًا لها مخطوطات موجودة بخلاف البغدادية، وإن شاء الله نرجو أن تظهر مخطوطات أخرى لهذه النسخ النفيسة.
"بَابُ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ
16 - "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»"
"بَابُ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ": أي لذته، وهي لذة للطاعات توجد في القلب يشعر بها من حقق أسبابها، يريد الإمام البخاري رحمه الله أن يثبت أن للإيمان لذة يجدها أهل الإيمان إذا حققوا أسبابها، ولا يجدها من لم يحقق أسبابها، دل ذلك على أن الإيمان يزيد وينقص، هذا مراده والله أعلم.
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى" بن عبيد بن قيس، أبو موسى، العَنَزِي، البصري، الحافظ، المعروف بالزَّمِن، وهو مشهور بكنيته، مشهور بكنيته ومشهور باسمه، ثقة حافظ، يروي عن أتباع التابعين.
قال الخطيب: "كان صدوقًا، ورعًا، فاضلًا، عاقلًا، ثقةً، ثبتًا، احتج سائر الأئمة بحديثه، مات سنة 252" انتهى كلامه رحمه الله.
مات هو وبُندار في سنة واحدة وكانا كفرسي رهان، بُندار: محمد بن بشار، مات هو ومحمد بن بشار في سنة واحدة. قال أهل العلم: "كانا كفرسي رهان" هذا مثل يضرب لمتسابقين متساويين في المسابقة، وفرس الرهان هو خيل المسابقة، روى له الجماعة، وهو أحد الشيوخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة مباشرة المجموعون في قول الشيخ الإثيوبي رحمه الله وقد تقدم هذا معكم:
اشتــــــــــــــــــــــــــــرك الأئمــــــــة الهــــــــــــــــداةُ
|
*****
|
ذوو الأصـــــــــــــــول الستـــــة الوعــــــــــاةُ
|
في تســــــعة من الشــــــــــــــيوخ المهرة
|
*****
|
الحافظيــــــــــن، الناقديــــــــــــــــــن، البـررة
|
أولئــــــــــــك الأشجُّ، وابن معمــــــــــرٍ
|
*****
|
نصرٌ، ويعقوبُ، وعمروٌ الســــــري
|
وابـــــن العلاءِ، وابن بشـــارٍ، كذا
|
*****
|
ابـــــن المثنـــــى، وزيـــــــــــــــــادٌ يحتـــــــــــذى
|
ذكرنا بأنهم أربعة محمدون: محمد بن بشار "بُندار"، محمد بن المثنى أبو موسى العنزي وهو الذي معنا، ومحمد بن معمر، ومحمد بن العلاء أبو كُريب، هؤلاء أربعة محمدون.
واثنان أسماؤهم تبدأ بحرف العين: عبد الله بن سعيد الأشج، وعمرو بن علي الفلّاس.
وثلاثة يجمعهم "زين أو يزن"، والزاي: بزياد الحساني، والياء: ليعقوب بن إبراهيم بن كثير الدورقي، والنون: لنصر بن علي الجهظمي، وهو الحفيد وليس الجد، كثرة التكرار هذا يحفظك هذه الأسماء، أكثر هذه الأسماء التي حفظناها؛ حفظناها في دروس شيخنا الوادعي رحمه الله.
"قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ" هو عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت بن عبيد الله بن الحكم بن أبي العاص الثقفي أبو محمد، البصري، من أتباع التابعين، ثقة، اختلط قبل موته بثلاث أو أربع سنين، مات سنة 193 أو 194 وقيل غير ذلك.
وقال علي ابن المديني: "ليس في الدنيا كتاب عن يحيى" -يعني: ابن سعيد الأنصاري- "أصح من كتاب عبد الوهاب، وكل كتاب عن يحيى فهو عليه كَلٌّ" وقال ابن معين: "ثقة في أيوب" وروايته معنا هنا من روايته عن أيوب.
وقال عمرو بن علي: "اختلط حتى كان لا يعقل، وسمعته وهو مختلط يقول: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان باختلاط شديد" انتهى.
هذا يدل على أنه حدّث بعد الاختلاط؛ لكن قال أبو داود: "عبد الوهاب اختلط حتى حُجب الناس عنه". ظاهر هذا أنه حُجب لما اشتد اختلاطه، والظاهر أنه لم يحدّث كثيرًا بعد اختلاطه.
على كلٍّ من أخرج له البخاري عنه فهو محمول على أنه قد روى عنه قبل اختلاطه إن قلنا إن اختلاطه يضر؛ فالبخاري إمام ناقد متحر، وروايته عن أيوب لها مزية، وهذه منها، روى له الجماعة.
"قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ" بن أبي تميمة: واسمه: كيسان السّختياني، يقال: السَّختياني، والسِّختياني، والسُّختياني، والفتح أشهر، أبو بكر البصري مولى عنزة، رأى أنس بن مالك ولم يسمع عنه، روى عنه أقرانه وشيوخه، ثقة ثبت حجة حافظ، من كبار الفقهاء العبّاد، من أتباع التابعين، مات سنة 131 وله بضع وستون، روى له الجماعة.
"عَنْ أَبِي قِلَابَةَ" أبو قلابة هو: عبد الله بن زيد بن عمرو، ويقال: ابن عامر، من قُضاعة، أبو قلابة الجرمي، البصري، أحد الأئمة الأعلام، قدم الشام وسكن داريا، ثقة، فقيه، فاضل، كثير الإرسال -يعني يروي عمن لم يسمع منه أصلًا ويكثر من هذا- قال أبو حاتم: "لا يعرف له تدليس" وهذا يبين خطأ من قال بأنه مدلس من المتأخرين، والمتأخر إذا خالف المتقدم في مثل هذه الأمور لا يؤخذ بكلامه؛ لأنا نحن في هذه المسائل نعتمد على ما قاله الحفاظ، مات بالشام هاربًا من القضاء سنة 104 أو 106 أو 107 روى له الجماعة، قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أنه من ثقات العلماء".
انتشرت عنه قصة في صبره، وأنه قطعت قدماه، وقطعت يداه وإلى آخره...، هذه القصة لا تصح، ولا تثبت.
قال أيوب: "طُلب أبو قلابة للقضاء ففر، فلحق بالشام فأقام زمنًا ثم جاء، قال: فقلت له: لو أنك وليت القضاء وعدلت بين الناس رجوت لك في ذلك أجرًا، قال لي: يا أيوب! السابح إذا وقع في البحر كم عسى أن يسبح؟" -كم وهو باقٍ؟ يسبح ساعة ساعتين، يوم يومين ثلاث، بعدها أيش يصير؟ يغرق، يعني أنه إذا تولى القضاء ربما حاول أن يجاهد نفسه في أن يعدل وأن يصيب وأن يبتعد عن الظلم وعن غيره، مرة مرتين ثلاث أربع ربما يقع في الخطأ؛ لذلك كانوا يتورعون عن القضاء، وجاء في حديث في سنن أبي داود وسيأتي معنا إن شاء الله: (مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ) لأن الأمر جدًا خطير؛ فلذلك كانوا يفرون من القضاء؛ لشدة ورعهم رحمهم الله، نعم يوجد حالات يتعين القضاء على أحدهم؛ عندئذ يتولى القضاء؛ لأنه قد تعيّن عليه وصار واجبًا عليه؛ لأن هذا القضاء واجب كفائي، لا بد من سد هذا الباب، على كلٍّ: الظاهر منه أنه كان يوجد من يسد هذا المسد لذلك كانوا يفرون منه.
قال أبو قلابة: "إذا حدّثتَ الرجل بالسّنّة فقال: دَعْنا من هذا وهاتِ كتابَ الله، فاعلم أنّه ضالٌّ".
وقال: "ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف" وهذا معروف عن أهل البدع وقالها أكثر من واحد من السلف رضي الله عنهم، البدعة تجر إلى السيف.
وقال: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإنني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون".
وقال غَيْلان ابن جَرير قال: "أردتُ أن أخرج مع أبي قلابة إلى مكّة فاستأذنتُ عليه فقلتُ: أأدخل؟ فقال: نعم إن لم تكن حَرُوريًّا" إذا ما كنت من الخوارج.
قال أبو أيوب السختياني: "قال لي أبو قلابة: يا أيوب احفظ عنّي ثلاث خصال: إياك وأبواب السلاطين، وإيّاك ومجالس الأهواء، والزم سوقك، فإنّ الغنى من العافية" يعني: استرزق؛ فإذا كان عندك مال ربنا سبحانه وتعالى يعافيك به؛ لأن قلة المال ربما تدفع الإنسان إلى الوقوع في المحذور.
وعَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، قَالَ: "قَالَ لِي أَبُو قِلَابَةَ: يَا أَيُّوبُ! احْفَظْ عَنِّي أَرْبَعًا: لَا تَقُل فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِكَ، وَإِيَّاكَ وَالْقَدَرَ، وَإِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فَأَمْسِكْ، وَلَا تُمَكِّنْ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ مِنْ سَمْعِكَ فينبذوا فيه ما شاءوا" نصائح، وهذه النصائح كلها ليست عن أبي قلابة وحده، هذه جاءت عن جمع من السلف وهي منهج عام، المنهج لا يؤخذ من رجل أو رجلين؛ إنما المنهج يؤخذ من السلف رضي الله عنهم، كلام يقررونه وينتشر بينهم ولا ينكره أحد بينهم؛ عندئذ يقال هذا منهج السلف، أما رجل واحد يقول بقول اجتهد فيه هذا لا يقال فيه منهج السلف كذا، منهج السلف يكون منتشرًا عامًّا فيما بينهم كمسألة هجر أهل البدع التي ذكرها أبو قلابة هنا، وتعليله أيضًا فيها، هذا تجده بكثرة عن السلف رضي الله عنهم؛ بل نقلوا عليه الإجماع، ترك أبواب السلاطين والدخول على السلاطين تجدوا الكثير من الآراء عن السلف بهذا؛ إذًا هو منهج السلف في هذه المسألة.
وقول أبي قلابة هنا: "وَإِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فَأَمْسِكْ" يدل على عدم صحة ما قاله العجلي في أبي قلابة، ماذا قال فيه؟ قال: "وكان يحمل على عليّ رضي الله عنه" لم أجد من تابعه على هذا القول، ولم يذكر دليلًا يدل عليه، وقول أبي قلابة هذا "وَإِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فَأَمْسِكْ" يدل على خلافه؛ بل السلف من أقرانه وتلاميذه ذكروه بخير، وكان عظيم القدر، وكان عمر بن عبد العزيز يعظّمه، ولو وجدوا منه ما قاله العجلي لصاحوا به؛ بل هذا الكلام المنقول عنه يدل على صلابته في السنة، وبغضه للبدع وأهلها، فمن ثبتت هذه النقولات التي ذكرناها وثبتت سنيته لا تُلصق به تهمة إلا ببينة واضحة لا خفاء فيها، وذكر العجلي أنه لم يرو عن علي؛ فإن أراد العجلي من عدم روايته عن علي أنه في نفسه منه شيء: فغير مسلّم؛ لأنه كذلك لم يرو عن أكثر الصحابة رضي الله عنه وليس عن علي وحده، وروى عن عمر وهو مرسل، لم يلقَ عمر.
قال أبو زرعة: "وأبو قلابة عن علي: مرسل"، يدلك على أنه روى عن علي مرسلاً كما روى عن عمر مرسلاً؛ إذًا فلا وجه للغمز فيه بهذا إن أراد العجلي هذا المعنى، والله أعلم.
"عَنْ أَنَسٍ بن مالك" صحابي جليل فاضل تقدم.
"عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ" أي ثلاث خصال من وجد فيه واتصف بهن وجد بسببهن حلاوة الإيمان.
"وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ" وجد لذة الإيمان بهذه الثلاث.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ليست حلاوة سكر ولا عسل، وإنما هي حلاوة أعظم من كل حلاوة، حلاوة يجدها الإنسان في قلبه، ولذة عظيمة لا يساويها شيء، يجد انشراحاً في صدره، رغبة في الخير، حباً لأهل الخير، حلاوة لا يعرفها إلا من ذاقها بعد أن حرمها" انتهى.
وهو تعبير ملخص للحلاوة هذه التي يذكرونها، دعك من كلام بعض الشراح الذين تكلفوا في مسألة الحقيقة المجاز، كذا كلام، بعض الشراح عندهم أسلوب حتى الشيء الجميل يبيّخوه في طريقتهم في طرح المسألة، هذه الحلاوة من جربها عرفها، وبس، لذة يجدها الإنسان في قلبه بسبب تحقيقه لهذه المعاني التي ذُكرت؛ فمن أراد أن يعرفها فليحقق وليجرب.
قال ابن رجب: "فهذه الثلاث خصال من أعلى خصال الإيمان، فمن كملها فقد وجد حلاوة الإيمان وطعم طعمه، فالإيمان له حلاوة وطعم يذاق بالقلب كما تُذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم" انتهى، إذًا الإيمان له حلاوة يجدها المؤمن، وقد لا يجدها؛ فيظهر بهذا أن الناس يتفاضلون في الإيمان وليسوا سواء كما تدعيه المرجئة.
الخصلة الأولى: "أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا" يعني أن يحب الله ورسوله، وتكون محبتهما مقدمة على محبة كل شيء، لا تساويها عنده محبة والد ولا ولد ولا أهل ولا مال ولا نفس، ولا تنفع واحدة دون الأخرى، وإن كانت محبة الله هي الأصل، ومحبة النبي ﷺ تبع لها، ولكن لا ينفع أن يحب العبد الله سبحانه وتعالى ولا يحب نبيه ﷺ أو العكس، والمحبة لا تحتاج تعريفًا؛ فهي واضحة معلومة للجميع، وتعريفها لا يزيدها وضوحًا، وهكذا أعمال القلوب من الخوف، الرجاء إلى آخره...، أشياء إذا جئت تعرفها زدتها غموضًا وتعقيدًا؛ لكن الناس بفطرتهم وبخلقهم اللهُ سبحانه وتعالى عرفوا هذا وعايشوه فلا يحتاج مثل هذا إلى تعريف.
قال ابن تيمية رحمه الله: "مَحَبَّةُ اللَّهِ بَلْ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَكْبَرِ أُصُولِهِ وَأَجَلِّ قَوَاعِدِهِ؛ بَلْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ كَمَا أَنَّ التَّصْدِيقَ بِهِ أَصْلُ كُلِّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ" انتهى.
أصل محبة الله ورسوله إذا زالت زال الإيمان، محبة الله ورسوله خصلة من خصال الإيمان، وهي درجات كما تقدم معنا في محبة الرسول ﷺ تنطبق على هذا أيضًا، محبة الله ورسوله أصلها إذا زالت زال الإيمان، لا يمكن للعبد أن يكون مؤمنًا ولا يحب الله ورسوله ﷺ، وكمالها الواجب إذا لم يتم نقص الإيمان الواجب، الذي بنقصه يصير العبد معرّضًا للعقوبة، وكمالها المستحب إذا لم يتم نقص الإيمان المستحب، هذه ثلاث درجات لهذه الخصلة: وهي محبة الله ومحبة رسوله ﷺ .
قال ابن تيمية رحمه الله: "وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ لَمْ يُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ" -هذا يتكلم عن أيش؟ عن أصل هذه الخصلة- قال: "وَمَنْ لَمْ يُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ، وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْإِيمَانِ" -يعني أهل الإيمان- "وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ حُبٍّ وَغَيْرِهِ" انتهى.
وإن كان في بينهم تفاضل في الموضوع هذا؛ لكن أصل حب الله ورسوله إذا زال: زال الإيمان.
وسئل ابن باز رحمه الله: إذا تساوت محبةُ المخلوق مع الله...؟
فقال: "لا بدّ أن تكون محبة الله فوق محبة المخلوق، وإلا تكون نقصًا في الإيمان ومعصية، محبة الله ورسوله تكون فوق محبة المخلوقين؛ ولهذا لما قال عمر: "يا رسول الله! أنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي، قال ﷺ: (لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك)، قال: لأنت أحب إليّ من كل شيء حتى من نفسي، قال: الآن يا عمر" يعني الآن كمال الإيمان.
قال السائل: إذا ساوى؟
الشيخ: المقصود لا بدّ أن تكون محبة الله فوق محبة المخلوقين، أما إن كانت مساوية أو أقل فهذا نقص في الإيمان وضعف في الإيمان، لكن ما يكون كفرًا، حب الله ورسوله شرط في الإيمان، لا بدّ من ذلك؛ لكن كون محبته لنفسه وزوجته أو أمه وأبيه دون محبة الله، محبة الله فوق ذلك، محبة الرسول فوق ذلك، هذا من كمال الإيمان (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...) الحديث، يجد حلاوة الإيمان بهذا.
س: التسوية ما تكون كفرًا؟
الشيخ: لا ما تكون كفرًا، الكفر عدم المحبة" انتهى.
قال ابن رجب: "ومحبة الله على درجتين:
إحداهما: فرض، وهي المحبة المقتضية لفعل أوامره الواجبة، والانتهاء عن زواجره المحرمة، والصبر على مقدوراته المؤلمة، فهذا القدر لا بد منه في محبة الله، ومن لم تكن محبته على هذا الوجه فهو كاذب في دعوى محبة الله، كما قال بعض العارفين: من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده فهو كاذب، فمن وقع في ارتكاب شيء من المحرمات، أو أخل بشيء من فعل الواجبات، فلِتقصيره في محبة الله حيث قدَّم محبة نفسه وهواه على محبة الله، فإن محبة الله لو كملت لمنعت من الوقوع فيما يكرهه، وإنما يحصل الوقوع فيما يكرهه لنقص محبته الواجبة في القلوب، وتقديم هوى النفس على محبته، وبذلك ينقص الإيمان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث.
والدرجة الثانية من المحبة -وهي فضل مستحب-: أن ترتقي المحبة من ذلك إلى التقرب بنوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق الشبهات والمكروهات، والرضى بالأقضية المؤلمات.
وقال: وأما محبة الرسول ﷺ: فتنشأ عن معرفته ومعرفة كماله وأوصافه وعظم ما جاء به، وينشأ ذلك في معرفة مرسله وعظمته -كما سبق-"
هنا ينبّه على أمر مهم وهو: كيف تنشأ محبة الله ومحبة رسوله في القلب؟ وكيف تنمو وتعظم؟ هذا أمر مهم جداً، الأمر كما قال ابن تيمية رحمه الله، لا يوجد مؤمن لا يحب الله ورسوله هذا الأصل؛ لكن كيف تنمّي هذه المحبة، وكيف تعظم عندك؟ علامتها إذا نمت وعظمت: أن تجد هذه الحلاوة؛ لأن هناك تلازم بين هذه الخصلة وبين الخصلتين الآتيتين مع أسباب أخرى، هنا الآن كيف تنمّي محبة الله ومحبة رسوله ﷺ في قلبك؟
1- عندك درجة أولى وهي: أن تتأمل في صفات الخالق تبارك وتعالى، وفي فضله ونعمه على خلقه، وفي رحمته بهم، كلما تأملت في ذلك كلما عظمت محبتك له تبارك وتعالى، تتأمل في حكمته، في خلقه، في شرعه، كل هذا يزيدك إيمانًا، ويرفع محبة الله في نفسك، كذلك النبي ﷺ تتأمل في صفاته، صفات الكمال الإنساني التي كان عليها ﷺ، وما قدم من أجل هذه الأمة، والتضحية التي ضحّاها، والألم الذي عاناه من أجل هداية الخلق، ومن أجل أن يوصلهم إلى الطريق الحق؛ فإذا تأملت هذا زادت محبته في نفسك.
2- الأمر الثاني: كثرة العمل ومتابعة النبي ﷺ: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: 31] فإذا أردت أن تصل إلى هذه المحبة فأكثر من العمل؛ لأن الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة -والمحبة هذه من الأعمال الباطنة من أعمال القلوب- بينهما تلازم قوي جدًا كما قال النبي ﷺ: (أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) هذا التلازم عند أهل السنة ثابت ولا بد منه، عندهم لا تنفك الأعمال الظاهرة عن الأعمال الباطنة وجودًا وعدمًا، زيادة ونقصانًا، من فكها عن بعضها؟ المرجئة هم الذين فكّوها وقالوا: ممكن أن توجد أعمال القلوب دون أعمال الجوارح، وهذا باطل، وهذا الحديث الذي ذكرناه يبطل قولهم؛ لذلك إذا أكثرت من الأعمال الظاهرة عظمت الأعمال الباطنة وقويت وكثرت؛ فلذلك العمل والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالفرائض والنوافل يزيدك قربة من الله ويزيد محبة الله ورسوله في قلبك وتعظم، وهذه تُوجد لك حلاة الإيمان التي تؤدي في المقابل إلى زيادة العمل وزيادة القربى، هذه تزيد هذه، وهذه تزيد هذه، كما هذه تنقص هذه، وهذه تنقص هذه، هكذا تفهم أعمال القلوب وأعمال الجوارح؛ لذلك قال ربنا تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ) إلى آخره، يحصل على خير كثير من محبة الله تبارك وتعالى؛ لأنه يزداد قربة إلى الله ويزداد إيمانه الذي في قلبه بزيادة أعمال الجوارح، هكذا تعتني بزيادة محبة الله ومحبة رسوله.
3- والأمر الأخير وهو مهم جدًا في هذا الباب: وهو الدعاء، الإلحاح على الله بالدعاء أن يرزقك محبته ومحبة رسوله درجة الكمال، هذا الذي ينبغي أن تسعى إليه، لا تكن ضعيف الهمة، ضعيف القصد؛ بل ينبغي أن تحرص على الكمالات في هذا الباب، وأن تسابق في الخيرات، انظر إلى الكمال لا تنظر إلى النقص؛ فلذلك تدعو الله سبحانه وتعالى أن يمن عليك بكمال محبته ومحبة رسوله ﷺ الكمال الواجب والكمال المستحب أيضًا.
هذا ما أشار إليه ابن رجب رحمه الله، هنا أمر لا بد أن تركز عليه جيدًا، أن تحفظه جيدًا، كما سيأتي معنا -إن شاء الله- في الدروس القادمة...
عندنا قول القلب، وعمل القلب، وعمل الجوارح، بينها ارتباط وارتباط وثيق.
قول القلب: معرفته مع تصديقه توجب أعمال القلوب للقلوب السليمة، لا تأتي وتقول لي: إبليس عرف الله وصدّق به، ومع ذلك ما حصل، فرعون إلى آخره، أقول لك: هذا يوجبه للقلوب السليمة الخالية من الأمراض المانعة من الانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى كالكِبْر والحسد، فمعرفة الله ومعرفة رسوله ﷺ ومعرفة دين الإسلام توجب أعمال القلوب من محبة الله وحبة رسوله ﷺ وغيرها من أعمال القلوب، أعمال القلوب تولّد أعمال الجوارح، وهي لازمة لها؛ فيلزم من عمل القلب عمل الجوارح، فبين هذه الثلاث ارتباط وثيق قوي جدًا، هذا كله ليس من عندي، هذا كلام أهل العلم من أئمة السلف رضي الله عنهم لكن بأسلوب سهل إن شاء الله.
قال ابن رجب رحمه الله: "وأما محبة الرسول: فتنشأ عن معرفته ومعرفة كماله" -رأيت كيف، محبة الرسول ﷺ من أعمال القلوب، كيف تنشأ؟ من قول القلب، معرفة- " ومعرفة كماله وأوصافه وعظم ما جاء به، وينشأ ذلك في معرفة مرسِله وعظمته -كما سبق-،" -يعني ينشأ ذلك عنه، معرفة مرسِله وهو الله سبحانه وتعالى وعظمة الله وصفات الله صفات الكمال- قال: "فإن محبة الله لا تتم إلا بطاعته" -وهنا يحاول أن يركز على أمر مهم وهو اللازم، محبة الله من أجل أن تكون حقيقية وفاعلة إذًا لا بد أن يكون يوجد طاعة لله سبحانه وتعالى- قال: "ولا سبيل إلى طاعته إلا بمتابعة رسوله" -كلها أشياء متسلسلة يلزم بعضها من بعض- قال: "كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: 31] ومحبة الرسول على درجتين أيضًا:
إحداهما: فرض، وهي ما اقتضى طاعته في امتثال ما أمر به من الواجبات، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات والرضى بذلك، وألا يجد في نفسه حرجًا مما جاء به ويسلم له تسليما، وألا يتلقى الهدى من غير مشكاته ولا يطلب شيئًا من الخير إلا مما جاء به.
الدرجة الثانية: فضل مندوب إليه" -يعني الدرجة الثانية من محبة الرسول ﷺ، هذه مستحبة- قال: "وهي: ما ارتقى بعد ذلك إلى اتباع سنته، وآدابه، وأخلاقه، والاقتداء به في هديه، وسمته، وحسن معاشرته لأهله وإخوانه، إلى آخره" انتهى كلامه رحمه الله.
محبة الله هي أصل؛ فإنه يجب أن يُحب لذاته، ولا شيء يُحب لذاته إلا هو، فهذا ليس لغيره؛ فمحبة الله لا تكون مساوية لمحبة رسوله ﷺ، محبة الله: محبة عبادة، خضوع، تذلل، تعظيم، تأليه، محبة تضرع، محبة خوف، رجاء غير ذلك...، أما محبة النبي ﷺ فهي تبع لمحبة الله عز وجل، فالعبد يحبه لله، فمحبته ﷺ ليست محبة مع الله؛ بل هي من محبة الله، فهي حب لله تعالى وفي الله وليست محبة محبوب مع الله كما يقع من مشركي زماننا، يحبون النبي ﷺ مع الله لا محبة لله، وفرق كبير بين المحبتين، واحدة شركية، وواحدة توحيد.
يلخص لنا موضوع المحبة ابن القيم، قال: "وَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَحَبَّةِ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهَا، وَإِنَّمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ بِعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهَا
o أَحَدُهَا: مَحَبَّةُ اللَّهِ، وَلَا تَكْفِي وَحْدَهَا فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَالْفَوْزِ بِثَوَابِهِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَعُبَّادَ الصَّلِيبِ وَالْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ.
o الثَّانِي: مَحَبَّةُ مَا يُحِبُّ اللَّهُ" -يعني الله سبحانه وتعالى يحب الطاعات؛ فنحن نحب الطاعات؛ لأن الله يحب الطاعات، هذا مقصوده- قال: "وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تُدْخِلُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَتُخْرِجُهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَقْوَمُهُمْ بِهَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَأَشَدُّهُمْ فِيهَا"
o الثَّالِثُ: الْحُبُّ لِلَّهِ وَفِيهِ" -كحب المؤمن الصالح، تحبه لقربه من الله سبحانه وتعالى، لا لأي غرض آخر- "وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّةِ مَا يُحِبُّ" -يعني تلزم من التي قبلها- "وَلَا تَسْتَقِيمُ مَحَبَّةُ مَا يُحِبُّ إِلَّا فِيهِ وَلَهُ.
o الرَّابِعُ: الْمَحَبَّةُ مَعَ اللَّهِ، وَهِيَ الْمَحَبَّةُ الشِّرِكِيَّةُ" -كمحبة المشركين لآلهتهم- قال: "وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا مَعَ اللَّهِ لَا لِلَّهِ، وَلَا مِنْ أَجْلِهِ، وَلَا فِيهِ، فَقَدِ اتَّخَذَهُ نِدًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَذِهِ مَحَبَّةُ الْمُشْرِكِينَ.
وَبَقِيَ قِسْمٌ خَامِسٌ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ:" -ليس موضوعنا هذا القسم الخامس، نحن موضوعنا هذه الأربعة، أيش القسم الخامس؟- قال: "وَهِيَ الْمَحَبَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ، وَهِيَ مَيْلُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا يُلَائِمُ طَبْعَهُ، كَمَحَبَّةِ الْعَطْشَانِ لِلْمَاءِ، وَالْجَائِعِ لِلطَّعَامِ، وَمَحَبَّةِ النَّوْمِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ، فَتِلْكَ لَا تُذَمُّ إِلَّا إِذَا أَلْهَتْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَشَغَلَتْ عَنْ مَحَبَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [سُورَةُ النُّورِ: 37]" انتهى كلامه رحمه الله.
أنصح بقراءة كتاب ابن القيم "الداء والدواء" فقرة المحبة وغيرها من أعمال القلوب، طبعًا الكتاب جميل جدًا في أعمال القلوب، وكذلك ابن تيمية رحمه الله له كلام في المحبة طُبع على شكل قاعدة في المحبة.
وقوله في الحديث: "(مِمَّا سِوَاهُمَا)" هنا حصل جمع في الضمير "مِمَّا سِوَاهُمَا" ضمير الجمع، جمع بين الله وبين نبيه ﷺ بضمير واحد، وقد جاء في "صحيح مسلم" عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ؛ "أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) لا تجمع بينهما بضمير واحد.
وقد جمع العلماء بين الحديثين، هنا قد جمع في الضمير النبي ﷺ، وهناك أنكر على الخطيب قوله هذا.
اختلف العلماء في كيفية التوفيق بين الحديثين، ما هو الجائز وما هو الممنوع في هذا؟
- فذهب بعض العلماء إلى أن النهي الذي ذُكر في الخطبة منسوخ ثم بعد ذلك جاز هذا الأمر.
- وبعضهم قال هذا للأدب، الأفضل والأحسن أن يُفعل.
المسألة لها محلها وتفصيلها إن شاء الله وسيأتي، أشرنا إليه لأن الشرّاح يتحدثون عن هذه المسألة ويذكرونها.
قال "وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ" يعني بالمرء هنا: المسلم، فالكافر يبغض لله، ما يُحب لله، وهذا من القسم الثالث من الأقسام التي ذكرها ابن القيم رحمه الله، وهذه خصلة من خصال الإيمان، وهي من لوازم الخصلة التي قبلها، فمن أحب الله ورسوله أحب لله، فصار حبه وبغضه لله.
قال يحيى بن معاذ -من أئمة السلف رضي الله عنهم-: "حَقِيقَةُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ أَنْ لَا يَزِيدَ بِالْبِرِّ وَلَا يَنْقُصَ بِالْجَفَاءِ" تلخيص عجيب، بس خلاص، هذا معنى الحب في الله، والبغض في الله، أيش يعني؟ محبتك للشخص أو بغضك له ما له أي سبب إلا شيء واحد بس، وهو قربه من الله وبعده عنه؛ فالشخص أيش ما أحسن إليك من إحسان، وهو البر الذي ذكره يحيى هنا، مهما زاد لك من البر والإحسان والإنعام إذا كان بعيدًا عن الله لا تحبه، تبغضه في الله مع أنه محسن إليك، ولا ينقصه الجفاء، الجفاء: عدم الإحسان إليك، والبعد عنك، ما يحسن إليك، لا يعطيك، ما في شيء يقربه إليك، إلا أنه طائع لله، فأنت تحبه على بعده، أيش الضابط عندك الميزان؟ هو صلته بالله فقط، هذا معنى الحب في الله والبغض في الله، والإنسان إذا أحب الله محبة حقيقية تامّة فرغ قلبه لهذا، صار حبه لما يحبه الله، ولمن يحبه الله، وبغضه لما يبغضه الله، ولمن يبغضه الله، بس، هذا هو ميزانه فقط؛ فالمقصود من الحديث لا تكون محبته له لدنيا أو مصلحة، أو من أجل إحسانه، أو قرابته، أو وطنيته، إنما يكون حبه لقربه من ربه وطاعته.
قال ابن رجب: "وإنما كانت هذه الخصلة تالية لما قبلها" -يعني جاءت محبة الله ورسوله أولًا ثم جاءت هذه بعدها- قال: "لأن من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فقد صار حبه كله له -لله-، ويلزم من ذلك أن يكون بغضه لله وموالاته له ومعاداته له، وأن لا تبقى له بقية من نفسه وهواه" -خلاص نصيبه من نفسه منزوع، لا يحب من أجل نفسه، ولا يبغض من أجل نفسه، ولا لأن هواه يميل إلى هذا الاتجاه، لا، صار كل حبه وبغضه لله سبحانه وتعالى- قال: "وذلك يستلزم محبة ما يحبه الله من الأقوال والأعمال، وكراهة ما يكرهه من ذلك، وكذلك من الأشخاص" -هنا يشير إلى القسم الثاني من الأقسام التي ذكرها ابن القيم رحمه الله- قال: "ويلزم من ذلك معاملتهم بمقتضى الحب والبغض، فمن أحبه لله أكرمه وعامله بالعدل والفضل، ومن أبغضه لله أهانه بالعدل" -لا يظلمه أيضًا حتى بما أنه أبغضه لله سبحانه وتعالى؛ لكن لا يظلمه، لا يجد الشخص شخصًا نصرانيًّا سائرًا في الطريق وهو يبغضه في الله ويذهب ويعتدي عليه، وهو من المستأمنين أو من المعاهدين مثلًا، لماذا؟ يقول: أُبغضه في الله، إذًا يجب أن أعامله بهذه الطريقة! لا، تعامله بالعدل، ما هو العدل؟ قال الله، قال رسول الله ﷺ، والمنهج الذي كان عليه السف الصالح رضي الله عنهم، هذا هو العدل- "ولهذا وصف الله المحبين له بأنهم ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ﴾ [المائدة: 54]" انتهى كلامه رحمه الله.
"وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" أن يعود: يعني أن يصير إليه؛ فالعود قد يكون بمعنى الرجوع إليه بعدما دخل في الإسلام، وقد يكون بمعنى المصير إليه ابتداءً، معنى يُقذف: يُرمى.
"كما يكره" أي: مثل كرهه، يعني من كان كافرًا يكره أن يرجع في الكفر بعد أن خلّصه الله -تبارك وتعالى- منه لشدة بغضه للكفر؛ لأنه يبغض ما يبغضه الله تبارك وتعالى والله يبغض الكفر إذًا هو يبغض الكفر، ومن وُلد في الإسلام يكره أن يصير كافرًا بعد أن منّ الله عليه بالإسلام كما يكره أن يُرمى في النار، يعني لو أنه لو قُذف في النار لكان أهون عليه من أن يصير كافرًا بعد إسلام لشدة بغضه للكفر، وهذه الخصلة من لوازم الخصلة الأولى أيضًا، فمن أحب الله أحب ما يحبه، وأبغض ما يبغضه ومنه الكفر.
هذا الحديث دليل على أن الخصال الثلاثة من الإيمان؛ لأن هذه الدرجة، درجة حلاوة الإيمان درجة عالية، لا ينالها كل مؤمن حتى يحقق هذه الأسباب، فهذه الأسباب هي من الإيمان؛ فمتى وصل إليها العبد، تدرج ووصل إلى هذه الخصال؛ وجد حلاوة الإيمان؛ إذًا هذه الخصال من الإيمان.
وهذا يدل على أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن له حلاوة يجدها من حقق هذه الخصال ولوازمها.
إسناد هذا الحديث مسلسل بالبصريين، والحديث متفق عليه.
سئل الدارقطني عن حديث أبي قلابة، عن أنس، قال رسول الله ﷺ: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان...) وذكر الحديث، فَقَالَ: "يَرْوِيهِ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ؛ فَرَوَاهُ عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب" -وهي الرواية التي بين أيدينا- وخالفه وهيب، فرواه عن أيوب، موقوفًا" انتهى.
إذًا عبد الوهاب يرويه عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس مرفوعًا إلى النبي ﷺ.
بينما وهيب يرويه عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس من قوله.
رواية وهيب أخرجها أبو نُعيم في المستخرج.
وهذا الاختلاف الراجح فيه مع عبد الوهاب الذي رفع كما رجحه البخاري ومسلم؛ لكن لماذا؟
وهيب في أيوب تقريبًا في نفس الدرجة، ليس له مزية عبد الوهاب في أيوب على وهيب.
قال يحيى بن معين لما سأله عثمان: "ما حالُ وُهَيْب في أيوب؟ فقال: ثقة، فقلت: هو أحب إليك أو عبد الوهاب؟ قال: ثقة وثقة".
إذًا ما وجه تصحيح رواية عبد الوهاب؟ أنه متابَع على الرفع، تابعه عبيد الله بن عمرو عن أيوب عند الطبراني وغيره، وعباد بن منصور هذه المتابعة ذكرها أبو نُعيم في الحلية؛ فهو محفوظ من هذه الطريق مرفوعًا، وتابع أبا قلابة عليه جمع عن أنس، أبو قلابة نفسه ما تفرد به، قد تابعه جماعة؛ فرووه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، منهم قتادة في الصحيحين وثابت في صحيح مسلم؛ فلا إشكال في صحته والحمد لله، وستأتي -إن شاء الله- معنا رواية قتادة.
"بَابٌ: عَلَامَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ"
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ.»"
"عَلَامَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ" أي حب الأنصار دليل على الإيمان؛ لأن الأنصار نصروا الله ونصروا رسوله ﷺ ونصروا دينه فمن أحبهم لهذا فهو مؤمن.
"حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ" هشام بن عبد الملك، الباهلي مولاهم، أبو الوليد الطيالسي، البصري.
قال أحمد: "أبو الوليد شيخ الإسلام، ما أقدم عليه أحدًا من المحدثين اليوم"
شيح الإسلام يعني: كبير الإسلام ومُقدّم الإسلام، هذا ليس على إطلاقه، هذا الإطلاق لا يصح، وإنما هو مقيد بما أتم الإمام أحمد الكلام فيه، فقال: "ما أقدم عليه أحدًا من المحدثين اليوم" فهو شيخ الإسلام في زمنه وفي وقته، هذا ما يقصدونه هنا، أي: كبير أهل الإسلام، ومُقدّمهم، وعالمهم، وفاضلهم في وقته، كان في نفسي من هذا اللقب شيء حقيقة إلى أن وجدت جمعًا من السلف يستعملونه ولا ضير عندهم فيه، فهو بهذا المعنى الذي ذكرنا لا إشكال فيه، ولا شك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يستحق هذا اللقب؛ فهو مجدد الدين في زمنه رحمه الله.
وقال أبو حاتم: "إمام، فقيه، عاقل، ثقة، حافظ، ما رأيت في يده كتابًا قط" انتهى.
وثّقه جمع، وكان مقدّمًا في شعبة، وهو عندنا هنا من روايته عن شعبة، من أتباع التابعين، مات سنة 227 وله 94 سنة، روى له الجماعة.
قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ" أبو بِسطام، شعبة بن الحجاج، إمام، تقدم.
"قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبْرٍ" ابن عَتيك، الأنصاري، المدني، من بني معاوية، وهو ممن وافق اسمه اسم أبيه؛ فهو عبد الله بن عبد الله، وهو ثقة، روى له الجماعة، واختلفوا في اسم جده أهو جبر أم جابر؟ وقيل: هما اثنان، يقال لأحدهما ابن جابر، والآخر ابن جبر، وكلاهما موثق، هذا ثقة وهذا ثقة، والمحققون رجحوا أنهما واحد.
"قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا" هو ابن مالك خادم رسول الله ﷺ تقدم.
"عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ" الآية: هي العلامة، و "الأنصار": الألف واللام فيها للعهد، وهم جماعة من أهل المدينة من الصحابة من أولاد الأوس والخزرج، هما قبيلتان، وقيل لهم الأنصار لنصرتهم لرسول الله ﷺ، والأوس والخزرج أخوان، ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، أخوان صار منهما قبيلتان، قبيلة الأوس وقبيلة الخزرج؛ لكن كلهم في النهاية يرجعون إلى أب واحد، أخرج البخاري عن غَيلان بن جرير قال: "قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَرَأَيْتَ اسْمَ الْأَنْصَارِ، كُنْتُمْ تُسَمَّوْنَ بِهِ، أَمْ سَمَّاكُمُ اللهُ؟" -هذا الذي يهم من الذين سماهم الأنصار- "أَمْ سَمَّاكُمُ اللهُ؟ قَالَ: بَلْ سَمَّانَا اللهُ" -أين؟ في كتابه- "كُنَّا نَدْخُلُ عَلَى أَنَسٍ، فَيُحَدِّثُنَا مَنَاقِبَ الْأَنْصَارِ وَمَشَاهِدَهُمْ، وَيُقْبِلُ عَلَيَّ، أَوْ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَزْدِ، فَيَقُولُ: فَعَلَ قَوْمُكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا» انتهى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ مَا قَامَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ؛ وَكَانَ مُحِبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ؛ أَحَبَّهُمْ قَطْعًا، فَيَكُونُ حُبُّهُ لَهُمْ عَلَامَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ".
وقال: "وإنما خُص الأنصار -والله أعلم- لأنهم هم الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين، وآووا رسول الله ﷺ، ونصروه، ومنعوه، وبذلوا في إقامة الدين النفوس والأموال، وعادَوا الأحمر والأسود من أجله، وآووا المهاجرين وواسوهم في الأموال، وكان المهاجرون إذ ذاك قليلاً غرباء فقراء مستضعفين، ومن عرف السيرة وأيام رسول الله ﷺ وما قاموا به من الأمر ثم كان مؤمنًا يحب الله ورسوله لم يملك أن لا يحبهم، كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم، وأراد بذلك -والله أعلم- أن يعرف الناس قدر الأنصار؛ لعلمه بأن الناس يكثرون والأنصار يقلون، وأن الأمر سيكون في المهاجرين، فمن شارك الأنصار في نصر الله ورسوله بما أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ﴾ فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق" انتهى المراد من الكلام.
وهذا الحديث زائد على ما تقدم من أن يحب المرء لا يحبه إلا لله؛ فحب الأنصار لنصرتهم دين الله ورسوله ﷺ ومحبتهم من تمام محبة الله ورسوله ﷺ.
ومن هنا كان السلف رضي الله عنهم يمتحنون بالأئمة الذين اشتُهِروا بالصلابة في السنة، والصلاح، ونصرة التوحيد والسنة، ومحاربة الشرك والبدع وأنواع الضلال، والناس في هذه المسألة ككل مسألة ما بين إفراط وتفريط، منهم من عدّ الامتحان بالأشخاص بدعة، وهذا القول هو في نفسه محدث، السلف على خلافه، ومنهم من غلا فيها حتى صار يمتحن بكلّ من هب ودب، وعلى كل خلاف يقع، وهذا اليوم موجود، هذا إفراط، وهذا تفريط، لا هذا من دين الله ولا هذا من دين الله، ولا كان السلف على هذا ولا على هذا، كلام السلف بالامتحان بالأئمة من كثرته أشهر من أن يُذكر، لا يخفى على طلبة العلم فضلًا عن العلماء، والغريب من أن يخرج القول بإنكاره ممن عنده علم، هذا غريب مستغرب حقيقة؛ لأن آثار السلف في هذا كثيرة، وقد ذكر أئمة أهل السنة من ذلك الشيء الكثير، في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، وشرح السنة للبربهاري، والشريعة للآجري، وأشياء كثيرة، وفي تراجم الأئمة الكثير من هذا، وسيمر معنا إن شاء الله وسنؤكد عليه في موضعه بإذن الله، كامتحانهم بالمعافى، وبالأوزاعي، وبالإمام أحمد، وغيرهم كثير وكثير؛ فمستغرب حقيقة إنكار مثل هذا المنهج المعروف عن السلف رضي الله عنهم، وهذا أصله "«آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ.»" علامة، إذا كان الشخص ناصرًا لدين الله ناصرًا لسنة رسول الله ﷺ بحيث أنه لا يُبغض إلا لهذا، يصير علمًا على هذا؛ عندئذ يصير محلًّا للامتحان، كما أنهم أيضًا يمتحنون برؤوس أهل البدع ورؤوس أهل الضلال، وهذا أيضًا موجود، من أثنى عليهم ومن أحبهم فهو معهم وهو مثلهم، اللهم إلا إن لاح لنا أن سبب العداوة بين الشخص والآخر أنها مسألة دنيوية مثلًا، أن يكون قد حصل بينهم خلاف في مال، أو في غيره، وصار بينهم عداوة لهذا عندئذ تكون هذه مستثناة من القاعدة؛ لكن مثلًا شخص في المشرق وآخر في المغرب يُذكر له رأس من رؤوس أهل السنة والجماعة يذمّه ويبغضه إلى آخره، لماذا؟ ما بينهم إلا السنة؛ فهنا هذا داعية سنة معروف بذلك، أبغضه لذلك، وهذا هو السبب؛ فهذه العلامات تظهر لك حقائق الرجال؛ لأن الكثير من الناس عندهم نفاق، ولا يظهر لك حقيقة ما عنده لأسباب كثيرة؛ فهذه العلامة تدلك على هذا من ذاك.
مراد البخاري ظاهر من تبويبه، الحديث مطابق للترجمة.
"وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ.»" علامة النفاق بغض الأنصار.
اختلف العلماء هنا في نوع النفاق، النفاق نوعان أصلًا:
- نفاق أكبر مخرج من الملة، يسميه بعض العلماء نفاق أكبر، وآخرون: نفاق اعتقادي، تسمية، هذا اسم وهذا اسم، كلاهما بنفس المعنى.
- والنوع الثاني: نفاق أصغر غير مخرج من الملة.
الأول صاحبه منافق كافر في الدرك الأسفل من النار، الثاني نفاق أصغر، نفاق عملي يسميه البعض الآخر، هذا النفاق ليس مخرجًا من الملة إلا أن صاحبه يعمل أعمال المنافقين الذي جاءت في الأحاديث: (إذا حدّث كذب، إذا خاصم فجر) إلى آخره...، هذان نوعان.
ما المقصود هنا "آيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ" هل هو النفاق الأكبر أم النفاق الأصغر؟
الخلاف موجود بين أهل العلم، ولكل وجهة نظر؛ لكن لا شك أن من أبغضهم لنصرتهم لدين الله سبحانه وتعالى فهو نفاق أكبر لا شك في ذلك، ولا يبغضهم أحدٌ جميعًا إلا لهذا لمعنى، أيش في بينه وبينهم كلهم؟ إلا لنصرتهم لدين الله سبحانه وتعالى؛ فعندئذ يكون نفاقه نفاقًا أكبر.
إسناد البخاري في هذا الحديث رباعي، من الأسانيد العالية، بالنسبة للبخاري أسانيده العالية ثلاثية ورباعية، أعلى شيء عنده ثلاثي، والرباعي يعتبر عاليًا له، والحديث متفق عليه، وأخرجه من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع جمع عن جمع عن شعبة به. والله أعلم.
"بَابٌ:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ: أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فَهُوَ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ"
"بَابٌ" هذا التبويب ثابت في اليونينية، وفي رواية أبي ذر نسخة الغزولي، وفي فرع نسخة الصغاني، النسخة البغدادية، وعليه إشارة إلى أنها في نسخة، وفي حاشية اليونينية: رواية الأصيلي ليس فيها تبويب.
قال ابن حجر: "قوله: باب كَذَا هُوَ فِي روايتنا بِلَا تَرْجَمَةٍ" -باب من دون أي زيادة يعني- "وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ أَصْلًا" -نفس الباب ساقط من رواية الأصيلي أصلًا- "فَحَدِيثه عِنْده من جملَة التَّرْجَمَة الَّتِي قبله" -يعني الحديث تابع للباب الذي قبله عند الأصيلي بدون فارق تبويب بينهما- قال: "وعَلى روايتنا" -يعني إثبات الباب- "فَهُوَ مُتَعَلق بهَا أَيْضا" -يعني الأصل لما يكون في باب معناه أنه انفصل، الموضوع صار موضوع آخر، قال: لا، هو أيضًا متعلق بالباب الذي قبله، لماذا؟ لأنه قال باب فقط من دون أي زيادة- قال: "وعلى روايتنا" -يعني حتى مع إثبات الباب هو متعلق بما قبله- "لِأَن الْبَاب إِذا لم تذكر لَهُ تَرْجَمَة خاصه يكون بِمَنْزِلَة الْفَصْل مِمَّا قبله مَعَ تعلقه بِهِ كصنيع مصنفي الْفُقَهَاء" -يعني جعله أيضًا تابعًا للباب الذي قبله لكن كفصل يعني، وهذا من تأمل صنيع البخاري في صحيحه وجد أن ما يذكره ابن حجر هنا صحيح- قال: "وَوجه التَّعْلِق" -أيش الرابط ما بين هذا الحديث وحديث حب الأنصار- قال: "أَنه لما ذكر الْأَنْصَار فِي الحَدِيث الأول أَشَارَ فِي هَذَا إِلَى ابْتِدَاء السَّبَب فِي تلقيبهم بالأنصار لِأَن أول ذَلِك كَانَ لَيْلَة الْعقبَة لما توافقوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد عقبَة منى فِي الْمَوْسِم كَمَا سَيَأْتِي شرح ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي السِّيرَة النبوية من هَذَا الْكتاب وَقد أخرج المُصَنّف حَدِيث هَذَا الْبَاب فِي مَوَاضِع أخر فِي بَاب من شهد بَدْرًا لقَوْله فِيهِ كَانَ شهد بَدْرًا وَفِي بَاب وُفُود الْأَنْصَار لقَوْله فِيهِ وَهُوَ أحد النُّقَبَاء وَأوردهُ هُنَا لتَعَلُّقه بِمَا قبله كَمَا بَيناهُ، ثمَّ إِن فِي مَتنه مَا يتَعَلَّق بمباحث الْإِيمَان من وَجْهَيْن آخَرين: أَحدهمَا: أَن اجْتِنَاب المناهي من الْإِيمَان كامتثال الْأَوَامِر" -لأنه هنا ذكر في الحديث أشياء نهاهم عنها- "وَثَانِيهمَا: أَنه تضمن الرَّد على من يَقُول أَن مرتكب الْكَبِيرَة كَافِر أَو مخلد فِي النَّار كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى" انتهى كلامه.
وهؤلاء الذين قالوا بأن مرتكب الكبيرة كافر هم الخوارج، والذين قالوا هو مخلّد في النار هم الخوارج والمعتزلة؛ ففي حكمهم في الدنيا اختلف الخوارج والمعتزلة، الخوارج قالوا: هم كفار، والمعتزلة قالوا: هم في منزلة بين المنزلتين، لا هم مسلمون ولا هم كفار، بينهما، أما في الحكم الأخروي فاتفقوا على أنه مخلّد في نار جهنم -يعني صاحب الكبيرة-.
قال المهلّب -ذكرنا قول المهلب هنا؛ لأنه ذكر مناسبة ثانية للباب- قال: "أما قوله: "علامة الإيمان حب الأنصار" -فهو بَيِّن في حديث أنس، وأما حديث عبادة فإنما ذكره في الباب- "لأن الأنصار لهم من السبق إلى الإسلام بمبايعة الرسول ﷺ ما استحقوا به هذه الفضيلة" -يعني لماذا استحقوا أن يكون حبهم علامة على الإيمان؟ قال: لما فعلوه من سبقهم إلى مبايعة النبي ﷺ- قال: "وهذه أول بيعة عقدت على الإسلام، وهو بيعة العقبة الأولى بمكة، ولم يشهدها غير اثني عشر رجلًا من الأنصار، ذكر ذلك ابن إسحاق، وكذلك قال عبادة: وحوله عصابة من أصحابه، مع أن المهاجرين بمكة قد كانوا أسلموا ولم يبايعوا مثل هذه البيعة، فصح أن الأنصار المبتدئون بالبيعة على إعلان توحيد الله وشريعته حتى يموتوا على ذلك؛ فحبهم علامة الإيمان.
وقال: "فكان الأنصار ممن اتبعه أولا، فوجبت لهم محبة الله، ومن أحب الله وجب على العباد حبه" انتهى المراد وبهذا تظهر مناسبة الحديث للباب.
"حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ" الحكم بن نافع، الحمصي، ثقة، تقدم.
"قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ" بن أبي حمزة، ثقة، تقدم.
"عَنِ الزُّهْرِيِّ" محمد بن مسلم بن شهاب، إمام تقدم.
"قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ" بن عمرو، أبو إدريس الخولاني، العَوْذي، كان ثقة عالمـًا من فقهاء أهل الشام، وعبّادهم، وقرّائهم، تابعي كبير، وُلد في حياة النبي ﷺ يوم حنين، وسمع من كبار الصحابة، مات سنة 80. قال سعيد بن عبد العزيز التنوخي: "كان عالم الشام بعد أبي الدرداء" روى له الجماعة.
قال الذهبي: وَلَيْسَ هُوَ بِالمُكْثِرِ" -يعني مكثر بالحديث- "لَكِنْ لَهُ جَلَالَةٌ عَجِيْبَةٌ، سُئِلَ دُحَيْمٌ عَنْهُ وَعَنْ جُبَيْرٍ: أَيُّهُمَا أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَبُو إِدْرِيْسَ هُوَ المُقَدَّمُ. وَرَفَعَ أَيْضاً مِنْ شَأْنِ جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ لإِسْنَادِهِ وَأَحَادِيْثِهِ.
قُلْتُ: هُمَا كَانَا مَعَ كَثِيْرِ بنِ مُرَّةَ، وَقَبِيْصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ مُحَيْرِيْزٍ الجُمَحِيِّ، وَأُمِّ الدَّرْدَاءِ" -أم الدرداء الصغرى زوجة أبي الدرداء هذه تابعية، أم الدرداء الكبرى صحابية، ليست هي الفقيهة، الفقيهة هي أم الدرداء الصغرى التابعية- قال: "عُلَمَاءَ الشَّامِ فِي عَصْرِهِمْ فِي دَوْلَةِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ، وَقَبْلَ ذَلِكَ".
"أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ" هو الصحابي الجليل عبادة بن الصامت بن قيس، من الخزرج من الأنصار، أبو الوليد المدني، أحد النقباء، شهد بدرًا والمشاهد كلها، ثم وجهه عمر إلى الشام قاضيًا ومعلمًا، فأقام بحمص، ثم انتقل إلى فلسطين، ومات بها سنة 34 وله 72 سنة، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية، روى له الجماعة.
"وكان شهد بدرًا": يعني قاتل مع النبي ﷺ في غزوة بدر، فله فضيلة أهل بدر.
قال ابن حجر: "وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلَ ذَلِكَ" -يعني الذي قال: وكان شهد بدرًا، من قالها؟ - "أَبُو إِدْرِيسَ، فَيَكُونُ مُتَّصِلًا إِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عُبَادَةَ، أَوِ الزُّهْرِيِّ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا وَكَذَا قَوْلُهُ: "وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ" نفس الشيء يقال في: "قال: وهو أحد النقباء ليلة العقبة" هي من قول أبي إدريس أم من قول الزهري؟ فيه احتمال.
النقباء: جمع نقيب: وهو الناظر على القوم ومقدمهم وضمينهم وعريفهم، يعني كبير القوم والمقدم فيهم.
نقباء الأنصار هم الذين تقدموا لأخذ البيعة لنصرة رسول الله ﷺ ليلة العقبة، وهم اثنا عشر رجلا، وليلة العقبة: الليلة التي بايع فيها النبي ﷺ الذين آمنوا من الأوس والخزرج، وكان ذلك عند جمرة العقبة بمنى، والعقبة من الشيء: الموضع المرتفع منه، يقال له: عقبة.
"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، وَحَوْلَهُ" أي حواليه، أي: محيطين به.
"عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ" العصابة: الجماعة من الناس، وهم ما بين العشرة إلى الأربعين، وهذه لا واحد لها من لفظها، وجمعها عصائب.
"بَايِعُونِي" من المبايعة، والمبايعة: بمعنى المعاهدة، والمعنى: تعالوا عاهدوني.
من بيعات النبي ﷺ لأصحابه:
1- "بيعة العقبة الأولى"، وهذه البيعة كانت للأنصار، وكانوا اثني عشر رجلًا، وكانت هذه المبايعة بمنى، وتسمى: البيعة الأولى من بيعتي العقبة، بايعهم رسول الله ﷺ على الإسلام دون القتال؛ لأنه لم يفرض يومئذ، وسماهم الأنصار.
2- والثانية: "بيعة العقبة الثانية" للأنصار أيضًا وكانوا 70 رجلًا جاءوا للحج، بايعهم رسول الله ﷺ خفية، بايعهم على القتال، وهذه البيعة الثانية من بيعتي العقبة.
وهاتان البيعتان قبل الهجرة، بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية.
3- ثم بعد ذلك بيعة الرضوان، وهذه في السنة السادسة من الهجرة، بايع النبي ﷺ من معه من المسلمين تحت الشجرة، وكانوا 1300 بايعهم ﷺ ألا يفِرّوا، وإلى هذه البيعة أشار الله تعالى بقوله: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ إلى آخر الآية.
وقال البعض: مقصودهم بهذه البيعة في هذا الحديث، بيعة العقبة الأولى.
واختلفوا في هذا اختلافًا كثيرًا، ذكره ابن رجب رحمه الله في أول شرحه لهذا الحديث، وذكر الخلاف في هذه المسألة، هذه البيعة المذكورة في هذا الحديث أيّ بيعة هي؟
"عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا" شيئًا هنا نكرة في سياق النهي؛ فتفيد العموم، يعني أي شيء، لا ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، ولا ولي، ولا حجر، ولا شجر، ولا أي شيء، يعني عاهدوني على أن تعبدوا الله سبحانه وتعالى وحده وأن تتركوا الشرك ولا تشركوا به شيئًا، والشرك: هو أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، وهنا قدّم ذكر النهي عن الإشراك على غيره؛ لأن أصل دعوة الأنبياء هي التوحيد؛ لذلك دائمًا كان يقدّمه النبي ﷺ.
"وَلَا تَسْرِقُوا" ولا تسرقوا أي شيء، السرقة: أخذ مال الغير من حرز على وجه الاختفاء، والمقصود: النهي عن السرقة عمومًا، وليست فقط السرقة التي تقام عليها الحد.
"وَلَا تَزْنُوا" الزنا معروف، ونهاهم عنه؛ لأن في الزنا إفسادًا للنفس والنسب والغير، فهو جناية على الأعراض والأنساب؛ فكان من العظائم.
قال العلماء: وأجمع أهل الملل على تحريمه، ليس أمة محمد فقط؛ بل أجمع أهل الملل على تحريمه، ولهذا كان حدّه أشدّ الحدود؛ لأنه جناية على الأعراض والأنساب، وسبحان الله، الزنا إذا انتشر في الأمم حق العذاب عليهم، وهذا معروف، ومن أسباب انتشار الزنا: انتشار التبرّج والسفور في النساء، إذا كثر التبرج والسفور في المجتمع كثر الزنا، وإذا كثر الزنا اقترب العذاب، نسأل الله العافية والسلامة.
"وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ" قتل النفس التي حرم الله بغير الحق كلّه حرام، وليس فقط قتل الأولاد؛ ولكن خصّ هنا قتل الأولاد؛ لأنه كان فاشيًا فيهم، فكانوا يقتلون الإناث خشية العار، وهو المسمى بـ "وأد البنات"، وكانوا يقتلون الذكور والإناث خوفًا من الفقر.
قال ابن رجب رحمه الله: "وتخصيص قتل الأولاد بالذكر في بعض الروايات موافق لما ورد في القرآن في مواضع وليس له مفهوم" -يعني لا يُفهم من ذلك أنه يجوز أن تقتل غيرهم- "وإنما خُصص بالذكر للحاجة إليه، فإن ذلك كان معتادًا بين أهل الجاهلية".
"وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ" وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ: أي بكذب على أحد، البهتان هو الكذب الذي يُبهت سامعه، يعني يدهشه ويحيّره من شدة نكارته، يتفاجأ ينصدم بما تخبره به من الأكاذيب.
"تَفْتَرُونَهُ" تختلقونه.
"بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ" ذكر الأيدي والأرجل يدلّ على أن المقصود بالبهتان هنا ما هو أعم من الكذب باللسان، فيشمل السحر، وقذف المحصنات، والمشي بالنميمة، ورمي الناس بالعظائم، وكل ما يُلحق بهم العار والفضيحة، كل هذا يدخل في هذا اللفظ.
قال ابن رجب رحمه الله: ،وكل ما بهتَ صاحبَه وحيَّره وأدْهشه من قولٍ أو فعل لم يكنْ في حسابِهِ فهو بهتانٌ" فأخذُ المالِ بالنُّهْبى أو بالدعاوَى الكاذبةِ بهتانٌ" إلى آخر ما ذكر...
"وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ" المعصية خلاف الطاعة، عصى العبد ربه إذا خالف أمره، و"المعروف" في الشرع: أي الجائز شرعًا؛ فلا طاعة لأحد في معصية الله، هذا القيد للتنبيه على طاعة غير رسول الله ﷺ؛ فالنبي ﷺ لا يأمر إلا بالمعروف؛ لكن نبّه بهذا على أن الطاعة تكون في المعروف.
قال ابن رجب: "وأما الخصلة السادسة: فهي المعصية، وتشمل جميع أنواع المعاصي، فهو من باب ذكر العام بعد الخاص"، -يعني ذكر أشياء خاصّة بعدها عمّم، فقال ولا تعصوا في معروف، كل المعاصي قد نهى عنها- "وهو قريب من معنى قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النور: 56]، وقوله تعالى: ﴿ولا يَعْصِينَكَ في معروف﴾ [الممتحنة: 12] وفي بعض ألفاظ حديث عبادة: «ولا تعصوا في معروف» وفي بعضها: «ولا تعصوني في معروف» وقد خرجها البخاري في موضع آخر، وكل هذا إشارة إلى أن الطاعة لا تكون إلا في معروف، فلا يطاع مخلوق إلا في معروف، ولا يطاع في معصية الخالق، وقد استنبط هذا المعنى من هذه الآية طائفة من السلف، فلو كان لأحد من البشر أن يُطاع بكل حال لكان ذلك للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما خصت طاعته بالمعروف -مع أنه لا يأمر إلا بما هو معروف- دل على أن الطاعة في الأصل لله وحده، والرسول مبلغ عنه وواسطة بينه وبين عباده، ولهذا قال تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ [النساء: 80] فدخل في هذه الخصلة السادسة الانتهاء عن جميع المعاصي، ويدخل فيها أيضًا القيام بجميع الطاعات على رأي من يرى أن النهي عن شيء أمر بضده".
وقد قدمنا هذه القاعدة في الأصول، وذكرنا أن الراجح أن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده أو أحد أضداده.
"فَمَنْ وَفَّى" أو وفَى، كلاهما صحيح، بالتخفيف والتشديد، والمعنى واحد.
"فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ" أي: من وفى بهذه البيعة، أي ثبت على ما بايع عليه ولم يخالف.
"فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ" أي يعني أن ثوابه على وفائه بالعهد على الله؛ فالله يثيبه عليه، هنا في بعض الشروح يذكر بعض الأشاعرة من أهل البدع قاعدة عندهم، وهي: "أن الله لا يجب عليه شيء مطلقًا"، أخذوها من هذه، والآن صارت عندهم إشكال هنا، "«فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ»" صار عندهم مشكل بناء على أصلهم، فأصّل الأشاعرة أنه لا يجب على الله شيء مطلقًا، وقوله: "«فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ»" ظاهرها فيه إيجاب على الله؛ فصار مُشكل، يريدون أن يخرجوا من هذا الإشكال فبدأوا يتخبطون، وهذا شيء طبيعي، الذي يبتدع سيصطدم بكثير من الأدلة من الكتاب والسنة فما طريقته للخلاص من ذلك؟ التضعيف والتحريف بس، وينتهي الأمر، إما أن يضعّف النص الذي ورد إن استطاع على تضعيفه، أو يحرّفه إذا لم يستطع وهذه طريقتهم.
الله تبارك وتعالى وعد بأنه يثيب الطائع، فهو حق عليه بوعده، ليس بإيجابنا؛ بل بإيجابه هو على نفسه، كما قال النبي ﷺ: (وما حق العباد على الله؟) ألا يعذبهم إذا فعلوا ما أُمروا به؛ فعقيدة أهل السنة والجماعة أن الله لا يجب عليه إلا ما أوجبه على نفسه فضلًا منه وكرمًا فقط، هذه قاعدتنا، بخلاف قاعدتهم، وخلاف قاعدة المعتزلة، ما الذي دفع الأشاعرة إلى هذا القول؟ قول المعتزلة؛ فأرادوا أن يردوا قول المعتزلة فوقعوا في باطل آخر؛ لأن البدع عندهم تردّ ببدعة، أما عند أهل السنة فالبدعة لا ترد إلا بسنّة، لا ترد البدعة ببدعة، هذا ما قرره السلف وذكروه؛ فإذا أردت أن تردّ بدعة مبتدع ترجع إلى ما كان عليه السلف رضي الله عنهم، وإلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله ﷺ وفهم السلف له، ثم بعد ذلك تردّ على المبتدع، أما تردّ على المبتدع بإحداث بدعة أخرى! هذا ضلال، وهذا ما كان يفعله الأشاعرة، عندما يريدون الرد على المعتزلة أو الجهمية يردون عليهم ببدعة تقابلها، هذه طريقتهم في الغالب؛ فلما قال المعتزلة: يجب على الله أن يفعل الأصلح، يجب على الله عقلًا أن يفعل الأصلح؛ فأوجبوا على الله ما لم يوجبه على نفسه من الأشياء، في أشياء اعتبروها هم أنها هي الأصلح، وقالوا: يجب على الله أن يفعلها، من أين هذا الواجب؟ من عقولهم، هكذا قال المعتزلة؛ فقابلهم الأشاعرة وأرادوا أن يردوا قولهم فردّوه بأنه لا يجب على الله شيء، طيب والنصوص التي ستأتي كثيرة معكم فيها أن الله سبحانه وتعالى قد جعل حقوقًا على نفسه، ماذا نفعل بها؟ نحرّفها، لماذا؟ لأنها خالفت قاعدتهم، طيب هذه القاعدة لما خالفت الكتاب والسنة أليس المفروض أنكم تنقضوا هذه القاعدة كونها خالفت النصوص الشرعية؟ يقول لك: لا، هذه القاعدة يقررها العقل، وما دلّ عليه العقل مقدم على النقل، هم لم يقولوا هذا في القاعدة هذه خاصة بل عمومًا، في كل قواعدهم، أي قاعدة عندهم يقعدّونها تخالف النصوص الشرعية فهذه قاعدتها، العقل مقدم على النقل، والعجيب أنهم يُسَمُّون أنفسهم أهل سنة وجماعة، تناقضات، أين السنة وأين الجماعة؟! ما خليتم سنة ولا أبقيتم جماعة، السنة أخّرتموها ورددتموها بناء على العقل وهذا بنصّكم، دلالة العقل عندكم مقدّمة على النص، كيف تسمون أنفسكم أهل سنة بعد ذلك؟! كلام باطل، صاحب السنة هو الذي يقدّم السنة على كل شيء، هذا يسمّى أهل سنة، أهل جماعة الذين يجتمعون ولا يفترقون، أنتم فرّقتم الأمة ببدعكم وضلالاتكم، أيش سبب تفريق الأمة؟ البدع، المحدثات؛ فلا يمكن للأمة أن تجتمع على غير كتاب الله وسنة الرسول الله ﷺ ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم، إذا ما اجتمعوا على هذا لا يمكن لهم أن يجتمعوا أبدًا، كل واحد له عقل، وكل واحد له تفكير، كل شخص يستطيع أن يخترع، فإذا ما قيّدنا الأمور بالكتاب والسنة وفهم السلف الصالح رضي الله عنهم، خرج كل واحد ببدعة جديدة ووالى وعادى عليها ففرّق الأمة، وهذا ما حصل، وهذا ما حذّر منه النبي ﷺ: (ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال:) في رواية: (الجماعة) وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي) هذا الحاصل، وهذا ما سيأتي معكم كثيرًا، تجد في الشروح يقررون عقيدة الأشاعرة وعقيدة الشخص نفسه، يقرر عقيدة الأشاعرة وغيرهم من أهل البدع ويقول لك: هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد اغتر بعض الأفاضل بمثل هذا وظن أن هذا حق، وصار يقرر عقيدة المخالفين على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة، وهذا من العجائب، المؤلف أشعري، ويقول لك: عقيدة أهل السنة والجماعة فتصدق هذا وتنسب القول إلى أهل السنة والجماعة بناء على قوله؟! من العجائب، هذا قول أهل السنة والجماعة عنده، يعني هو يقول لك: هذا قول الأشاعرة؛ لكنه يسميهم أهل السنة والجماعة، تسمية باطلة، أرادوا أن ينتزعوها من أهل السنة؛ لأنهم رأوا إقبالًا من الناس على هذه التسمية، وأن أئمة السنة قديمًا كانوا يتسمون بها؛ فأرادوا أن ينسبوا هؤلاء الأئمة لأنفسهم، وينسبوا أنفسهم إلى أهل السنة والجماعة حتى يستقطبوا الناس، ويُظهروا للناس أنهم أصحاب حق، وهذا ما حصل، هذه من المسائل، والصور كثيرة ستأتي من مثل هذا.
﴿كتب عل نفسه الرحمة﴾ من؟ الله سبحانه وتعالى، أوجب على نفسه الرحمة هو سبحانه، حرّم الظلم على نفسه، هذه المسألة هي فرع من مسائل القدر.
قال ابن القيم رحمه الله: "وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا أَحَقَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ إِثَابَةِ عَابِدِيهِ وَإِكْرَامِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ أَحَقَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَبِرِّهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، لَا بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبِيدِ، وَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهُ عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَعَلَيْكَ بِالْفُرْقَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مُفْتَرَقُ الطُّرُقِ، وَالنَّاسُ فِيهِ ثَلَاثُ فِرَقٍ:
· فِرْقَةٌ رَأَتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَقَلُّ وَأَعْجَزُ مِنْ أَنْ يُوجِبَ عَلَى رَبِّهِ حَقًّا، فَقَالَتْ: لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ" -وهؤلاء الأشاعرة- "وَأَنْكَرَتْ وُجُوبَ مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ.
· وَفِرْقَةٌ رَأَتْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُمُورًا لِعَبْدِهِ، فَظَنَّتْ أَنَّ الْعَبْدَ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بِأَعْمَالِهِ، وَأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ سَبَبًا لِهَذَا الْإِيجَابِ" -وهؤلاء المعتزلة- "وَالْفِرْقَتَانِ غَالِطَتَانِ.
· وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: أَهْلُ الْهُدَى وَالصَّوَابِ، قَالَتْ: لَا يَسْتَوْجِبُ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ بِسَعْيِهِ نَجَاةً وَلَا فَلَاحًا، وَلَا يُدْخِلُ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَلَا يُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَمَحْضِ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ أَكَّدَ إِحْسَانَهُ وَجُودَهُ وَبِرَّهُ بِأَنْ أَوْجَبَ لِعَبْدِهِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ حَقًّا بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ، فَإِنَّ وَعْدَ الْكَرِيمِ إِيجَابٌ، وَلَوْ بِعَسَى، وَلَعَلَّ" انتهى.
قال بعض أهل العلم: "إن قيل: لم اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟ فالجواب: أنه لم يُهملها؛ بل ذكرها على طريق الإجمال في قوله: «ولا تعصوا» إذ العصيان مخالفة الأمر" فهو يشمل كل شيء.
"وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا" غير الشرك، لا بد من هذا القيد، أي فمن فعل من الذي بُويع على تركه شيئًا غير الشرك، كأن سرق، أو زنا، أو قتل، أو أتى بهتانًا، أو عصى الله في معروف.
"فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا" أي بذلك الذي فعله، إن زنا عوقب بالزنا، إن سرق عوقب بالسرقة، قُطعت يده في السرقة، أو حُدّ في الزنا، إلى آخره...
" فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ" العقوبة التي حصل عليها في الدنيا تعتبر كفارة له على ذنبه؛ فلا يطالب به في الأخرة، الكفارة: الخصلة التي من شأنها أن تكفّر الذنب، أي تمحوه وتغطيه وتستره، محي يُمحى، وهذا الحديث يدلّ على أن الحدود مكفّرات للذنوب التي أُقيم الحد عليها بها، وأن من لم يفضحه الله بظهور معصيته فلم يُحدَّ فإن أمره إليه في تعذيبه والعفو عنه، ورد حديث: (لا أدري الحدود كفارة لأصحابها أو لا) هذا الحديث لا يصح؛ فليس معارضًا لهذا الحديث أصلًا.
قال الترمذي: "وقَالَ الشَّافِعِيُّ: (لَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا البَابِ أَنَّ الْحَدَّ يَكُونُ كَفَّارَةً لِأَهْلِهِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ)، قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَأُحِبُّ لِمَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَتُوبَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ أَنَّهُمَا أَمَرَا رَجُلًا أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ)" انتهى، وهذا الكلام موجود في "الأم" بمعناه، بعض الناس يصيب حدًا يزني يسرق كذا، ويستر الله عليه؛ فيقول: أريد أن أذهب كي أُطهّر ويقام عليّ الحد، هذا خطأ، استر على نفسك وتب إلى الله توبة صادقة وينتهي الأمر.
واختلف العلماء هل إقامة الحد بمجرّده كفارة للذنب من غير توبة؟ أم لا بدّ من التوبة مع الحد؟ هنا في المسألة قولان:
القول الأول: أن إقامة الحد كفارة للذنب بمجرده، وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب، وعن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعن مجاهد، وزيد بن أسلم، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد واختاره ابن جرير وغيره من المفسّرين، وهذا هو الحق الذي يجب أن يُصار إليه لظاهر هذا الحديث الذي معنا ولا يوجد ما يخالفه مما هو أقوى منه.
القول الثاني: أنه ليس بكفّارة بمجرده ولا بدّ من التوبة، وهذا مروي عن صفوان بن سُليم وغيره، ورجحة ابن حزم وطائفة من متأخري المفسرين، واستدلوا بقول الله تبارك وتعالى في المحاربين: ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ مع أنه حد؛ لكن جمع لهم ما بين الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة.
قال ابن رجب: "وقد يجاب عن هذا: بأن عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعهما، فقد دل الدليل على أن عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة، وأما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة، ولهذا خصهم بما قبل القدرة، وعقوبة الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها، ويدل على أن الحد يطهر الذنب: قول ماعز للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني أصبت حدًّا فطهرني" وكذلك قالت له الغامدية، ولم ينكر عليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فدل على أن الحد طهارة لصاحبه" انتهى.
قال ابن حجر -وهو تلخيص لما قاله ابن رجب، وأسهل في العبارة-: "وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ كَفَّارَةٌ لِلذَّنْبِ وَلَوْ لَمْ يَتُبِ الْمَحْدُودُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ بَعْضُ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلٌ للمعتزلة، وَوَافَقَهُمْ ابن حَزْمٍ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْبَغَوِيُّ وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِاسْتِثْنَاءِ مَنْ تَابَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ فِي عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَلِذَلِكَ قُيِّدَتْ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ" انتهى.
وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ" عليه هنا إضافة، في بعض النسخ: «ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ» فقط وفي بعضها: «عليه» وهذه في رواية ابن عساكر كما في حاشية اليونينية، وفي رواية كريمة، هذه ذكرها ابن حجر في شرح فتح الباري، وليست موجودة، لا في اليونينية ولا في البغدادية ولا غيرها؛ لكن ابن حجر ذكرها قال: هذه في رواية كريمة الزيادة.
"فَهُوَ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ" يعني من خالف وعمل شيئًا من هذه الذنوب إلا الشرك فإنه مخصوص بالآية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ ولم يفضحه الله بذنبه وستره عليه فلم يعاقب عليه ومات من غير توبة؛ فهو تحت مشيئة الله؛ إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه، هما آيتان:
آية: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ في الدنيا قبل أن يموت، إذا تاب غفر الله سبحانه وتعالى له.
والآية الثانية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ بعد الموت، هذا التلخيص للموضوع.
قال ابن رجب: "والقسم الثاني: أن لا يعاقب في الدنيا بذنبه، بل ستر عليه ذنبه ويعافى من عقوبته، فهذا أمره إلى الله في الآخرة إن شاء عفا عنه -ثم ذكر الآية- قال: وفي ذلك رد على الخوارج والمعتزلة في قولهم: إن الله يخلده في النار إذا لم يتب، وهذا المستور في الدنيا له حالتان:
إحداهما: أن يموت غير تائب، فهذا في مشيئة الله.
والثانية: أن يتوب من ذنبه.
فقالت طائفة: إنه تحت المشيئة أيضا، واستدلوا بالآية المذكورة وحديث عبادة، والأكثرون على أن التائب من الذنب مغفور له" -لا ينبغي حقيقة أن يقال غير هذا القول- "وأنه كمن لا ذنب له، كما قال تعالى: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: 70] إلى آخر ما قال..."
قال: "والصحيح: أن التائب توبة نصوحًا مغفور له جزمًا، لكن المؤمن يتهم توبته ولا يجزم بصحتها ولا بقبولها، فلا يزال خائفًا من ذنبه وجلًا" انتهى.
فقط هذه المشكلة أنه يتهم توبته هو أن تكون صادقة وصحيحة وتكون مقبولة عند الله سبحانه وتعالى، وإلا إذا قبل الله توبته فلا يُعذَّب عليها قطعًا لا شك في ذلك.
"فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ" وفي هذا الحديث رد على المرجئة الذين يقولون أن الذنوب لا تضر، هذا الحديث يدل على أنها تضر؛ ففيه أن العاصي يُعاقب بالحد وقد يُعذب في النار على ذلك.
رجال إسناد هذا الحديث كلّهم شاميون؛ فهذا الحديث مسلسل بالشاميين، حتى الزهري أصله مدني؛ لكنه سكن الشام، والحديث متفق عليه.
قال ابن منده: هَذَا حَدِيثٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَعَنْهُ مَشْهُورٌ، رَوَاهُ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، وَعُقَيْلٌ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ، وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَابْنُ إِسْحَاقَ. كل هؤلاء رووه عن الزهري.
وقال ابن رجب: "هذا الحديث سمعه أبو إدريس، عن عقبة بن عامر، عن عبادة" -زاد فيه من؟ زاد عقبة بن عامر، بين من؟ بين أبي إدريس وعبادة، فيه زيادة في الإسناد- قال: "وزيادة عقبة في إسناده: وهْم، وقد خرج البخاري الحديث في "ذكر بيعة العقبة" وفي "تفسير سورة الممتحَنة".
ولا الممتحِنة؟ كلاهما صحيح، وهنا أنبّه على أنصاف المتعلمين الموجودين على الإنترنت، كثير من المقالات التي نكتبها نضع أشياء فيها لها وجهان، تصح على الوجهين؛ فأنصاف المتعلمين الذين يبادرون إلى الإنكار وبفظاظة لا يعرف من الوجهين إلا وجهًا واحدا؛ فيظن أن الوجه الثاني خطأ، فيبادر بالتخطئة والتغليظ بالقول أيضًا، جاهل ولم يعلم بأنه جاهل، جهله مركّب، وتجاوز حدوده، وفعل ما لا يجوز له فعله، لماذا؟ لجهله، قبل أن تنكر تعلم، أنت تعرف أن هذا الوجه صحيح، لكن هل عرفت أن الوجه الثاني خطأ، هذا مهم جدًا وركز على هذه المسألة، الممتحَنة والممتحِنة كلاهما صحيح، الممتحَنة تعود على ماذا؟ على المرأة التي نزلت بها السورة، الممتحِنة تعود على السورة نفسها، كلاهما صحيح عند أهل العلم، فأنت إذا عرفت واحدة وجهلت الثانية أهي صواب أم خطأ راجع، ادرس، تعلم، أو سل قبل أن تنكر، حتى لا تُظهر جهلك لغيرك وتفضح نفسك وتشهد على نفسك بأنك من أنصاف المتعلمين، هذه نصيحة أوجهها للجميع، قبل أن تتكلم في شيء تعلم، ثم الإنكار له ضوابط، والكلام في العلم له أصول، تعلم كل هذا قبل أن تضع نفسك في موضع غير لائق بك.
قال: "وفي "تفسير سورة الممتحنة" من كتابه هذا، وفيه التصريح بأن أبا إدريس أخبره به عبادة وسمعه منه"
إذًا لا يوجد واسطة بينهم، فيه التصريح بالسماع. انتهى كلامه رحمه الله.
ونكتفي بهذا القدر والحمد لله، نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم.