الخميس 20 جمادة الاولى 1446 هـ
21 نوفمبر 2024 م
جديد الموقع   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-77 كتاب التيمم، الحديث 344   الصوتيات: شرح العقيدة الشامية-12   الصوتيات: شرح العقيدة الشامية-11   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-76 كتاب التيمم، الحديث 338و339و340و341و342و343   الصوتيات: شرح العقيدة الشامية-10   الصوتيات: شرح العقيدة الشامية-9   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-75 أول كتاب التيمم، الحديث 334و335و336و337   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-74 آخر كتاب الحيض، الحديث 324و325و326و327و328و329و330و331و332و333   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-73 كتاب الحيض، الحديث 318و319و320و321و322و324,323   الصوتيات: شرح العقيدة الشامية-8      

تفريغ شرح صحيح البخاري-11، كتاب الإيمان، الحديث 26و27و28

الدرس الحادي عشر: بتاريخ: 11/01/1445ه – 29/07/2023

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد:

فمعنا اليوم الدرس الحادي عشر من دروس شرح صحيح البخاري، ولا زلنا في كتاب الإيمان، وصلنا عند الحديث السادس والعشرين.

قال المؤلف: "‌‌بَابُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾" في نسخة أيضًا: وقال: ﴿لمثل هذا فليعمل العاملون﴾.

"26 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : «أَنَّ رَسُولَ اللهِ سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ»"

"باب: من قال إن الإيمان هو العمل" مقصود البخاري رحمه الله بهذا التبويب أن بعض أهل العلم قال: "إن الإيمان كله عمل" خلافًا لمن يقول: إن الإيمان لا عمل فيه ألبتة.

فقول القلب وعمله: عمل.

وقول اللسان وعمله: عمل.

وعمل الجوارح أيضًا: عمل، فكله عمل، واستدل على ذلك بالآية "﴿وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون﴾" فدخولهم الجنة كان بالعمل، العمل سببُ دخولهم الجنة، والعمل هنا: الإيمان الشامل للقلب، واللسان، والجوارح، فاعتقاد القلب؛ ما في القلب: عمل، وقول اللسان: عمل، لأنهم دخلوا الجنة بهذا ولا لا؟ دخلوا الجنة بهذا، إذًا فكله عمل، هذا ما يريده.

وقد تقدم إثبات أن ما في القلب عمل في الأبواب السابقة.

واستدل على أن القول عمل بقوله: "وقال عِدّةٌ من أهل العلم" يعني جماعة من أهل العلم، نُقل هذا التفسير عن بعض الصحابة ومن بعدهم، تفسير قول الله تبارك وتعالى: "﴿فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون﴾ قالوا: عن قول: "لا إله إلا الله"، فعدّ هؤلاء الأئمة الذين فسّروا الآية بهذه، عدوا النطق بـ لا إله إلا الله عملًا، وهذا التفسير هو تفسيرٌ بجزء المعنى، لكن كلمة "لا إله إلا الله" داخلة في العمل، إذًا فهي عمل، هذا المراد.

لكن لا يحصر هذا بهذه الكلمة؛ لأن عادة السلف رضي الله عنهم أنهم يفسّرون الآية أحيانًا ببعض معناها، ويشيرون إلى كامل المعنى بجزئه، فإذا -مثلًا- قرأتَ تفسير آية: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ ستجدهم يفسرونها بأقوال مختلفة، منهم من يقول: هو الطريق المستقيم، ومنهم من يقول: هي السنة، ومنهم من يقول: هو أبو بكر وعمر، إلى آخره...، هذا جزء من المعنى، يشيرون به إلى المعنى المقصود، فكل الكلمات التي يذكرونها تصبُّ في معنى واحد، المهم أنهم يستعملون هذا الأسلوب.

لكن المراد من ذلك أن "لا إله إلا الله" داخلة في العمل أم لا؟ هي داخلة عندهم، لا شك، وهذا المراد للإمام البخاري رحمه الله أن يثبت أن النطق عمل؛ لأنه أثبت سابقًا أن ما في القلب عمل.

وأما أعمال الجوارح فلا يحتاج إلى أن يستدل لها على أن أعمال الجوارح عمل؛ لأنهم لا يختلفون في هذا.

كل هذا للرد على المرجئة الذين يقولون بأن الأعمال غير داخلة في الإيمان.

قال رحمه الله: "حدثنا أحمد بن يونس" هو أحمد بن عبد الله بن يونس بن عبد الله بن قيس التميمي اليَربوعي، الكوفي، نُسب إلى جده، ثقة، حافظ، صاحب سنة.

قال فيه الإمام أحمد: (شيخ الإسلام).

يروي عن أتباع التابعين، مات سنة 227، وهو ابن 94 سنة، روى له الجماعة.

قال أحمد بن يونس: (قدمت البصرة فأتيت حماد بن زيد، فسألته أن يُملي عليَّ شيئًا من فضائل عثمان رضي الله عنه، فقال لي: "من أين أنت؟" قلت: من أهل الكوفة) أهل الكوفة كان قد انتشر فيهم التشيع وظهر، فقال: ("كوفي يطلب فضائل عثمان؟!") عجيب ("والله لا أمليتها عليك إلا وأنا قائم، وأنت جالس" قال: فقام وأجلسني وأملى علي، وكنت أسارقه النظر) ينظر له من تحت (فكان يُملي وهو يبكي) هذا تعظيمًا للسنة وأهل السنة؛ ولأنه كان من الغرباء من أهل السنة بين أهل البدع في بلده.

وغربة السنة اليوم كثير، في كل مكان بلا استثناء، صاحب السنة غريب، غريب بالسنة، ونِعم الغربة، قال فيها النبي ﷺ: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء».

وهذا من تعظيمه للسنة وحبه لأهلها، ولِما كان فيه هذا من غربة بين أهل البدع، احترمه هذا الاحترام، وقدّره، وعظّم من شأنه، وبكى على غربة السنة.

وهذا نصّوا على أنه صاحب سنة؛ لأن بلده كان فيها الشيعة، وحتى لا تتوهم أنه منهم قالوا لك: هو صاحب سنة.

"وموسى بن إسماعيل" أي: يقول البخاري: حدثنا أحمد، وحدثنا موسى بن إسماعيل أيضًا، فله شيخان في هذا الإسناد، وهذا "موسى بن إسماعيل" هو المِنقري، أبو سلمة التَّبوذكي، ثقة حافظ، تقدم.

"قالا:" أي أحمد وموسى "حدثنا إبراهيم بن سعد" بن إبراهيم بن عبد الرحمن، بن عوف القُرشي الزُهري، أبو إسحاق المدني، ثقة حجة، تقدم.

قال: "حدثنا ابن شهاب" هو محمد بن مسلم بن شهاب، نُسب إلى جده، الزهري الإمام المشهور، تقدم. "عن سعيد بن المسيب" يُقال: المسيِّب، والمسيَّب، والفتح هو المشهور عند أهل الحديث، وحكي عنه أنه كان يكرهه -يكره الفتح-، ومذهب أهل المدينة الكسر.

هو ابن حزم بن أبي وهب بن عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، أبو محمد المدني، زوج بنت أبي هريرة، وأعلم الناس بحديثه، أعلم أهل المدينة بعد الصحابة، وأفقه التابعين، أحد الأئمة الكبار، والعلماء الأثبات الأجلاء، وأحد فقهاء المدينة السبعة، مات بعد ال90، وقد ناهز ال80، روى له الجماعة.

قال فيه ابن عمر -صاحب رسول الله ﷺ-: (هو والله أحد المفتين).

قال علي ابن المديني: (لا أعلم في التابعين أحدًا أوسعَ علمًا من ابن المسيِّب، هو عندي أجلُّ التابعين).

قال أبو حاتم: (ليس في التابعين أنبل منه، وهو أثبتهم في أبي هريرة).

وقبلوا روايته عن عمر، وإن لم يسمع منه، والبعض قال: سمع.

ومراسيله أصح المراسيل، وهو ممن لا يروي إلا عن ثقة، وفي سيرته فوائد طيبة، أنصح بقراءتها.

قراءة ترجمة هؤلاء الأئمة تجد فيها الكثير من المنهج الذي كانوا عليه، فتتعلم منهج السلف في تعاملهم مع المسائل العلمية المختلفة؛ فلذلك من المهم الاطلاع على هذه التراجِم.

قال النووي رحمه الله: (واتفق العلماء على إمامته، وجَلالته، وتقدمه على أهل عصره في العلم والفضيلة، ووجوه الخير)

قال محمد بن يحيى بن حبان: (كان رأس أهل المدينة في دهره، المقدم عليهم في الفتوى: سعيد بن المسيب، ويقال له: فقيه الفقهاء) انتهى.

وقد اختلف العلماء في أفضل التابعين، من هو؟ على أقوال، منها ما قاله الخفيف.

قال أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي: (أهل المدينة يقولون: أفضل التابعين ابن المسيب، وأهل الكوفة يقولون: أويس القرني) أويس القرني ليس عالمـًا؛ إنما هو زاهد؛ لكن لأنه قد ورد فيه حديث في صحيح مسلم عدّه البعض أفضل التابعين، (وأهل البصرة يقولون: الحسن البصري، واستحسنه ابن الصلاح، وبعضهم فصّل، فقال: أفضلهم في الزهد: أويس القرني) للحديث الوارد فيه، وحديثه سيأتي إن شاء الله الكلام عليه في صحيح مسلم بإذن الله، (وأفضلهم في العلم: سعيد بن المسيب، وأما من النساء؛ فقال أبو بكر ابن أبي داود: سيدتا التابعيات: حفصة بنت سيرين، وعَمْرة بنت عبد الرحمن) عمْرة هذه تلميذة عائشة، قال: (وتليهما أم الدرداء) أم الدرداء اثنتان: الكُبرى والصُغرى، والمقصود هنا: الصغرى، والتفصيل في كتب المصطلح،

"عن أبي هريرة رضي الله عنه" صاحب رسول الله ﷺ "أن رسول الله ﷺ سُئل أي العمل أفضل؟" أي: العمل أفضل من غيره، وأكثر أجرًا؟ فقال: "«إيمان بالله رسوله»" فهذا نص على أن الإيمان بالله ورسوله ﷺ عمل، وهذا مراد البخاري؛ لأن السؤال عن أيش؟ عن أفضل العمل، "أي العمل أفضل؟" فكان الجواب: "«إيمان بالله ورسوله»" فدلَّ على أن الإيمان عمل، ومنه المعرفة والتصديق، والنطق بالشهادتين، فهذا كله عمل، وهذا مراد البخاري منه،

"قيل: ثم ماذا؟" يعني العمل الذي بعد الإيمان بالله ورسوله ﷺ في الأفضلية، قال: "«الجهاد في سبيل الله»" الجهاد: هو القتال المشروع لإعلاء كلمة الله تعالى، فيدخل في هذا: قتال الكفار والبغاة والخوارج، خصُّه بالكفار خطأ، قتال الخوارج جهاد من أعظم الجهاد، وقتال البغاة، كله جهاد.

القتال المشروع: يخرج القتال الممنوع شرعًا، كقتال الخوارج للمسلمين، وقتلهم للمسلمين، هذا ليس جهادًا، لماذا؟ لأنه ممنوع، قد حذر النبي ﷺ منهم، ونهى عن فعلهم، فقتالهم ليس مشروعًا، حتى وإن زعموا أنهم يقاتلون لإعلاء كلمة الله، فليس كل من زعم صدق في زعمه؛ حتى وإن كان صادقًا في ظنه أنه يفعل ذلك.

لماذا؟ حتى لو كان يظن في نفسه أنه يقاتل لإعلاء كلمة لا إله إلا الله وكان صادقًا في نيته؟!

حتى ولو، لا يكون قتاله جهادًا.

كيف؟ من أين؟

مما قاله النبي ﷺ، حيث ذكر الخوارج، فقال: «يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم، وهو عليهم» وذمهم النبي ﷺ، وذكر أنهم: «أهل النار»، مع أنهم يحسبون أن القرآن لهم، إخلاصك في عملك لا يكفي، لا بد أن تركز على هذا، كثير من الناس -حتى من بعض أهل العلم- يظن أن الشخص إذا كان مخلصًا خلاص، انتهى الأمر، وهذا الكلام باطل ﴿الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا﴾ ﴿ويحسبون أنهم مهتدون﴾ لكن كانوا هَلكى جميعًا، إذًا هناك شرطٌ ثانٍ يجب أن تركز عليه، كما تركز على الأول، وهو: أن يكون عملك موافقًا للسنة «فمن رغب عن سنتي فليس مني» و «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَد» هذا ركز عليه جيدًا، فلا الإخلاص وحده ينفع بدون المتابعة، ولا المتابعة وحدها تنفع بدون الإخلاص، لا بد أن يجتمعا، إذًا من هنا تعلم خطورة عبادة الله عن جهل، تبقى تعبد الله 60 سنة وتأتي يوم القيامة صِفْر اليدين، لا شيء -بمعنى الكلمة- لماذا؟ لأنك تعبد بجهل، لا تعرف ما الذي تفعله أهو صواب أم خطأ؟ أيحبه الله أم لا يحبه؟

لذلك غضب النبي ﷺ ممن أرادوا أن يخرجوا عن سنته مع حسن قصدهم، وقال: «من رغب عن سنتي فليس مني» حسن القصد وحده لا يكفي، وإن صدق الخارجي بحسن قصده وسلّمنا بهذا جدلًا فلا ينجو، لماذا؟ لأن قتاله غير مشروع، ممنوع.

هذا الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة: "لا إله إلا الله" بالطريقة التي شرعها الله سبحانه وتعالى.

النبي ﷺ لما كان في مكة ما أُذن له بالقتال، ما قاتل، فلو وُجد أحدنا في ذاك الوقت وقاتل بزعم أنه يعلي كلمة "لا إله الا الله" فقتاله باطل، لم يؤذن له، ما قاتل ﷺ حتى هاجر، وأُذن له بالقتال، هذا هو شرعنا، هكذا يجب أن تفهم؛ أنك عبد لله ويجب أن تكون مطيعًا له، تفعل ما يحب ويرضى، لا ما تهوى، لماذا جُعل الجهاد أفضل من غيره؟

1- لأنه بذل النفس في سبيل الله تبارك وتعالى، والنفس غالية.

2- ومنفعته متعدية -السبب الثاني- لأن منفعته متعدية، فالعمل الذي منفعته متعدية أفضل من العمل الذي منفعته قاصرة، يعني لو أردت أن تصلي نافلة، أو أردت أن تعطي درسًا تعلّم الناس فيه التوحيد والسنة، أيهما أفضل؟ الثاني؛ لأن صلاة النافلة عبادة قاصرة عليك، بينما تعليم الدرس عبادة متعدية، فهذه أنفع.

"قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»" الحج المبرور: هو الحج الخالص لله تبارك وتعالى، والذي يكون على هدي النبي ﷺ، لا يكون الحج مبرورًا إلا بهذين الشرطين؛ الإخلاص والمتابعة في كل عمل.

قال أهل العلم: (ولا يرتكب فيه صاحبه معصية) واستدلوا بحديث أبي هريرة: «من حج فلم يرفُث، ولم يفسُق، رجع كيوم ولدته أمه» متفق عليه، وقال البعض: الحج المبرور: هو المقبول.

الظاهر يحصل هنا فرق بين الأول والثاني، المقبول لا بد أن يتحقق فيه شرط الإخلاص، وشرط المتابعة.

لكن هل إذا دخَلت فيه معصية يكون مبرورًا أم لا؟ على القول الأول لا، على القول الثاني نعم إذا قُبل، إذا كانت المعصية لا تمنع من قَبوله.

قال النووي: (ذَكر في هذا الحديث: الجهاد بعد الإيمان، وفي حديث أبي ذر: لم يذكر الحج، وذكر العِتق، وفي حديث ابن مسعود: بدأ بالصلاة، ثم البِر، ثم الجهاد، وفي الحديث المتقدم: ذكر السلامة من اليد، واللسان» كله فيه: "أي الإيمان أفضل؟"، "وأي الإيمان خير؟"

قال العلماء: (اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين) حسب حاجة المخاطب (وَذَكر ما لا يعلمه السائل والسامعون، وترك ما علموه، ويمكن أن يقال: إن لفظة "مِن" مرادة) أي: "أيُّ العمل أفضل؟" يعني: أيٌّ (مِن) العمل الأفضل؟ كذا وكذا... (كما يُقال: فلان أعقل الناس، والمراد: مِن أعقلهم، ومنه حديث: «خيركم خيركم لأهله» ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خيرَ الناس) يعني يكون هناك تقدير: "من خيركم" (فإن قيل: لم قدم الجهاد وليس بركن، على الحج وهو ركن؟ فالجواب: أن يقال: الحج قاصر غالبًا، ونفع الجهاد متعدٍّ غالبًا، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين، ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر، فكان أهم منه، فقُدِّم، والله أعلم) انتهى.

الحديث فيه: بيان فضيلة الإيمان، والجهاد في سبيل الله، والحج المبرور.

وهو حديث متفق عليه من حديث إبراهيم بن سعد، عن الزهري.

وأخرجه مسلم أيضًا من حديث معمَر عن الزهري به، وهذه الطريق أخرجه البخاري في جزء "خلق أفعال العباد" -يعني طريق معمر- وأخرجه جمع غيرهم من طُرق عن أبي هريرة؛ أصحها طريق سعيد.

قال الترمذي: قد روي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ؛ لكن أصح هذه الطرق هي طريق سعيد، هي الطريق التي أخرجها البخاري ومسلم.

وروي هذا الحديث أيضًا من طريق آخر من رواية سعيد وأبي سلَمَة عن أبي هريرة غيره، فسُئل الدارقطني عن هذا -عن حديث سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة: "سأل رجل رسول الله ﷺ أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وجهاد في سبيله، وحج مبرور» فقال الدارقطني: (يرويه الزهري، واختُلف عنه، فرواه يزيد بن أبي حبيب، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، وخالفه: إبراهيم بن سعد، ومعمر فروياه: عن الزهري، عن سعيد وحده، عن أبي هريرة، ثم أخرجه بإسناده عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب به) انتهى.

يتبين لنا من هذا أن هذه الرواية منكرة، والصحيح هي الرواية التي أخرجها البخاري ومسلم رحمهما الله.

قال المؤلف رحمه الله: "‌‌بَابٌ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ فَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ﴾.

27 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا. فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا. ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللهِ ، ثُمَّ قَالَ: يَا سَعْدُ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ.»

وَرَوَاهُ يُونُسُ، وَصَالِحٌ، وَمَعْمَرٌ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ"

ماذا يريد البخاري من هذا التبويب؟ ما المعلومة التي يريد أن تصلنا؟

يريد أن يقول لنا: إن الإسلام يطلق ويراد به معنيان:

أ‌- المعنى الحقيقي: وهو الإيمان ظاهرًا وباطنًا، وهذا المعنى الذي يقال له: "المعنى الحقيقي" هو الذي يتحدث عنه العلماء لما يعرفوا الإيمان والإسلام، أي الإسلام هنا هو الذي يقولون: هو بمعنى الإيمان، أو بينه وبين الإيمان فرقٌ، وهذا الإسلام هو الذي ينفع صاحبه، ويدخله الجنة، وهو المقصود في قول الله تبارك وتعالى: ﴿‌إِنَّ ‌الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19] فيشمل الإيمان القلبي، ونطق اللسان، وأعمال الجوارح، ﴿‌وَمَنْ ‌يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 85] هذا هو الإسلام الذي ينفعه عند الله سبحانه وتعالى، وهو الإسلام الذي هو بمعنى الإيمان الظاهر والباطن، ويدخل فيه المعرفة، والتصديق، وأعمال القلوب، ونطق اللسان، وأعمال الجوارح، كلها مقصودة، هذا المعنى الأول للإسلام.

ب‌- ويطلق الإسلام على معنى الاستسلام في الظاهر فقط: على معنى الاستسلام في الظاهر، وأما في الباطن فليس مسلمًا، فهو بمعنى الاستسلام ظاهرًا في الدنيا خوفًا على نفسه وهو إسلام المنافقين، وهذا الإسلام ينفع الشخص في الدنيا، يَعصم دمه به في الدنيا، لكن يوم الحساب لا ينفعه، هؤلاء أصحابه في الدرك الأسفل من النار.

استدل المؤلف رحمه الله على هذا النوع بقول الله تبارك وتعالى: ﴿قَالَتِ ‌الْأَعْرَابُ ‌آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14] لأن المؤلف لا يفرّق بين الإيمان والإسلام.

لكن اختلف العلماء في هذه الآية: هل هي في المنافقين بحيث يكون الإسلام قد أُطلق على هذا المعنى في هذه الآية أم لا؟ الآن في عندنا مسألتان:

الأولى: تقسيم الإسلام إلى هذين القسمين، ويُطلق الإسلام على هذين المعنيين.

الثانية: هل هذه الآية كما استدل بها الإمام البخاري في المنافقين؟ أم لا تصلح دليلًا في هذا الموطن؛ لأنها ليست في المنافقين؟

هذا خلاصة الموضوع الآن، هذه المسألة الثانية لا تؤثر على المسألة الأولى؛ لأن إطلاق الإسلام على المعنيين ثابت في الكتاب والسنة، ودليله: إطلاقه على المنافقين، انتهى الأمر.

لكن المسألة الثانية وحدها فيها خلاف؛ نفس الآية هذه هل المقصود بها المنافقون أم لا؟

قال ابن رجب رحمه الله: (معنى هذا الكلام) يعني معنى الكلام البخاري رحمه الله (أن الإسلام يُطلق باعتبارين:

أحدهما: باعتبار الإسلام الحقيقي، وهو دين الإسلام الذي قال الله فيه: ﴿‌إِنَّ ‌الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19] وقال: ﴿‌وَمَنْ ‌يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 85])

هنا في نسخة من نفس صحيح البخاري هذه الآية الثانية موجودة في كلام البخاري: ﴿‌وَمَنْ ‌يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ في النسخة اليونينية غير موجودة؛ لكن في حاشيتها في رواية أبي ذر عن المستملي وغيرها من النسخ مثبتة ﴿‌وَمَنْ ‌يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾.

قال: (والثاني) أي الاعتبار الثاني (باعتبار الاستسلام ظاهرًا مع عدم إسلام الباطن إذا وقع خوفًا) يعني يحصل من الشخص ويُسلم، يقول: لا إلا الله محمد رسول الله بس خوفًا على نفسه، قال: (كإسلام المنافقين واستدل بقوله تعالى) يعني البخاري (﴿قَالَتِ ‌الْأَعْرَابُ ‌آمَنَّا﴾ فذكر الآية، وحمله على الاستسلام خوفًا وتَقيّة) يعني كإسلام المنافقين، انتهى المراد.

انتهينا واتفقنا على أن الإسلام يطلق باعتبارين في القرآن والسنة، فيقال إسلام ويراد به هذا ويراد به هذا، أما الخلاف في الآية:

قال ابن تيمية رحمه الله: (وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إسْلَامًا بِلَا إيمَانٍ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: "أَعْطَى النَّبِيُّ ﷺ رَهْطًا" وَفِي رِوَايَةٍ: "قَسَمَ قَسْمًا وَتَرَكَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْطَهُ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إلَيَّ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما لَك عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أو مُسْلِمًا» أَقُولُهَا ثَلَاثًا وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: «إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ»" وَفِي رِوَايَةٍ: "فَضَرَبَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي وَقَالَ: «أَقَتَّالٌ أَيْ سَعْدٌ»" فَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي نَفَى اللَّهُ عَنْ أَهْلِهِ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ) عن الآية يعني (هَلْ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ؟) أهو بمعنى الإسلام الأول؟ قال: (أَمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ؟) بالمعنى الثاني؟ (فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ) اختلفوا في هذه الآية.

(أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الْحَسَنِ) يعني البصري (وَابْنِ سِيرِين، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي، وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ؛ وَهُوَ قَوْل حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَستُري، وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَقَائِقِ.

وقال: (وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ خَوْفَ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ مِثْلُ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ، قَالُوا: وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَالسَّلَفُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ ‌عَلَى ‌أَنَّ ‌الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ) ابن تيمية يذهب إلى خلاف ما ذهب إليه البخاري رحمه الله، ويستدل على ذلك، قال: (أَنَّهُ قَالَ: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ هَذَا الْإِسْلَامِ؛ آجَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْمُنَافِقُ عَمَلُهُ حَابِطٌ فِي الْآخِرَةِ) يعني لا يؤجرون، هذا فرقٌ، قال: (وأيضًا) شيء آخر، دليل ثاني، على أن الإسلام المقصود هنا إسلام ينفع (وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِخِلَافِ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ) ﴿قالت الأعراب آمنا﴾ وصف الأعراب هنا بخلاف صفات المنافقين، (فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ وَصَفَهُمْ بِكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ) وقال: (فَالْمُنَافِقُونَ يَصِفُهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِالْكَذِبِ؛ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَبِأَنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ؛ وَهَؤُلَاءِ) يعني الذين في الآية (لَمْ يَصِفْهُمْ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ) إذًا صار في فرق بين هؤلاء وهؤلاء، وقال: (وَنَفْيُ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ) يعني: الكامل (لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ) انتهى المراد.

والخلاصة: الإسلام يطلق على معنيين، هذا صحيح لا يختلفون فيه.

وأما الاستدلال بالأدلة المذكورة على النوع الثاني فيه نزاع؛ ولكن إطلاق اسم الإسلام على المنافقين كاف لإثباته، الله أعلم.

إذًا ما عندنا إشكال على أن الإسلام يطلق على معنى الإيمان، ويطلق الإسلام على معنى الاستسلام فقط بدون إيمان.

"حدثنا أبو اليمان" الحكم بن نافع الحمصي، ثقة تقدم.

قال: "أخبرنا شعيب" ابن أبي حمزة الحمصي، ثقة حافظ تقدم.

"عن الزهري" المفروض هذا الإسناد صار عندكم منتهي أمره، وهكذا كلما تكررت الرجال وتكررت الأسانيد تُحفظ، هذا الإسناد يُكثر منه الإمام البخاري رحمه الله: "أبو اليمان عن شعيب عن الزهري".

والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب، إمام تقدم،

قال: "أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص" وأبو وقاص اسمه: مالك ابن أُهيب -بضم الهمزة-، أو وهب، أو وُهيب، ابن عبد مناف القرشي الزُهري المدني، ثقة، مات سنة 104 وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.

"عن سعد رضي الله عنه" هو ابن أبي وقاص، مالك بن أُهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القُرشي الزهري، يُكْنى أبا إسحاق، من أوائل من أسلم، وشهد بدرًا والحديبية، وسائر المشاهد، وهو أحد الستة الذين جعل عمر فيهم الشورى، وأخبر أن رسول الله ﷺ توفي وهو عنهم راضٍ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وكان مُجاب الدعوة مشهورًا بذلك، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله.

العشرة المبشرون بالجنة من الصحابة: قد بُشّر بالجنة أكثر من هذا العدد، منهم عائشة وخديجة وغيرهم، لكن المقصود بالعشرة المبشرين بالجنة أنهم قد ذُكروا في حديث واحد:

الخلفاء الأربع: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأيضًا: عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة ابن عُبيد الله، وأيضًا: سعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة ابن الجراح.

قال: (إني لأول العرب رمى بسهمٍ في سبيل الله) هذا سعد بن أبي وقاص (ولقد رأيتُنا نغزو مع رسول الله ﷺ وما لنا طعام نأكله إلا ورق الحُبْلَة، وهذا السَّمُر) هذا نوعان من شجر البادية، يعني ما لهم طعام إلا أن يأكلوا من الشجر، من ورق الشجر فقط، من شدة الحاجة، وقلة ذات اليد، قال: (حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خِلْطٌ) الإخراج، عندما يُخرِج؛ ماذا سيخرج الذي يأكل ورق الشجر؟ لا شيء، مثل ما تخرجها الحيوانات؛ البقر وما شابه، يعني يبيّن لك شدة الحاجة والفقر مع النبي ﷺ، ومع ذلك كانوا يقاتلون و يجاهدون في سبيل الله (ثم أصبحتْ بنو أسَدٍ يُعزِّروني على الدين) يعني: يوقفوني ويحاسبوني على الدين، على تقصيري فيه، (لقد خبتُ إذًا وضلَّ عملي) اتهموه بأشياء وهم كذبة فيما اتهموه فيه طبعًا.

قال علي من أبي طالب: (ما رأيتُ النبي ﷺ يُفدِّي رجًلا بعد سعد) كان يقول له النبي ﷺ: «ارمِ فداك أبي وأمي» سمعته يقول: («ارمِ فداك أبي وأمي»).

كان أحد الفرسان الشجعان من قريش، تولى قتال فارس، أمّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ذلك، وفتح الله على يديه بعض فارس، وله مناقب كثيرة، اخْتُلِفَ في وقت وفاته: فقيل توفي سنة 55 وهو ابن بضع وسبعين سنة، وقيل غير ذلك، وهو آخر العشرة وفاة، روى له الجماعة.

قال: "أن رسول ﷺ أعطى شيئًا من الدنيا" ذهبًا أو إبلًا أو غير ذلك، "رهطًا" الرهط: عدد من الرجال من ثلاث إلى عشرة، وقيل غير ذلك في عددهم، ورهط الرجل: قومه وقبيلته.

"وسعدٌ جالس" النبي ﷺ كان يعطي الأموال لبعض الناس وسعدٌ جالس ينظر، وهو سعد ابن أبي وقاص يتحدث عن نفسه، في رواية عند البخاري: "وأنا جالسٌ فيهم".

"فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ رَجُلًا" فلم يعطه "هو" أي: الرجل الذي تركه النبي ﷺ فلم يعطه "أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ" وأفضلهم وأصلحهم عندي، فقال: "قلت: يا رسول الله، مالَكَ عن فُلان" يعني: لأي سبب تركت إعطاء فلانٍ وأعطيت غيره، من هو فلان هذا؟ لا يصح في ذلك شيء، ولا يهم، الأمر سهل، لو كان في معرفته فائدة لبُيّن.

قال: "فوالله لإِني لأَراه مؤمناً"

قال ابن حجر: ("لَأُرَاهُ" ‌وَقَعَ ‌فِي ‌رِوَايَتِنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ هُنَا) لأُراه يعني: لأظنه.

أُراه: أظنه، أَراه: أعلمه، هذا الفرق بينمها.

والرواية وردت: "لأَراه"، وفي رواية ثانية: "لأُراه" وهما روايتان.

قال ابن حجر: (‌وَقَعَ ‌فِي ‌رِوَايَتِنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ) الرواية التي يعتمدها ابن حجر رحمه الله هي رواية أبي ذر، لكن في رواية أبي ذر وغير رواية أبي ذر يقول لك وقعت عندي بضم الهمزة هنا.

(وَفِي الزَّكَاةِ) أيضًا كتاب الزكاة كما سيذكره، الإمام البخاري رحمه الله يخرج الحديث هناك (وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ) إذًا في عدة روايات، وردت "لأُراه" يعني: لأظنه (وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ:) يعني النووي ("بَلْ هُوَ بِفَتْحِهَا) أي: وجاءت رواية أيضًا بالفتح (أَيْ: أَعْلَمُهُ، وَلَا يَجُوزُ ضَمُّهَا) هكذا جزم النووي رحمه الله (فَيَصِيرُ بِمَعْنَى أَظُنُّهُ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ اه") استدل بهذه الكلمة على أنها لأَراه، لأَراه بمعنى أعلمه، فسرها بالتي بعدها.

قال ابن حجر: (وَلَا دَلَالَةَ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى تَعَيُّنِ الْفَتْحِ) لا بد أن تكون الآراء، وهكذا أراد النووي رحمه الله استدل بما ذكر.

ابن حجر يقول لا، مش لازم، ليش مش لازم؟! قال: (لِجَوَازِ إِطْلَاقِ الْعِلْمِ عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ) وهذا يصح، وهذا معروف، يُطلق العلم على الظن، وهذا ثابت، إذًا لا يصح الجزم بهذا أن تكون بالفتح، ربما تكون بالضم، خاصة وأن الرواية وردت بهذا ووردت بهذا.

لكن أجابوا أيضًا عن كلام الحافظ بأن قسَم سعد، وتأكيد كلامه بإن واللام التي هي للتأكيد، ومراجعته للنبي ﷺ، وتكرار نسبة العلم إليه، يدل على أنه كان جازمًا باعتقاده، هذه قرائن اعتمدوا فيها على أنه كان جازمًا؛ إذًا الصواب أن نقول "لأَراه"، لكن هذا لا يلزم فغلبة الظن القوية تقتضي هذا الذي ذُكر أيضًا، هذه القرائن غير كافية لما ذهبوا إليه، خاصة أن الرواية قد صحت بالضم؛ إذاً يصح أن تكون بالضم، أو أن تكون بالفتح.

وإذا حُملت رواية الفتح على الضم، صح الجمع بينهم، فتكون رواية الفتح بمعنى أَعلمه، وتكون بمعنى الظن الغالب، فتنسجم مع رواية الظن، "فقال" النبي ﷺ: "«أو مسلما»" لما قال سعد إني لأراه مؤمنًا، قال النبي ﷺ: "«أوْ مسلمًا»" بسكون الواو، "أوْ" للإضراب، أي: بل قل إني لأَراه مسلمًا.

"أوْ" هذه تستعمل للإضراب في لغة العرب، بمعنى "بل"، أي: بل قل إني لأَراه مسلماً، يعني لا تقل مؤمناً، قل مسلماً.

في رواية النسائي قال: «لا تقل مؤمنٌ، وقل مسلمٌ» وهذه فسرت المعنى. وهذا ليس معناه أن النبي ﷺ ينكر إيمانه؛ بل المعنى أن إطلاق المسلم على من لم يُختبر حاله الخِبرة الباطنة أولى من إطلاق المؤمن؛ لأن الإسلام معلوم بحكم الظاهر، بخلاف الايمان الباطن؛ بل في الحديث إشارة إلى إيمان الرجل المذكور، وهي قوله: «لأُعطي الرجل وغيره أحب إلي منه» ففي هذا إشارة إلى أنه كان مؤمناً، ولا يريد نفي الإيمان عنه.

فهذا يدل على أن النبي ﷺ ترك إعطاءه لإيمانه ولأنه أحب إليه ممن أعطاه.

قال سعدٌ: "فَسَكَتُّ" فسكتُّ سكوتًا "قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ" غلبني الذي أعلمه منه من إيمانه وصلاحه، "فَعُدْتُ" رجعت "لِمَقَالَتِي" رجعت لنفس القول الذي قلته، وأعدته مرة أخرى.

"فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ: «أَوْ مُسْلِمًا»، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" يعني بنفس الجواب، نفس الكلام، ونفس الجواب عن النبي ﷺ.

"ثم قال --: «يَا سَعْدُ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ»" ضعيف الإيمان أعطيه العطاء، أتألَّف قلبه به "وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ" هكذا في أكثر الروايات، وفي رواية أبي ذر والحمويْ والمستملي: «أعجب إليّ منه خشية»

"«خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ»" أي: خشية أن يكفر، أو أن يعترض على رسول ﷺ، ويحصل في نفسه عليه شيء؛ لأن الإيمان لم يتمكن من قلبه، فيلقيه الله في النار لذلك.

وليس مقال سعدٍ مناقضًا للنبي ﷺ، لكن لما أطلق سعد إيمانه قال له النبي ﷺ وحثه لأن يقول: "أو مسلمًا" مع قوله: "إني لأُراه مؤمنًا"، بمعنى أن هذه اللفظة، التي تطلق على الظاهر، وهي لفظة "مسلم" أولى في الاستعمال إذ لفظ الإيمان يُعبر به عن ما في الباطن، والسرائر مخفية لا يعلمها إلا الله، فلذلك عَبِّرْ بكلمة "مسلم" أولى.

خلاصة القصة: النبي ﷺ كان يوسع العطاء لمن أظهر الإسلام ويعطيهم تألُفاً، فلما أعطى الجماعة -وهم من المؤلّفة- وترك الرجل وسعد يحسن الظن به، خاطبه سعد في أمرهِ، لأنه كان يرى أن الرجل أحق منهم لما يعلمه منه من صلاح، فظن سعد أن العطاء يكون على حسب الإيمان، وأن الأعظم إيمانًا أولى بالعطاء من غيره ولهذا راجع فيه أكثر من مرة، فأرشده النبي ﷺ إلى أمرين.

الأول: إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك، وحرمان الرجل مع كونه أحب إليهم ممن أعطى؛ لأنه لو ترك إعطاء المؤلفة لم يُؤْمَنْ ارتدادهم، فيكونوا من أهل النار.

ثانيها: إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر.

فوضَح بهذا فائدة رد الرسول ﷺ على سعد، وأنه لا يستلزم محض الإنكار عليه، بل كان أحد الجوابين على طريق المشورة بالأَوْلى، يعني الأَولى أن تقول هذا، والآخر لبيان الحكمة. انتهى، هذا قاله الشراح باختصار.

قال ابن رجب رحمه الله: (فهذا الحديث محمول عند البخاري على أن هذا الرجل كان منافقًا) عند من؟ عند البخاري (وأن الرسول ﷺ نفى عنه الإيمان) لذلك ذكر البخاري رحمه الله حديث سعد في هذا الباب، يعني كأن البخاري يقول لك هنا استعملَ النبي ﷺ لفظ الإسلام على غير الحقيقة -المعنى الحقيقي-

قال: (وأن الرسول ﷺ نفى عنه الإيمان، وأثبت له الاستسلام دون الإسلام الحقيقي، وهو أيضًا قول محمد بن نصر المروزي، وهذا في غاية البعد، وآخر الحديث يرد على ذلك، وهو قول النبي ﷺ: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه» فإن هذا يدل على أن النبي ﷺ وكَلَه إلى إيمانه، كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم، ويمنع المهاجرين والأنصار)

وقال: (والظاهر والله أعلم أن النبي ﷺ زجر سعدًا عن الشهادة بالإيمان؛ لأن الإيمان باطن في القلب؛ لا اطلاع للعبد عليه، فالشهادة به شهادة على ظن، فلا ينبغي الجزم بذلك، كما قال: «إن كنت مادحًا لا محالة، فقل: أحسِب فلانًا كذا، ولا أزكي على الله أحدًا) هذا حديث ورد في الصحيح، لفظه: «أحسب فلانًا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك»

قال: (وأمَره أن يشهد بالإسلام؛ لأنه مطلع عليه، كما في المسند عن أنس مرفوعًا: (الإسلام علانيةٌ، والإيمان في القلب) انتهى المراد من كلام ابن رجب رحمه الله.

قال الشراح في فوائد هذا الحديث: (فيه دلالة لمذهب أهل الحق في قولهم إن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب، خلافًا للكرامية وغلاة المرجئة في قولهم يكفي الإقرار، وهذا خطأ ظاهر يرده إجماع المسلمين، والنصوص في إ كفار المنافقين، وهذه صفتهم)

إذًا يريد من ذلك أن نستفيد من هذا الحديث أن مجرد النطق لا يكفي، لا بد من الإيمان القلبي معه أيضًا، ولا بد من أعمال الجوارح كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة.

قال: (وفيه الشفاعة إلى ولاة الأمور فيما ليس بمحرم) هذا سعد قد شفع لهذا الرجل أن يعطيه النبي ﷺ وهو ولي الأمر، لكن لما كانت الشفاعة في أمر غير محرم جازت.

(وفيه مراجعة المسؤول في الأمر الواحد، وفيه تنبيه المفضول الفاضل على ما يراه مصلحة، وفيه أن الفاضل لا يقبل ما يُشار عليه به مطلقًا؛ بل يتأمله، فإن لم تظهر له مصلحة فيه، لم يعمل به) لأن هي مشورة، وليست أمرًا لازمًا، يشير عليك بالأمر، ثم أنت تنظر فيه، هل هو صحيح أم لا؟ المشورة مهمة جدًا، أحيانًا أشياء كثيرة تكون خافية على الشخص لا ينتبه لها حتى يُشار عليه بها، ينتبه لهذا الأمر، لكن أحيانًا المشورة تكون خاطئة فلا يأخذ بها.

قال: (وفيه الأمر بالتثبت، وترك القطع بما لا يُعلم القطع فيه) أي: لا تقطع وتجزم في شيء لا يمكنك الجزم فيه؛ لأنه لا يظهر لك ما يدفعك إلى الجزم فيه.

(وفيه أن الإمام يصرف المال في مصالح المسلمين الأهم منها، فالأهم، وفيه أنه لا يُقطع لأحد بالجنة على التعيين؛ إلا من ثبت فيه نص كالعشرة المبشرة وأشباههم، وهذا مجمع عليه عند أهل السنة، وفيه جواز الحلف على الأمر المضمون تأكيدًا للكلام، وأنه لا كفارة فيه، لأنه من لغو اليمين عند المالكية، والله سبحانه وتعالى أعلم) سيأتي هذا المبحث إن شاء الله في موضعه.

قال: "ورواه يونس" يونس هو ابن يزيد الأيلي تقدم أنه ثقة له مناكير، مِن أثبت الناس في الزهري.

قال الحافظ: (وحديثه موصول في كتاب الإيمان) يونس بن يزيد الأيلي يروي هذا الحديث عن الزهري، أين تجده؟ قال: (في "كتاب الإيمان" لعبد الرحمن بن عمر الزهري الملقب رُسْتَه، ولفظه قريب من سياق الكُشْمِهَني، وليس فيه إعادة السؤال ثانيًا، ولا الجواب عنه) انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال: "وصالح" ورواه يونس، وصالح: هو ابن كيسان، ثقة حافظ فقيه، وحديثه موصول عند المؤلف في كتاب الزكاة، وأخرجه مسلم من طريقه أيضًا.

وقال ابن حجر: (وفيه من اللطائف رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض، وهم صالح والزهري وعامر) يعني: عامر بن سعد بن أبي وقاص.

قال: "ومعمر" ورواه أيضًا معمر، وهو ابن راشد، ثقةٌ ثبتٌ فاضل تقدم.

روايته هذه أخرجها من طريقه: أحمد، وأبو داود، والنسائي، وأخرجه غيرهم أيضًا، وأخرجه مسلم من طريق ابن عيينة عن الزهري، تنبهوا هنا!

رواية مسلم؛ مسلم روى الحديث من طريق ابن عيينة، عن الزهري.

وخارج مسلم، روى الحديث جمعٌ من الأئمة عن سفيان بن عيينة، عن معمر، عن الزهري.

في صحيح مسلم سفيان بن عيينة عن الزهري.

خارج صحيح مسلم رواه جمع عن سفيان عن معمر عن الزهري، إذًا بين سفيان وبين الزهري معمر، أم أن سفيان ابن عيينة روى هذا الحديث عن الزهري مباشرة؟!

قال البيهقي -بعد أن أخرجه عن سفيان، عن معمر، عن الزهري-: (ورواه مسلم بن الحجاج، عن ابن أبي عُمر، عن سفيان، عن الزهري دون ذكر معمر فيه، والأول أصح) انتهى

يعني رواية مسلم أيش؟ شاذة، رواية مسلم خطأ، هذا معنى قوله: (والأول أصح).

قال ابن حجر: (وحديثه) -يعني معمرًا- (عند أحمد بن حنبل، والحميدي وغيرهما عن عبد الرزاق، عنه، وقال فيه إنه أعاد السؤال ثلاثًا، ورواه مسلم عن محمد بن يحيى بن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري ووقع في إسناده وهمٌ منه، أو من شيخه؛ لأن معظم الروايات في الجوامع والمسانيد عن ابن عيينة، عن معمر، عن الزهري بزيادة معمر بينهما، وكذا حدث به ابن أبي عمر شيخ مسلم في مسنده عن ابن عيينة، وكذا أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريقه، وزعم أبو مسعود في الأطراف أن الوهم من ابن أبي عمر) الآن الوهم وهم لا إشكال، لكن ممن؟ هل هو من مسلم أم من شيخه ابن أبي عمر؟ قال: (وهو محتَمل، لأن يكون الوهم صدر منه، لما حدث به مسلمًا، لكن لم يتعين الوهم من جهته) لأنه روي عنه أيضًا على الصواب، روي عنه، عن ابن أبي عمر، وفيه معمر.

قال: (وحمله الشيخ محيي الدين) يعني النووي (على أن ابن عيينة حدّث به مرة بإسقاط معمر، ومرة بإثباته، وفيه بعدٌ؛ لأن الروايات قد تضافرت عن ابن عيينة بإثبات معمر، ولم يوجد بإسقاطه إلا عنده مسلم) إذًا الخطأ واضح بيّن، فلا يصح هذا الجمع، قال: (والموجود في مسند شيخه بلا إسقاط كما قدمناه) إذًا نفس مسند شيخه ابن أبي عمر موجود فيهم معمر (وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتابي تغليق التعليق) انتهى.

طبعًا النووي رحمه الله كثيرًا ما يفعل هذا، يدافع عن روايات مسلم بهذه الطريقة، ويجمع بطريقة أحيانًا فيها تكلف واضح، وسيأتي هذا بيان إن شاء الله في موضعه من شرح صحيح مسلم رحمه الله.

على كل حال، الرواية التي عند مسلم خطأ، الصواب ذكر معمر في رواية سفيان بن عيينة.

"وابن أخي الزهري" أيضًا روى هذا الحديث عن الزهري: ابن أخيه، هو محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، أبو عبد الله المدني، فيه خلاف، في توثيقه خلاف.

اختلف فيه قول أحمد ويحيى بن معين أنفسهم، نفس أحمد مرة وثّق مرة لا، يحيى بن معين مرة وثّق مرة لا، ووثقه البعض، وضعفه جمعٌ من الحفاظ كعلي بن المديني. وأبي حاتم الرازي، والنسائي، والدارقطني، وابن حبان وغيرهم...، والجرح فيه مفسر وقادح، فهو ضعيف.

من أتباع التابعين، مات سنة 152، وقيل بعدها، روى له الجماعة، وله متابعة، قد تابعه جمع، رووه عن الزهري.

حديث ابن أبي أخ الزهري، عن الزهري، أخرجه مسلم، وساق فيه السؤال والجواب ثلاث مرات، وقال في آخره خشية أن يُكَبَّ على البناء للمفعول، قال ابن حجر: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ رِوَايَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ عَلَى الْوِلَاءِ هُوَ وَعَمُّهُ وَعَامِرٌ وَأَبُوهُ)

قوله: "وَرَوَاهُ يُونُسُ، وَصَالِحٌ، وَمَعْمَرٌ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ" هذا قول البخاري رحمه الله.

يعني هؤلاء الأربعة المذكورين رووا هذا الحديث عن الزهري بإسناده، كما رواه شعيب عنه.

وأخرجه جمع أيضًا من طريق ابن أبي ذئب عن الزهري.

قال ابن منده: ‌"حَدِيثٌ ‌مُجْمَعٌ ‌عَلَى ‌صِحَّتِهِ ‌مِنْ ‌حَدِيثِ ‌مَعْمَرٍ ‌وَصَالِحٍ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، مِنْهُمْ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَكُلُّهَا مَقْبُولَةٌ عَلَى رَسْمِ الْجَمَاعَةِ"

وقال البزار: ‌وَهَذَا ‌الْكَلَامُ ‌رُوِيَ ‌عَنْ ‌سَعْدٍ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ، وَعَنْ غَيْرِهِمَا، وَحَدِيثُ سَعْدٍ إِسْنَاده صَحِيحٌ فَاقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ.

وقال: "وَهَذَا ‌الْحَدِيثُ ‌لَا ‌نَعْلَمُهُ ‌يُرْوَى ‌إِلَّا ‌عَنْ ‌سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ : وَلَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ سَعْدٍ، إِلَّا عَامِرٌ، وَلَا رَوَاهُ عَنْ عَامِرٍ إِلَّا الزُّهْرِيُّ وَرَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَعْمَرٌ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ" انتهى كلام البزار.

هذا الحديث، رُوي بإسناد آخر؛ جاء في العلل لابن أبي حاتم، قال: "وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ ‌رَوَاهُ ‌العَبَّاس ‌بْنُ ‌الْوَلِيدِ ‌بْنِ ‌صُبْحٍ ‌الدِّمَشْقيُّ، عَنْ مَرْوانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابنِ وَهْبٍ ورِشْدِين بنِ سَعْد، عَنْ يونسَ، عَنِ الزُّهريِّ، عن إبراهيمَ بنِ عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ: أنَّ رسولَ الله قَالَ: «إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَكِلُهُ إِلَى إِيمَانِهِ»؟ قَالَ أَبِي: (كنا نستغربُ هَذَا الْحَدِيث ولم نكن عَرفْنا عِلَّتَه، وعلمنا أَنَّهُ خطأٌ)"

قفوا مع هذه الكلمات وتأملوا، (كنا نستغربُ هَذَا الْحَدِيث ولم نكن عَرفْنا عِلَّتَه، وعلمنا أَنَّهُ خطأٌ) عرفوا أنه خطأ بدون ما يعرفوا أيش هي العلة، كيف؟

هذا كالذي ذكره علماء المصطلح، عندما تأتي لصاحب محل ذهب وتأتي له بقطعة، تقول له هذه ذهب أم لا؟ مزورة أم لا؟ يمسك القطعة هكذا ويقلبها بيديه، ثم يقول لك مزورة أم ليست مزورة، لو مسكتها ساعة تقلب فيها فلن تفهم شيئًا، لكن هو في لحظات قلبها هكذا، قال لك مزورة أم لا.

هذه نفس القضية، بالنسبة للجاهل في هذا العلم يقول: هؤلاء من أين يتكلمون؟

لكن هؤلاء حفاظ أئمة، مجرد ما يطلع على الحديث يقول لك: هذا غلط، هذا الحديث غير صحيح، كيف عرفت؟ ليس شغلك، هذا شغلهم، لما تتمكن مثلهم تعرف كيف عرف، فلذلك يقول أهل العلم: اعرف قدر نفسك أمام هؤلاء الأئمة، لما يقول لك هذا الحديث معلول؛ خلاص معلول انتهينا؛ إلا:

- إذا ذكروا لك العلة وكانت هذه العلة غير موجودة عندئذٍ كلام ثاني.

- أو اختلفوا.

عندئذ ممكن يكون لك كلام عند خلافهم.

لكن غير ذلك إذا قالوا لك الحديث معلول ما لك إلا أن تسكت بس، ما تناطحهم.

أنت لا تعدو أن تكون باحثًا، لا أكثر، هم عندما يتكلمون في هذا الفن يحفظون حديث الشيخ، وحديث تلميذه، وحديث شيخه، ويعرفون ما الذي يمكن أن يحدّث به فلان، وما الذي لا يمكن أن يحدث به، فيميزون بما رزقهم الله من حافظة، نحن لا يمكننا أن نفعل هذا؛ فلذلك نحن نُسلّم لهم في ذلك.

فالذي لا يتبع هذه الطريقة سيخالفهم كثيرًا، وسيقع في زلات كبيرة في تصحيح الأحاديث، وسيتوسع في التصحيح لأنه لم يقف على العلل التي وقفوا عليها هم.

ولا يُقال هنا: "كم ترك الأول للآخر؟!" هو في الحقيقة لم يترك له شيئًا، قد بيّن، ووضّح، وما تركوا شيئًا نحتاج إليه إلا وتكلموا فيه، فإذا تكلموا في الحديث فقد انتهى الأمر.

إذا لم يكن لهم كلام في الحديث فهذا أمر آخر، أما الحديث إذا تكلموا فيه فلم يتركوا لك في شيئًا، فاعرف قدر نفسك، وخذ بكلام هؤلاء الأئمة، وضعه في موضعه ولا تتجاوز، حتى لا تكثر من الأخطاء في تصحيح الأحاديث، وتتوسع كما توسع كثير ممن أهمل كلام هؤلاء الأئمة، ووقع فيه أخطاء كثيرة في تصحيح الأحاديث؛ بسبب إهماله لكلامهم.

قال: -انظر إلى التتمة الآن- (كنا نستغرب هذا الحديث، ولم نكن نعرف علته، وعلمنا أنه خطأ) أبو حاتم ما يتكلم عن نفسه فقط، يتكلم عن علماء العلل، (وكان يُسأل العباس عنه، ثم وقفنا بعدُ على علته وعلمنا أنه خطأ) وقفوا على العلة وعرفوا أنه خطأ فعلًا كما هم علموا سابقًا.

قلنا: ما علته؟ قال: "روى الخلق: شعيب بن أبي حمزة، وغير واحد عن الزهري عن عامر بن سعد، عن أبيه، عن النبي ﷺ، وهو الصحيح" هذه هي الرواية الصحيحة وليست تلك، تلك وهم، تلك من رواية يوسف بن يزيد عن الزهري ويونس نفسه ورد عنه الرواية الثانية الصحيحة عن الزهري رحمه الله، وتابعه عليها جمع، فتبيّنا من ذلك أن هذا الحديث بهذه الطريقة وهم، خطأ، إذًا الخلاصة أن الصواب: ما فعله البخاري رحمه الله، إذًا هذه الطريق هي الصواب في الحديث.

قال المؤلف رحمه الله: " ‌بَابٌ: إِفْشَاءُ السَّلَامِ مِنَ الْإِسْلَامِ

وَقَالَ عَمَّارٌ ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ: الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ، وَالْإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ.

28 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ : أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»"

"إفشاء السلام من الإسلام" المراد بإفشاء السلام نشره، يقال: أفشيت الخبر إذا نشرته وأذعته.

قال الشراح: إفشاء السلام هو إشاعته وبذله والإعلان به لكل مسلم، وقد قال ﷺ في الصحيح: «وتَقرَأُ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» هكذا تكون إشاعته، إفشائه.

قالوا: وتعلقت بذلك مصلحة المودة المطلوبة للشرع، المودة بين المسلمين في إشارته ﷺ في الصحيح في قوله: «أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» فإفشاء السلام سبب للتحاب، قالوا: والإفشاء يكون في الابتداء بالسلام وردّه، فالابتداء به سنة بالإجماع، والرد فرض بالإجماع، فإن كان المسلّم عليه واحدًا تعيّن عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان فرض كفاية في حقهم، إذا رد أحدهم سقط الحرج عن الباقين، انتهى.

وقال آخر: (والمراد بــ "إفشاء السلام" إظهاره وإشاعته، والسلام أول أسباب التآلف، ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه إظهار شعار الإسلام المميِّز لهم من غيرهم من الملل، مع ما فيه من رياضة النفس، ولزوم التواضع وإعظام حرمة المسلمين، وفيه رفع التقاطع والتهاجر) انتهى.

طيب ما معنى السلام عليكم؟ -إفشاء السلام: السلام عليكم- قالوا فيه:

1- قيل: معناه هنا اسم الله، أي كلاءة الله عليك وحفظه، كما يقال: الله معك، أو الله يصاحبك، والسلام اسم من أسماء الله ﴿‌السَّلَامُ ‌الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾ [الحشر: 23] هذا قول، قالوا: إذًا السلام عليكم: السلام هو الله، أي أنت في حفظ الله.

2- وقيل معناه: "السلام": يعني السلامة والنجاة) يعني أقول السلام عليك، يعني السلامة لك، والنجاة كما قال: ﴿فسلام لك من أصحاب اليمين﴾ هذا الثاني.

3- المعنى الثالث: (وقيل: معناه: أنا مسالم لك، وسِلْم لك غير حرب، والسِلْم والسلام: الصلح) انتهى.

قال ابن عثيمين -وهو اختياره رحمه الله من هذه الأقوال الثلاثة وهو الصواب إن شاء الله- قال: ("السلام عليكم" معناه: الدعاء بالسلامة؛ أن يسلمك الله من السوء في دينك ودنياك، في نفسك وأهلك، في بيتك ومالك، سلامةً في كل شيء) وقال: (فمعنى "السلام عليك" أي أسأل الله لك السلامة، من كل آفة في دينك ودنياك، وفي أهلك ومالك ومجتمعك وفي كل شيء) انتهى المراد.

وقول البخاري: "من الإسلام" أي من الإيمان، فالإسلام والإيمان عند البخاري واحد.

"وقال عمار" هو الصحابي الجليل: عمار بن ياسر بن مالك بن كنانة بن قيس ين حُصين العنسي أبو اليقظان، حليفٌ لبني مخزوم، حليفهم يعني ليس منهم، لكن حالفهم، هو عنسي، العنسيون من اليمن، أمه سمية بنت خياط، أسلمت هي وأبوه ياسر مع عمار قديمًا، وقَتل أبو جهل سمية، وكانت أول شهيدة في الإسلام، قال: ابن عبد البر: "كان عمار وأمه سمية ممن عُذّب في الله، ثم أعطاهم عمار ما أرادوا بلسانه، واطمأن بالإيمان قلبه، فنزلت فيه: ﴿إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ وهذا مما اجتمع أهل التفسير عليه"

اختلف في هجرته إلى الحبشة، هل هاجر إلى الحبشة أم لا؟

قال ابن عبد البر: "وصلى القبلتين، وهو من المهاجرين الأولين، ثم شهد بدرًا، والمشاهد كلها، وأبلى ببدر بلاءً حسنًا، ثم شهد اليمامة فأبلى فيها أيضًا، ويومئذ قُطعت أذنُه".

قُتل عمار يوم صفّين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال ابن عبد البر: "وتواترت الآثار عن النبي ﷺ أنه قال: «تقتل عمارًا الفئةُ الباغية» وهذا من إخباره بالغيب، وإعلام نبوته ﷺ وهو من أصح الأحاديث وكانت صفّين في ربيع الأخر سنة 37، ودفنه علي رضي الله عنه" هذه قصة صفين وعلي بن أبي طالب وعمار كان معه كله سيأتي إن شاء الله في الأخبار القادمة.

وقال ابن حجر: (وتواترت الأحاديث عن النبي ﷺ أن عمارًا تقتله الفئة الباغية، وأجمعوا على أنه قُتل مع علي بصفين سنة 87) كذا في المطبوع، وهو تصحيف، والصواب 37، (في ربيع وله 93 سنة، واتفقوا على أنه نزل فيه ﴿إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾)

روى عن النبي ﷺ عدة أحاديث، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، قال حارثة بن مُضَرِّب: (قُرئ علينا كتاب عمر: "أما بعد، فإني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا، وعبد الله بن مسعود مؤدبًا ووزيرًا، وهما من النُجباء من أصحاب محمد ﷺ، وآثرتكم بابن أم عبد على نفسي") انتهى.

هذه تزكية عمر لعمار بن ياسر رضي الله عنهما.

قال: "ثلاث" يعني: ثلاث خصال "من جمعهن فقد جمع الإيمان" أي: حاز كماله "أحدها: الإنصاف من نفسك" وهو العدل من نفسك، تنصف نفسك: يعني تعدل فيها، بأن لا تترك لربك ومعبودك حقًا واجبًا عليك إلا أديته، ولا شيئًا مما نُهيت عنه إلا اجتنبته، هذا قول عام للإيمان.

والخصلة الثانية: "وبذل السلام" الجود بالسلام، فيكون منه كثيرًا، "للعالَم" بفتح اللام، أي لكل مؤمن عرفته أو لم تعرفه، وخرج الكافر من هذا العموم بقول النبي ﷺ: (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام).

ولهذه الخصلة ذكر البخاري رحمه الله هذا الأثر هنا، وهي قوله: "وبذل السلام للعالم" وجعله ماذا؟ من الإيمان؛ لأنه قال: "ثلاث خصال من جمعهن فقد جمع الإيمان" فدخل فيه السلام.

الخصلة الثالثة: "والإنفاق من الإقتار" أي: الإنفاق في حالة الفقر، وفيه غاية الكرم؛ لأنه إذا أنفق وهو محتاج، كان مع التوسع أكثر إنفاقًا، والإنفاق شامل للنفقة على العيال، وعلى الضيف والزائر، وكل وجوه البر...

قال الشراح: (إنما كان من جمع الثلاث مستكملًا للإيمان؛ لأن مداره عليها) مدار الإيمان على هذه الخصال الثلاثة (لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقًا واجبًا عليه إلا أداه، ولم يترك شيئًا مما نهاه عنه إلا اجتنبه، وهذا يجمع أركان الإيمان، وبذل السلام يتضمن مكارم الأخلاق، والتواضع، وعدم الاحتقار، ويحصل به التآلف والتحاب، والإنفاق من الإقتار يتضمن غاية الكرم؛ لأنه إذا أنفق مع الاحتياج كان مع التوسع أكثر إنفاقًا، والنفقة أعم من أن تكون على العيال واجبة ومندوبة، أو على الضيف والزائر، وكونه: "من الإقتار" يستلزم الوثوق بالله) الإنسان لما ينفق وهو محتاج هذا عنده من اليقين الشيء العظيم قال: (وكونه من الإقتار يستلزم الوثوق بالله، والزهد في الدنيا، وقِصر الأمل، وغير ذلك من مهمات الآخرة...، وهذا التقرير يقوّي أن يكون الحديث مرفوعًا؛ لأنه يشبه أن يكون كلام من أوتي جوامع الكلم، والله أعلم) انتهى كلام الشارح.

في كونه في حكم المرفوع نظر، قال ابن رجب: (هذا الأثر معروف من رواية أبي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، عن عمار، رواه عنه الثوري، وشُعبة، وإسرائيل، وغيره...، وروي عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق مرفوعًا) يعني من كلام النبي ﷺ (خرّجه البزار وغيره، ورفْعهُ وهم، قاله أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وتردد أبو حاتم هل الخطأ منسوب فيه إلى عبد الرزاق أو معمر؟) هم جزموا أنه خطأ، لكن من الذي أخطأ فيه؟ هل هو عبد الرزاق ولا معمر؟ قال ابن رجب: (ومعمر ليس بالحافظ لحديث العراقيين، كما ذكر ابن معين وغيره) يعني كأن ابن رجب يُحمّل معمرًا (وقد روي مرفوعًا من وجهين آخرين، ولا يثبت واحد منهما) انتهى المراد.

وفي العلل لابن أبي حاتم زيادةُ فائدةٍ راجعوها.

الخبر جاء في جامع معمر، وفي مصنف عبد الرزاق جاء موقوفًا، الكلام الآن السابق على أنه جاء مرفوعًا، أقصد عن معمر؛ لكن هنا في جامع معمر وفي مصنف عبد الرزاق جاء موقوفًا كما هو على الصواب؛ لكن أخرجه البزار قال: حدثنا الحسن بن عبد الله الكوفي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن عمار قال: قال رسول الله ﷺ فذكره مرفوعًا من طريق عبد الرزاق، قال البزار: (وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن أبي إسحاق، عن صلة، عن عمار موقوفًا، وأسنده هذا الشيخ) من هو؟ حسن بن عبد الله الكوفي، رواه عن عبد الرزاق مرفوعًا، هذا الذي أسنده، قال: (وأسنده هذا الشيخ عن عبد الرزاق) هل هو الذي يتحمل هذه العهدة؟ الأئمة الحفّاظ حملوها لعبد الرزاق أو لمعمر، طيب.

قال ابن حجر في مختصر مسند البزار: (قلت: وكذا رواه أحمد بن منصور الرمَادي، وغير واحد عن عبد الرزاق، وتفرد ابن الكوفي برفعه، وهو ضعيف) انتهى.

تفرد ابن الكوفي برفعه، إذًا من الذي يتحمله؟ يتحمله ابن الكوفي، وأخرجه غير البزار وسمى الشيخ: "الحسين بن عبد الله الكوفي" وليس "الحسن".

وهنا ضعفه الحافظ ابن حجر، لكن ابن أبي حاتم قال فيه: (كان صدوقًا) ولم نجد لغير ابن أبي حاتم كلامًا فيه في تضعيفه، ما أدري الحافظ ابن حجر من أين أتى بهذا الكلام؛ لكن كلام ابن أبي حاتم أوثق عندنا في هذا، إذًا هو صدوق، وهو متابَع أيضًا متابَع على رفعه، كما قال الحافظ في "التغليق" إذًا العهدة لا يتحملها هو.

كما قال الحفاظ: إما عبد الرزاق أو معمر.

الظاهر أنه معمر كما ذهب إليه ابن رجب والله أعلم.

الخلاصة: الخبر صحيح من قول عمار، وليس من قول النبي ﷺ، كما رواه جمع من الحفاظ والثقات عن أبي إسحاق، والظاهر أنه ما له حكم الرفع كما قال بعض الشراح، فربما يُقال هذا الكلام استنباطًا من الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة الكثيرة الواردة في هذا التي تدل على هذا المعنى.

قال: "حدثنا قتيبة" قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف الثقَفي مولاهم، أبو رجاء البغْلاني، نسبة إلى بغلان، قرية من قرى بلْخ، قيل اسمه: يحيى، وقيل علي، وقالوا: قتيبة لقب، ثقة، مأمون، متقن، كان ينصر السنة، يروي عن أتباع التابعين، توفي سنة 240 عن 90 سنة، روى له الجماعة.

قال فيه قِوَام السنة: (كان أحد الأئمة في الحديث، كان ينصر السنة).

قِوام السنة: هو أبو القاسم إسماعيل الأصبهاني صاحب كتاب الحجة في بيان المـَحَجّة توفي 535، وقد عدّه تلميذه أبو موسى المديني مجدد القرن الخامس رحمه الله، كان إمامًا في السنة، كتابه الحجة في بيان المحجة تبين عقيدة الرجل وسنيته، وكان معروفًا بالسنة، وبالقيام بها، لذلك لقب بـ "قوام السنة" عماد السنة، والذي قام بالسنة، والذي كان حريصًا على نصر السنة؛ لُقِّب بهذا لأجل هذه المعاني منه رحمه الله، له عدة كتب، منها: كتاب "الترغيب والترهيب" وكتابه هذا "الحجة في بيان المحجة" وله كتاب في سير السلف الصالح.

هذه الكلمة أُخذت من ذاك الكتاب.

صاحب السنة تجد نفَسَه في السنة واضحًا، تجد تمسكه بالسنة، وتفريقه بين الناس بالسنة والبدعة واضح، يركز عليه، يبين لك السني من البدعي، كي تحذر من هذا، وكي تأخذ عن هذا، هذا موجود في كلامه، والعجيب لما أبو موسى المديني ذكر أنه مجدد الدين في القرن الخامس؛ اعترض عليه البعض بالغزالي! وهذا من عجائب ما تسمع! المشكلة أن البعض: هذا محسوب على أهل السنة، كيف يعترض بهذا الاعتراض؟! بعض الكلام لأهل العلم تتعجب منه، وتبقى تتعجب!

قال: "حدثنا الليث" الليث بن سعد بن يزيد بن أبي حبيب، "عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو، أن رجلًا سأل النبي ﷺ" إلى آخر الحديث...، وهذا كله قد تقدم الكلام في الإسناد، وفي المتن، في الحديث الثاني عشر تجدونه هناك.

الحديث أخرجه البخاري هناك عن عمرو بن خالد، عن الليث به، فقتيبة تابع عمرًا عليه متابعة تامة.

قال ابن رجب: (وقول عمار فيه زيادة على هذا الحديث، بذكر الإنصاف من النفس، وهو من أعز الخصال، ومعناه: أن يعرف الإنسان الحق على نفسه ويوفيه من غير طلب، وفيه أيضًا: زيادة الإنفاق من الإقتار، ويشهد لفضله قوله تعالى: ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾ وقوله: ﴿الذين ينفقون في السراء والضراء﴾) انتهى باختصار.

قال ابن حجر: (وبيان كونه) أي: إفشاء السلام (من الإسلام تقدم) في باب: "إطعام الطعام" مع بقية فوائده، (وغاير المصنف بين شيخيه الذَين حدثاه عن الليث، مراعاةً للإتيان بالفائدة الإسنادية) هناك رواه عن عمرو، وهنا رواه عن قتيبة، من أجل ألا يخلو الأمر من فائدة، ما يأتي تكرار هكذا وخلاص، (وهي تكثير الطرق حيث يحتاج إلى إعادة المتن) يعني هذه طريقة البخاري، إذا أراد أن يعيد المتن في موطن آخر لا بد أن يضع لك فائدة إسنادية معه أيضًا، قال: (فإنه لا يُعيد الحديث الواحد في موضعين على صورة واحدة) طريقته لا بد يحضر لك فائدة جديدة، (فإن قيل: كان يمكنه أن يجمع الحُكمين في ترجمة واحدة ويُخرّج الحديث عن شيخيه معًا) فيقول مثلًا: حدثنا عمرو وقتيبة عن الليث، ويخرّجه، فذكر جوابًا لأحد الشراح، ثم رد على هذا الجواب، وقال: (الظاهر من صنيع البخاري أنه يقصد تعديد شعب الإيمان كما قدمناه) طبعًا هو يذكر لك شُعب الإيمان شعبة شعبة، ومنها هنا ذكر لك شعبة من شعب الإيمان، وهي: "إفشاء السلام" قال: (فخصَّ كل شعبةٍ بباب، تنويهًا بذكرها، وقصْد التنويه يحتاج إلى التأكيد، فلذلك غاير بين الترجمتين) انتهى باختصار، وهذا جواب حسن.

والله أعلم، نكتفي بهذا القدر، والحمد لله.

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الاربعاء 1 صفر 1445
عدد المشاهدات 393
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق