الدرس الثاني عشر: بتاريخ: 18/01/1445ه – 05/08/2023
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد:
اليوم هو درسنا الثاني عشر من دروس شرح صحيح البخاري.
يسأل -وهذا سؤال جاءني من أكثر من طالب في عدة مرات متكررة-: "متى سننتهي من شرح صحيح البخاري"؟
1- أولًا: ينبغي على طالب العلم أن يكون اهتمامه بالفائدة؛ لا بالمدة متى سيبدأ ومتى سينتهي، الفائدة هي المهمة في هذا الأمر، وبما أنك قد تأصلت علميًا ووصلت إلى هذه المرحلة بعد تأصيل؛ إذًا لا يهمك الوقت بعد ذلك الذي ستقضيه في دراسة هذا الكتاب؛ لأنك الآن تجمع فوائد عامة من خلال دراستك لهذا الكتاب، والتأصيل الأساسي الذي ينبغي أن تبدأ به قد انتهيت منه والحمد لله؛ فأيش ما تحصل عندك من هذا الكتاب فخير على خير والحمد لله.
هذا الأمر الأول؛ فمتى تهتم بإنهاء الكتاب؟ إذا كان أمامك مشوار في التأصيل تحتاج أن تنتهي من هذا كي تبدأ بالذي بعده؛ وهكذا...
لكن هذا الحمد لله ما وصلنا إليه وما بدأنا به إلا بعد أن أنهينا مرحلة التأصيل العلمي؛ الآن بإمكانك أن تمشي في هذه الدروس وتمشي أيضًا تقرأ من الكتب وتستفيد من هنا وهناك براحتك الأمر إليك؛ هذا الأمر الأول.
2- الأمر الثاني: نحن لن نستمر على نفس هذه الطريقة في تدريس هذا الكتاب، الآن في البداية نطيل بهذه الطريقة لأسباب:
أ- أولًا: نحن الآن في كتاب الاعتقاد (العقيدة)، والعقيدة ينبغي التوضيح والشرح والتوسع حتى تكون واضحة وصريحة، خاصة إذا تعلقت ببدعة انتشرت في الزمان الذي نحن فيه؛ البدع طبعًا كثيرة ومنتشرة كثيرة جدًا؛ لكن نخص من ذلك البدع التي صار ينتسب إليها من يدعي السلفية، هذه أخطر؛ لماذا أخطر؟
لأن هذا يروج للناس ويوهمهم بأن ما هو عليه من بدعة هي طريقة سلفية، وهي منهج السلف؛ فلذلك نعتني بهذا الجانب أكثر من غيره.
التصق بمنهج السلف في هذا الزمن من يقول أنا سلفي من الخوارج، ومن المرجئة، جمع كبير وفرق، الآن صارت فرق تقول عن نفسها بأنهم سلفيون وهم في الحقيقة خوارج، يقولون عن أنفسهم بأنهم سلفيون وهم في الحقيقة مرجئة؛ فهذا الكتاب كتاب مهم جدًا -كتاب الإيمان- لا بد من التوسع فيه، وإعطاء المسائل حقها العلمي، حتى تكون واضحة ولا لبس فيها.
ب- الأمر الثاني: نحن من أسباب الإطالة عندنا: هو الوقوف عند التراجم، التراجم هذه طويلة، تأخذ وقتًا، فعندما ننتهي من هذا الكتاب، ستكون التراجم الأساسية: التي هي تراجم الأئمة الذين تدور عليهم أكثر الأحاديث قد مرت بنا وانتهت، بعد ذلك سنمر على هذه التراجم: تقدم، تقدم، تقدم... ونمشي، فلن تحتاج الوقت الذي كانت تأخذه في السابق.
ت- الأمر الثالث: أننا نحن نذكر تخريج الحديث في النهاية، وأحيانًا بعض طرق الحديث وأحيانًا إذا ذكر بعض العلماء تعليل بعض الطرق وكذا... هذه نذكرها لكي نعرّف بقدر الإمام البخاري رحمه الله، وعلم الإمام البخاري، ورسوخه في هذا العلم، وقوته في العلل، والمنزلة العظيمة التي لهذا الإمام ولكتابه عند أئمة العلم.
لماذا وصل هذه المنزلة عند العلماء ويثنون عليه هذا الثناء؟
هذا التطبيق العملي يبين لك السبب؛ مما يجعلك تطمئن لهذا الكتاب، وترتاح له جدًا، عندما يقال لك بعد ذلك: الحديث أخرجه البخاري في صحيحه؛ تكون مطمئنًا تمامًا، وتعرف ما معنى هذه الكلمة ومن أين جاء هذا، وما الجهد الذي بُذل، والعلم الذي وُضع حتى وصل الكتاب إلى هذه المنزلة عند أهل العلم.
هذه الطريقة لن نستمر بها دائمًا، إذا انتهينا من كتاب الإيمان نكون قد حققنا الغرض الذي نريده من هذا الأمر؛ بعد ذلك سنقف عند التراجم التي لا بد من الوقوف عندها (نتوسع فيها)؛ نقف عند الأحاديث التي انتقدت انتقادا معتبرًا ولا بدّ من الوقوف عنده وشرح ما فيه، عندئذٍ نقف عند هذه الأمور ونطيل قليلًا.
بعد ذلك أيضًا الشروح لا تحتاج إلى إطالة؛ لأن كتب الشروح قد أفاضت القول في الأحاديث وبينت وشرحت، فالخلل في المسائل إذا كانت أحاديث فقهية و ما شابه... الخلل فيها عند الشراح يكون ليس كبيرًا وعظيمًا كالخلل الموجود عندهم في العقيدة وفي المنهج، شراح الكتب عندهم خلل عظيم جدًا وكثير في مسائل العقيدة والمنهج؛ لذلك نركز عليها؛ فإذا الطالب أتقنها وعرفها جيدًا وعرف منهج السلف الصالح رضي الله عنهم بعد ذلك لو قرأ من هذه الشروح يكون قد عرف الأقوال التي وافقت منهج السلف والتي خالفته.
هذه الأسباب الثلاثة تجعلنا بعد أن ننتهي من كتاب الإيمان نمشي بشكل أسرع من هذا الذي نحن عليه وربما يتيح لنا الفرصة أن نعقد مجلسًا ثانيًا في شرح الكتاب هذا في الأسبوع، إذا يسر الله واستطعنا الاستمرار، ويسر الله سبحانه وتعالى أمورنا وأعاننا على ذلك، هذا بعد أن ننتهي من كتاب الإيمان، ونبدأ بكتاب العلم وغيره؛ عندئذٍ نستطيع أن نقرّب المدة الزمنية التي نستطيع أن ننتهي من الكتاب فيها إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله: "بَابُ كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَكُفْرٍ بَعْدَ كُفْرٍ.
فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ. قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ"
"باب كفران العشير" كفران: مصدر كفر، يكفر، كفرًا، وكفرانًا.
فالكفر والكفران بمعنى واحد في اللغة، والكفر لغة: هو الستر والتغطية، والكفر يطلق على معنيين في الشرع:
· الأول: ضد الإيمان، وهو الكفر الأكبر، وهو أقسام.
· والثاني: كفر النعمة، وهو الأصغر؛ ومعناه جحود النعمة، ونكرانُها.
العشير بمعنى: معاشر، وهو الزوج، من المعاشرة بمعنى المخالطة، وسيأتي تبويب البخاري إن شاء الله، قال: "بَابُ كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَهُوَ الزَّوْجُ وَهُوَ الْخَلِيطُ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ" انتهى.
والمعنى المقصود هنا: باب إنكار المرأة، وجحدها إحسان زوجها إليها.
"وكفرٍ دون كفرٍ" في رواية: "وكفرٍ بعد كفرٍ" وفي أخرى: "وكفرٍ دون كفر"
نذكر كلام القسطلاني حتى يبين لنا النسخ التي وردت في البخاري قال: ("وكفر دون كفر" كذا للأربعة، أي: أقرب من كفر، فأخذ أموال الناس بالباطل دون قتل النفس بغير حق، وفي بعض الأصول: "وكفر بعد كفر" ومعناه كالأول وهو الذي في فرع اليونينية كهي) يعني كأصلها: (لكنه ضبب عليه، وأثبت على الهامش الأوّل راقمًا عليه علامة أبي ذر والأصيلي وابن عساكر وأصل السميساطي والجمهور على جر "وكفر" عطفًا على "كفران" المجرور، ولأبوي ذر والوقت "وكفر" بالرفع على القطع) اهـ.
على كلّ: لفظ السلف -وهذا الذي يهمنا- "كفر دون كفر"، قاله جمع من السلف، يعنون:
الكفر منه أكبر مخرج من الملة، ومنه أصغر غير مخرج من الملة، وهذا ما يريده البخاري رحمه الله، نبّه بهذا على أن الكفر في الشرع يطلق على معنيين، فليس كل كفر ورد في الكتاب والسنة يراد به الكفر المخرج من الملة، هذا ما يريده، وبيّن لنا هذا بوضوح.
موضوعنا الآن: -كان البخاري رحمه الله يركز على تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة والرد على المرجئة، في أبواب كثيرة- الآن الموضوع فيه رد على الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب، ويحملون الكفر الذي يرد في النصوص على الكفر المخرج من الملة.
يبين لهم عقيدة أهل السنة والجماعة، ويبين لهم أن الكفر في الشرع يطلق على هذا وهذا.
الكفر في اللغة: هو التغطية والستر، قاله أهل اللغة -ابن فارس وغيره-.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره: "وأصل الكفر عند العرب تغطية الشيء"، وقال ابن البر في التمهيد: "وأصل الكفر في اللغة الستر"، وقال في موضع آخر: "التغطية للشيء" اهـ.
فعلى هذا يكون الكفر لغة: الستر والتغطية.
وفي الشرع يطلق على نوعين:
النوع الأول: الكفر الأكبر، والنوع الثاني: الكفر الأصغر.
تعريف الكفر الأكبر: هو نقيض الإيمان.
المرجئة يقولون: الكفر هو التكذيب، لماذا؟ لأن الإيمان عندهم: هو التصديق، المسألة مرتبط بعضها ببعض: تعريفك للإيمان، يقابله تعريفك للكفر، ما تقوله في الإيمان، تقول في الكفر بالضد، هذا معنى: "الكفر نقيض الإيمان" فإذا قلت: الإيمان هو التصديق، فالكفر عندك: هو التكذيب.
هل يعني هذا أن المرجئة لا يعتبرون السجود للصنم كفر؟ هل يعني هذا أن المرجئة لا يعتبرون سب الله كفر؟ لا، يقولون هو كفر، لأن النصوص وردت بأنه كفر؛ لكنه راجع إلى كفر القلب (إلى التكذيب)، فهو عندهم: علامة على الكفر.
وهذا الفرق بينهم وبين أهل السنة في هذا.
السني يقول: السجود للصنم كفر (هو بذاته كفر)، وليس مجرد علامة على كفر القلب.
نعم لا شك عندنا أنه إذا كفر ظاهرًا كفر باطنًا، وإذا كفر باطنًا كفر ظاهرًا، عندنا تلازم، ما عندنا إشكال في هذا، لكن لا نقول بأنه كفر لكفره القلبي، وأما في الظاهر فليس إلا دليلًا على الكفر، هذا ما تقوله المرجئة، يقولون: هذا دليل على الكفر، لذلك سُمي كفرًا، إذًا المرجئة يكفرون؟! نعم يكفرون؛ بل بعض المرجئة تكفيرهم في كتبهم أكثر من تكفير أهل السنة، المسائل التي يكفر بها بعض المرجئة أكثر بكثير من المسائل التي يكفر بها بعض أهل السنة.
الأحناف -مرجئة فقهاء- ارجعوا إلى كتاب الردة في كتب الأحناف: ستجدهم قد توسعوا في التكفير، حتى كفروا في أشياء ليست مكفرة، وهم مرجئة؛ إذًا ليس لازمًا كونهم أنهم يقولون: الإيمان هذا، والكفر هذا الذي ذكرنا، أنهم لا يكفرون بعد ذلك، لا؛ يكفرون ويتوسعون في التكفير أيضًا،؛ لذلك لا تعجب لما ترى، أو تقرأ لبعض السلف يقول لك: "ما من مبتدع إلا ويرى السيف" مرجئ ويرى السيف؟! نعم، مرجئ ويرى السيف.
إذًا التعريف للكفر أن تقول: الكفر هو نقيض الإيمان، هل يعني هذا أن من قال: "الكفر نقيض الإيمان" هو سني؟، لا، لا يلزم، حتى المرجئ في التعريف، يعرف لك الكفر نقيض الإيمان، ما عنده مشكلة، لكن إيش هو الإيمان عنده؟ والسني يقول لك: الكفر هو نقيض الإيمان، نعم، لكن ما هو الإيمان عندك حتى يكون هذا كفر نقيضًا له؟
ذكرت هذا، لأن بعض من ينتسب إلى السنة ويسمي نفسه سلفيًا؛ عند تعريف الكفر إيش يقول لك؟ "الكفر هو التكذيب"، بينما عندما يعرف الإيمان، يقول لك: "الإيمان: اعتقاد وقول وعمل" إيش هذا يسمى؟! يسمى تناقضًا، يسمى جهلًا، هو جاهل؛ لأن حتى أهل البدع لا يقبلون قوله، لا يقبلون هذا، لكن جاهل وتكلم فيما لا علم له به؛ وأخذ يضلل من خالفه، ويتهمه.
على كلٍ بما أن الإيمان: اعتقاد وقول وعمل عندك، فالكفر: اعتقاد وقول وعمل، نفس العمل كفر، مش دليل على الكفر، هذا الفرق بين السني والمرجئ، كلاهما يقول أن: ساب الله كافر، الساجد للصنم: كافر، من يدوس على المصحف: كافر؛ لكن المرجئ يقول لك: هو كافر؛ لأن فعله هذا دليل على كفر القلب، لأنه عنده الكفر: هو التكذيب.
السني: يقول لك: لا، فعله هذا نفسه كفر، وإن كان ملازمًا لكفر القلب أيضًا، ما في شك في هذا؛ لأن المضغة التي في الجسد إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، بس انتهينا.
أنواع الكفر الأكبر: التكذيب نوع من أنواع الكفر الأكبر عند أهل السنة والجماعة، وليس محصورًا فيه، ربما في أثناء تفسير القرآن، أو تفسير بعض الأحاديث يمر معك أقوال لأهل السنة في شرح الكفر على أنه الجحود والإنكار، ليس معنى ذلك أنه مرجئ، ولكن هو يقول لك: هو هنا في هذا الموضع هو بهذا المعنى، انتبه! منهم ابن جرير الطبري، عالم سني سلفي، تمر بك بعض الآيات عند تفسيره لها يفسر لك عندما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الكافرون﴾ يقول لك: الجاحدون، المنكرون، المكذبون، هل يعني أنه مرجئ؟! لا؛ ولكن يقول لك في هذا الموضع: معناه هذا؛ لأن التكذيب نوع من أنواع الكفر، فيأتي في مواضع بهذا المعنى.
التكذيب: هو اعتقاد كذب الرسل، وهذا النوع: قليل في الكفار؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد بيّن صدق رسله بأدلة كالشمس واضحة، لا تخفى على مريد للحق، لا تخفى على شخص نظر إليها ودرسها بإنصاف، يعرف أنها حق، يمكن تخفى على شخص أعرض عن علمها، أو قصّر في تعلمها، عند هذا تخفى عليه، والسبب هو، على كل هذا يسمى كفر تكذيب، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو كذَّب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين﴾ وهذا ينافي تصديق القلب.
قلنا: الإيمان هو "التصديق القلبي"، ومعه المعرفة، وأعمال القلوب، وقول اللسان، وأعمال الجوارح، هذا النوع من الكفر، ينافي تصديق القلب، فمن ليس مصدقًا فهو مكذب؛ التكذيب نوعان:
تكذيب قلبي، وتكذيب لساني، وكلاهما في الشرع يطلق عليه تكذيبًا.
1- هذا النوع الأول: التكذيب القلبي.
2- والنوع الثاني -وهو النوع الثاني من الكفر-: كفر الجحود والإنكار، ويُطلق عليه: كفر التكذيب أيضًا، ولكنه تكذيب باللسان لا بالقلب؛ لذلك أفردوه بهذا الاسم: "الجحود والإنكار"، حتى يفترق عن الأول، وإن كان هذا أيضًا يسمى: كفر التكذيب، وهو: أن ينكر الحق مع العلم بصدقه.
التصديق القلبي موجود، لكن الإنكار موجود باللسان، دليله قوله تعالى: ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا﴾ ﴿وجحدوا بها﴾ بألسنتهم، ما نطقوا بالشهادتين، ما صدقوا بألسنتهم؛ لكن في أنفسهم مستيقنون بأن ما جاءهم به الرسول حق، وقال ربنا تبارك وتعالى لنبيه ﷺ عن كفار قريش: ﴿فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون﴾ ﴿لا يكذبونك﴾ إذًا هم مصدقون أم لا؟ مصدقون، ولكنهم يجحدون بألسنتهم، يكذبون بألسنتهم.
هذا النوع: هو كفر الجحود والإنكار وكما ذكرنا يسمى أيضًا: كفر التكذيب؛ ولكن حتى نفرّق بينه وبين الأول، ذكرنا هذا. والدليل على أنه يسمى كفر التكذيب ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (١٢)﴾ [ص: 12]
وفرعون قال الله تعالى فيهم: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: 14]
وقال تعالى عن كفار قريش: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)﴾ [فاطر: 4] مع أنه قال: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ التكذيب القلبي والتكذيب اللساني.
وهذا النوع ينافي عمل القلب وقول اللسان.
قول اللسان: نطق الشهادتين وهم لا ينطقون بها ويكفرون بهذا.
وأيضًا الانقياد القلبي لا ينقادون ظلمًا وعلوًا.
3- النوع الثالث: كفر الإباء والاستكبار مع التصديق، وهو الامتناع عن قبول الحق استكبارًا، ككفر إبليس، قال تبارك وتعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٣٤)﴾ [البقرة: 34].
وهذا النوع هو الغالب على أعداء الرسل -هذا النوع من الكفر- وهو ينافي عمل القلب والجوارح.
4- النوع الرابع: كفر الإعراض، قال ابن القيم رحمه الله: "وأمّا كفرُ الإعراض، فأن يُعرِض بسمعه وقلبه عن الرَّسول، لا يصدِّقه ولا يكذِّبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به البتّة" يعني: ليس سائلًا في شي اسمه دين أصلًا، مشغول بدنياه وغير مبالي بالدين، وهذا موجود اليوم بكثرة، لا يهمه حلال ولا حرام ولا شرك ولا توحيد ولا أي شيء، مشغول بدنياه وبس.
قال في طريق الهجرتين: "إن العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادتها والعمل بها وبموجباتها، الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض والثاني كفر عناد"
ودليل هذا النوع قول الله ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)﴾ [السجدة: 22]
وهذا النوع ينافي تصديق القلب إن أعرض عن أصل دعوة النبي ﷺ، وينافي عمل الجوارح إن صدق بقلبه وأعرض عن العمل بالجوارح بالكلية.
5- كفر الشك: -هذا النوع الخامس من أنواع الكفر- وهذا النوع ينافي التصديق القلبي؛ فهذا الشخص شاك، يعني لا يدري هل النبي صادق أم كاذب، شاك في الأمر، ودليله قوله تعالى ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦)﴾ إلى آخر الآية، هذا ينافي تصديق القلب.
6- السادس: كفر النفاق: قال أبو المظفر السمعاني في تفسيره: ("كفر النِّفَاق: أَن يعْتَرف بِاللِّسَانِ وَلَا يعْتَقد بِالْقَلْبِ" وكذا قال البغوي في تفسيره.
قال ابن القيم: (هُوَ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ الْإِيمَانَ، وَيَنْطَوِيَ بِقَلْبِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ) هذا ينافي تصديق القلب وعمله الواجب مع وجود قول اللسان وعمل الجوارح، مثل كفر المنافقين قديمًا وحديثًا وهذا النفاق مذكور في كتاب الله وفي سنة النبي ﷺ كثيرًا ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)﴾ [البقرة: 8] إلى آخر الآيات...
طبعًا ما قلنا بأنه ينافي أحد أركان الإيمان، لا يعني ذلك أنه لا ينافي غيره في بعض الأحيان؛ لكن الذي ذكرته هو الأصل.
الخلاصة: أن الكفر ضد الإيمان، قد يكون تكذيبًا بالقلب وهو مناقض لقول القلب ،وقد يكون الكفر عملًا قلبيًا كبغض الله تعالى أو آياته أو رسوله ﷺ وهذا يناقض عملًا من أعمال القلوب الواجبة، ويكون الكفر قولًا ظاهرًا كسبِّ الله تعالى أو سب رسوله ﷺ أو سب دين الإسلام، وتارة يكون عملًا ظاهرًا كالسجود للصنم، أو الذبح لغير الله، أو النذر لغير الله، أو الدوس على المصحف، فكما أن الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح فكذلك يكون الكفر بالقلب واللسان والجوارح.
هذا القسم الأول وهو الكفر المخرج من الملة.
النوع الثاني: كفر أصغر لا يُخرج من الملة، وهو الذنوب التي وردت تسميتها في الكتاب والسنة بأنها كفر ولا تصل إلى حد خروج الشخص من الملة بها، فلا تصل إلى حد الكفر الأكبر، مثل كفر النعمة المذكور في قول الله تعالى ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾ [النحل: 112]
ومثل قول النبي ﷺ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» وقوله ﷺ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» جعل الله سبحانه وتعالى القاتل مؤمنًا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ ثم قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ﴾ سماه أخًا لهم، وكذلك في آية ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
- ملخص الفروق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر:
1. أن الكفر الأكبر يخرج من الملة ويحبط العمل وصاحبه إن مات عليه فهو مخلد في نار جهنم، الكفر الأصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط الأعمال؛ لكن ينقصها بحسبه وصاحبها معرض للوعيد.
2. الثاني: أن الكفر الأكبر يخلد صاحبه في النار، والكفر الأصغر لا يُخلد في النار وقد يتوب الله على صاحبه فلا يدخله النار أصلًا.
3. الثالث: أن الكفر الأكبر يبيح الدم والمال، والأصغر لا يبيح الدم والمال.
4. الرابع: أن الكفر الأكبر يوجب العداوة الخالصة بين أصحابه وبين المؤمنين؛ فلا يجوز للمؤمن محبته وموالاته ولو كان أقرب قريب، وأما الكفر الأصغر فإنه لا يمنع الموالاة مطلقًا، بل صاحبه يحب ويوالى بقدر ما فيه من الإيمان، ويبغض ويعادى بقدر ما فيه من العصيان.
انتهى تلخيصًا من كلام أهل العلم.
قال ابن رجب رحمه الله: (وقال البخاري: "كفر دون كفر، والكفر قد يطلق ويراد به الكفر الذي لا ينقل عن الملة، مثل: كفران العشير ونحوه عند إطلاق الكفر، فأما إن ورد الكفر مقيدًا بشيء فلا إشكال في ذلك كقوله تعالى: ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ﴾ [النحل: 112]. وإنما المراد هاهنا: أنه قد يرد إطلاق الكفر ثم يُفسر بكفر غير ناقل عن الملة) أيش معنى كلام ابن رجب؟
يقول لك ابن رجب: ترد كلمة الكفر في الكتاب والسنة مقيدة؛ كهذه ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ﴾ وهذه لا إشكال فيها عند أهل العلم بأنه ليس الكفر المخرج عن الملة؛ لأنها جاءت مقيدة؛ لكن قال موضوعنا في الكفر بدون تقييد، هل يرد في الكفر الذي لا يخرج عن الملة هذا هو موضوعنا هنا، فقال هنا: (وهذا كما قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾) أيش قال هنا ابن عباس؟ قال: (قال: "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه؛ إنه ليس بكفر ينقل عن الملة ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون﴾ كفر دون كفر". خرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد) هو ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه بألفاظ قد ساقها ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان بأسانيدها وبمن خرجها، قال: (وعنه في هذه الآية قال: "هو به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر") الشاهد أن الكفر هنا جاء مطلقًا غير مقيد، ومع ذلك فسره ابن عباس بالكفر الأصغر لا الأكبر، قال: (وكذا قال عطاء وغيره: "كفر دون كفر" وقال النخعي: "الكفران كفران: كفر بالله وكفر بالمنعم") انتهى المراد.
إذًا يطلق الكفر في الكتاب والسنة بدون تقييد ويراد به الكفر الأكبر ويراد به أحيانًا الكفر الأصغر، هذا الشاهد المراد من هذا، هذا كله للرد على الخوارج.
قال الإمام البخاري رحمه الله: "فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ" وفي رواية "الْخُدْرِيِّ" قال: "عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
الإمام البخاري رحمه الله قال: "فيه عن أبي سعيد" هكذا في بعض الروايات بدون "الخدري"، وفي بعضها بزيادة: "الخدري عن النبي ﷺ" أي في الباب يروى حديث عن أبي سعيد الخدري، يعني في هذا الباب الذي بوب عليه البخاري حديثان، حديث ابن عباس الذي سيذكره، ويوجد حديث آخر وهو حديث أبي سعيد الخدري بنفس معنى حديث ابن عباس، هذا المعنى الذي يريده.
حديث أبي سعيد أخرجه البخاري نفسه في موضعين من صحيحه برقم 304 وبرقم 1462، أخرجه موصولًا عن أبي سعيد الخدري قال: «خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ. فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» هذا من النبي ﷺ نصيحة توجيه بعض النساء لما تسمع هذا الكلام تزعل، هذا الكلام ليس لأجل أن تزعلي هذا، الكلام من أجل أن تصلحي، من أجل أن تحذري مما تقع فيه غالب النساء، هذا المقصود من هذا الحديث، وإلا فكثير من النساء قد نجت بنصيحة النبي ﷺ لما عملت بها، وليس المقصود فقط النساء، بعض الرجال لما يسمع هذا يقول لك أنا سالم، لا، لست سالمـًا، إذا وقعت فيما وقعت فيه النساء فكان نصيبك مثلها، قال: «فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟» انظر حرصهن، انظر هذه نساء الصحابة رضي الله عنهم، لم تزعل؛ وكيف النبي ﷺ يقول عنا هذا؟ وكيف يحتقر النساء؟ الكلام الفارغ الذي صار يدندن به اليوم من وراء كثرة زنين الغرب، هذا كلام فارغ هذا، النبي ﷺ ناصح لكنّ، يبين لكنّ ما ينفعكنّ يوم الحساب، هذا المهم في الأمر؛ أن تسمعي وتطيعي، وكما نصحكن النبي ﷺ هنا نصح الرجال في مواطن كثيرة أيضًا؛ لكن لما كانت النساء هذا الفعل غالب عليهن خصهن بهذه النصيحة كما خص الرجال بنصائح أخرى، «قُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟» انظر حرص نساء الصحابة على أيش، تفطنّ للموضوع، طيب لماذا؟ خلينا نحذر من هذا الموضوع، فقال: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» سببان: كثرة اللعن، والله في الطريق أكون ماشي؛ النساء تقول لعنة الله عليك، لعنة الله على أبوك، مباشرة أبوك، لعنة الله على أبوك، أخي لماذا هذا؟ هذا الآن حاصل أم غير حاصل؟ حاصل، ذكره النبي ﷺ، ومع أن النبي ﷺ نصحهن ومع ذلك ما زال وبكثرة في النساء هذا، والله تسمع من البيوت ترن في أذنك، وأنت ماشي بالشارع لعنة الله على أبوك، لماذا يا أخي؟ هذا ليس أسلوب تربية.
وقعت فيما حذرك منه النبي ﷺ.
"وتكفر العشير" سيأتي تفسيره، قال: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ» هذه تحتاج وقفة طبعًا، «ناقصات عقل ودين» وكلام طويل؛ لأنها صارت عليها فوضى كبيرة جدًا، إن شاء الله في موضعها، سيأتي هذا الحديث ونتحدث عنها في موضعها لأنها ليست موضوعنا الآن.
قال: «قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» هذه كله يحتاج إلى وقفة طويلة، طبعًا مثل هذا الحديث لن يأتي معنا في كتاب الإيمان؛ سيأتي معنا في موضع آخر؛ لكن مثل هذا الحديث سنطيل فيه لماذا؟ لأنه موضوع حساس في هذا الزمن، والنقاش فيه طويل عريض، ويستغله ضعاف القلوب ومرضى القلوب أيضًا للطعن في حديث النبي ﷺ، والزعم أن النبي ﷺ ينتقص النساء، أو الشريعة تنتقص النساء، أو إذا أراد الشخص عنده شوية إيمان وخائف من ربنا شوية، يعترض على نفس الحديث إما يضعفه، أو يحرف من أجل أن يرضى أسياده الذين تأثر بهم؛ لكن الموضوع سيأتي في محله إن شاء الله.
موضوعنا الآن حديث ابن عباس؛ لكن ذكرناه لأن الإمام البخاري أشار إليه، قال ابن رجب رحمه الله: (وحديث أبي سعيد في هذا المعنى يشبه حديث ابن عباس، وقد خرج هذا المعنى من حديث ابن عمر، وأبي هريرة أيضًا، وفي المعنى أيضًا حديث ابن مسعود، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر») (في المعنى) يعني: أنه أطلق الكفر على الكفر الأصغر لا على الكفر الأكبر.
الإمام البخاري رحمه الله ذكر حديث ابن عباس وأشار إلى حديث أبي سعيد كي يثبت لنا أيش؟ هذا المعنى؛ وهو أن الكفر يطلق ويراد به الكفر الأصغر في الشريعة.
ذكر هنا الآن ابن رجب رحمه الله أنه يوجد أيضًا بنفس هذا المعنى هذا الحديث («سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر » وقد خرجه البخاري في موضع آخر، وكذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض» وقوله: «من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما») وكل هذه الأحاديث من الكفر الأصغر وليست من الكفر الأكبر، قال هنا: (وللعلماء في هذه الأحاديث وما أشبهها مسالك متعددة) مع أنهم لم يحملوها على الكفر الأكبر، لكن بعد ذلك اختلفوا في توجيهها كيف تفسر، قال: (منهم من حملها على من فعل ذلك مستحلًا لذلك) هذا قال هو الكفر الأكبر؛ لكن إذا كان معها استحلال، هذا القول طبعًا ضعيف لأن الاستحلال هو كفر سواء فعلها أو ما فعلها، مجرد أن يستحل من حرم الله سبحانه وتعالى يكفر حتى ولو لم يفعلها.
قال: (وقد حمل مالك حديث: «من قال لأخيه يا كافر» على الحرورية المعتقدين لكفر المسلمين بالذنوب، نقله عنه أشهب وكذلك حمل إسحاق بن راهويه حديث: «من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها فقد كفر» على المستحل لذلك؛ نقله عنه حرب وإسحاق الكوسج، ومنهم من يحملها على التغليظ والكفر الذي لا ينقل عن الملة كما تقدم عن ابن عباس وعطاء، ونقل إسماعيل الشالنجي عن أحمد، وذكر له قول ابن عباس المتقدم وسأله: ما هذا الكفر؟ قال أحمد: هو كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه) إلى آخر ما ذكر، انتهى الكلام.
هذا القول هو أقرب الأقوال وأصحها إن شاء الله، أنه يحمل على الكفر الأصغر لا الكفر الأكبر؛ فالاستحلال كما ذكرنا بعيد؛ لأن الاستحلال مجرد أن يستحل يكفر لا يحتاج إلى أن يعمل لأجل أن يكفر مع الاستحلال.
قال: "حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ" هو ابن قَعْنَبْ القَعْنَبِي، ثقة حافظ، مقدم في الموطأ عند ابن المديني وابن معين والحديث من أحاديث الموطأ، تقدمت ترجمته.
"عَنْ مَالِكٍ" إمام دار الهجرة في زمنه، تقدمت ترجمته.
"عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ" القرشي العدوي المدني أبو أسامة، ويقال أبو عبد الله، مولى عمر بن الخطاب، ثقة عالم، وكان يرسل، تابعي مات سنة 136 روى له الجماعة.
"عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ" الهلالي أبو محمد المدني القاصّ، مولى ميمونة زوج النبي ﷺ، ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، تابعي، مات سنة 94 وقيل بعد ذلك، روى له الجماعة.
هؤلاء أخوة، أربعة: عطاء بن يسار، وعبد الله بن يسار، وعبد الملك بن يسار، وسليمان بن يسار أحد فقهاء المدينة السبعة، تقدم ذكرهم وقلنا سليمان منهم، وهو سليمان بن يسار أخو عطاء بن يسار، ويوجد أكثر من كتاب في معرفة الأخوة والأخوات من رواة الحديث، منها كتاب أبي داود السجستاني اسمه "تسمية الأخوة الذين رُوي عنهم الحديث" وهو مطبوع، وكتاب الدارقطني "الأخوة والأخوات" طبع بعضه.
قال ابن عبد البر: (عطاء بن يسار هو أخو سليمان بن يسار، قال مصعب الزبيري: كانوا أربعة أخوة عطاء وسليمان وعبد الله وعبد الملك وهم موالي ميمونة زوج النبي ﷺ، كاتبتهم وكلهم أُخذ عنه العلم، قال أبو عمر: سليمان أفقههم، وعطاء أكثرهم حديثًا، وعبد الله وعبد الملك قليلا الحديث، وكلهم ثقة رضًى، وكان عطاء بن يسار من الفضلاء العباد العلماء وكان صاحب قصص، ذكر علي بن المديني عن يحيى بن سعيد عن هشام بن عروة قال: "ما رأيت قاصًّا أفضل من عطاء بن يسار") انتهى.
"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ" صاحب رسول الله ﷺ حبر الأمة تقدمت ترجمته.
قال: "قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُرِيتُ النَّارَ»"
أُرِيتُ بضم الهمزة مبنيًا للمفعول من الرؤية بمعنى أبصرت، أي أراني الله النار، يعني رأى النار بعينيه؛ ليس وهو نائم، هذا المقصود، وقد كانت هذه الرؤية في الصلاة كما جاء في نفس الحديث في "باب صلاة الكسوف جماعة"، قال ابن عباس: "انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَعْكَعْتَ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إني أريت الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا، وَلَوْ أَصَبْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَأُرِيتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «بِكُفْرِهِنَّ»، قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟. قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ منك خيرا قط»"
قال: "«فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن»" وفي رواية: «بكفرهن»، أي بسبب كفرهن "قيل: أيكفرن بالله قال: «يكفرن العشير»" العشير: الزوج، أي: يُنكرن ويجحدن إحسان الزوج، "«ويكفرن الإحسان»" هذا كأنه بيان لقوله: يكفرن العشير؛ لأن المقصود كفر إحسان العشير، أي: يجحدن إحسان الزوج.
"«لو أحسنت إلى إحداهن الدهر»" والمراد منه: مدة عمر الرجل، أو المراد منه الزمن كله مبالغة في كفرانهن، وليس المراد بقوله: «أحسنتَ» مخاطبة لرجٍل معين؛ بل كل من يتأتى منه أن يكون مخاطَبًا؛ فهو خاص لفظًا، عام معنىً.
"«ثم رأت منك شيئًا»" أي: شيئًا قليلًا، أي: لا يوافق غرضها من أي نوع كان، أو شيئًا حقيرًا لا يعجبها.
"«قالت: ما رأيت منك خيرًا قط»" و "قط": هذا ظرف زمان لاستغراق ما مضى، ولا يلزم منه أن تكون النساء كلهن هكذا؛ ولكن كما ذكرنا هذا الغالب، فالغالب منهن يتصفن بهذه الصفة.
وهذا من باب النصح للنساء والتحذير من الوقوع في ذلك.
قال النووي: "توعده على كفران العشير وكفران الإحسان بالنار يدل على أنهما من الكبائر" من كبائر الذنوب.
قال المهلب: "الكفر هاهنا كفر الإحسان، وكفر نعمة العشير؛ وهو الزوج، وتسخُّط حاله، وقد أمر الله ورسوله بشكر النعم، وجاء في الحديث: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» وشكر نعمة الزوج هو من باب شكر نعمة الله؛ لأن كل نعمة فضّل بها العشيرُ أهلَه فهي من نعمة الله أجراها على يديه، ومعنى هذا الباب كالذي قبله: أن المعاصي تنقص الإيمان ولا تُخرج إلى الكفر الذي يوجب الخلود في النار؛ لأنهم حين سمعوا رسول الله قال: «يكفرن» ظنوا أنه كفر بالله، فقالوا: يكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، يكفرن الإحسان» فبيّن لهم رسول الله ﷺ أنه أراد كفرهن حق أزواجهن وذلك لا محالة ينقص من إيمانهن، ودل ذلك أن إيمانهن يزيد بشكرهن العشير وبأفعال البر كلها؛ فثبت أن الأعمال من الإيمان، وأنه قول وعمل؛ إذ بالعمل الصالح يزيد، وبالعمل السيء ينقص، وفيه دليل أن المرء يعذب على الجحد للفضل والإحسان وشكر المنعم، وقيل إن شكر المنعم فريضة" انتهى كلامه.
قال الشراح: (وفي هذا الحديث تعظيم حق الزوج على المرأة، وأنه يجب عليها شكره والاعتراف بفضله لستره لها، ولصيانته وقيامه بمؤنتها، وبذله نفسه في ذلك، ومن أجل هذا فضّل الله الرجال على النساء في غير موضع من كتابه، فقال: ﴿الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم﴾ الآية، وقال: ﴿وللرجال عليهن درجة﴾ وقد أمر ﷺ من أُسديت إليه نعمة أن يشكرها، فكيف نعم الزوج التي لا تنفك المرأة منها دهرها كله، وقد قال بعض العلماء: شكر الإنعام فرض، فذكر حديثًا يستدل به واحتج بقوله ﴿أن اشكر لي ولوالديك﴾ فقرن بشكره شكر الآباء، قال: فكذلك شكر غيرهم واجب، وقد يكون شكر النعمة في نشرها، ويكون في أقل من ذلك) شكر نشرها يكون بالاعتراف، بذكرها (ويكون أقل من ذلك فيجزئ فيه الإقرار بالنعمة والمعرفة بقدر الحاجة) انتهى.
يعني ولو على قدر أن تعترف بنعمة المنعم عليك وتقول بأنك أنعمت علي بكذا، أو أنت فعلت معي معروف كذا وكذا يكون من شكر النعمة.
قال ابن حجر: (وننبه هنا على فائدتين: إحداهما أن البخاري يذهب إلى جواز تقطيع الحديث إذا كان ما يفصله منه لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلقًا يفضي إلى فساد المعنى).
وهذا مذهب من مذاهب العلماء ذكرناه في مصطلح الحديث؛ اختلف فيه العلماء هل يجوز تقطيع الحديث أم لا؟
والراجح هو ما ذهب إليه البخاري وما فعله، يجوز تقطيع الحديث إذا لم يتعلق ما قبله بما اقتطع منه، ولا بما بعده؛ فلا يخل القطع بالمعنى؛ فإذا لم يخل القطع بالمعنى الذي ذُكر في الجزء الذي ذُكر فلا بأس، أما إذا أخل بالمعنى فلا، وهذا ما كان يفعله الإمام البخاري رحمه الله، كان يقطع جزءًا من الحديث ويخرجه من غير أن يكون في الحديث تعلق لما قبله وما بعده بحيث يُخل بالمعنى إذا اقتطعه، والإمام البخاري إمام كان يعرف كيف يقتطع، واقتطاعه هذا لم يكن محصورًا على القطع من أول الحديث أو من آخر الحديث؛ بل كان يقتطع من أول الحديث ومن وسط الحديث ومن آخر الحديث، هذا الذي معنا اقتطعه من الوسط، من بعض الحديث، من أجزاءه، من داخله، وليس من أوله ولا من آخره.
قال: (فصنيعه كذلك يوهم من لا يحفظ الحديث) يعني فعل البخاري هذا (يوهم من لا يحفظ الحديث أن المختصَر غير التام، لا سيما إذا كان ابتداء المختصر من أثناء التام) يعني أن من لم يحفظ الحديث كله الذي ساقه البخاري يظن أن هذه القطعة التي اقتطعها البخاري ووضعها هنا هي حديث مستقل وليست جزءًا من ذاك الحديث؛ لأنه لا يحفظ الحديث كاملًا فيظن هذا؛ لأن البخاري اقتطعه من داخل الحديث.
قال: (كما وقع في هذا الحديث فإن أوله هنا قوله ﷺ: «أريت النار» إلى آخر ما ذكر منه، وأول التام عن ابن عباس قال: "خسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ" فذكر قصة صلاة الخسوف ثم خطبة النبي ﷺ، وفيها القدر المذكور هنا، فمن أراد) يعني من حصل هذا من البخاري واقتطع هذا الحديث من باطن الحديث قال: (فمن أراد عد الأحاديث) من لم ينتبه لفعل البخاري هذا وأراد أن يعد أحاديث صحيح البخاري كلها كم حديث فيها، قال: (فمن أراد عد الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب يظن أن هذا الحديث حديثان أو أكثر لاختلاف الابتداء) لأن بداية الحديث اختلفت؛ فهم يأتون ينظرون في بداية الحديث فيقول لك هذا الحديث غير هذا الحديث، مع أن هذا مقتطع من هذا أصلًا؛ لكن من داخله، ليس من أوله ولا من آخره، فيتوهم أنه حديث مستقل، فيعطيه رقمًا خاصًا فتكبر عنده التعداد.
قال: (فمن أراد عد الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب يظن أن هذا الحديث حديثان أو أكثر لاختلاف الابتداء، وقد وقع في ذلك من حكى أن عدته بغير تكرار) يعني عدة الأحاديث: مجموع الاحاديث التي في صحيح البخاري من غير المكرر (أربعة آلافٍ أو نحوها كابن الصلاح والشيخ محيي الدين) يعني النووي (ومن بعدهما، وليس الأمر كذلك) هذا السبب الذي جعل العلماء يختلفون في عدد الأحاديث التي في صحيح البخاري، بعضهم أوصلها لأربعة آلاف، بعدين يأتي الآخر يقل لك ألفين وستمائة، فرق كبير، يقول لك هذا هو السبب -الحافظ ابن حجر رحمه الله- قال: (وليس الأمر كذلك؛ بل عدته على التحرير ألفا حديثٍ وخمسمائة حديثٍ وثلاثة عشرة حديثًا كما بينت ذلك مفصلًا في المقدمة" هذا تعداده، يعني كم حديث يعني 2500 تعداد صحيح البخاري من غير تكرار.
(الفائدة الثانية: تقرر أن البخاري لا يعيد الحديث إلا لفائدة) هذه الفائدة مهمة لأنها تعطيك أيش؟ استقراء لعمل البخاري، استقرأه الحافظ ابن حجر وخرج بهذه النتيجة يقول لك: "
(تَقَرَّرَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يُعِيدُ الْحَدِيثَ إِلَّا لِفَائِدَةٍ" يعني لما يعيد الحديث في موضع آخر وضعه في كتاب هنا ثم وضعه في الكتاب الثاني يكون عنده فائدة (لَكِنْ تَارَةً تَكُونُ فِي الْمَتْنِ) هذه فائدة (وَتَارَةً فِي الْإِسْنَادِ، وَتَارَةً فِيهِمَا) يعني في الإسناد والمتن (وَحَيْثُ تَكُونُ فِي الْمَتْنِ خَاصَّةً لَا يُعِيدُهُ بِصُورَتِهِ بَلْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ) إذا كانت الفائدة في المتن لا يعيده كما هو بل يتصرف فيه (فَإِنْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ أَوْرَدَ لِكُلِّ بَابٍ طَرِيقًا، وَإِنْ قَلَّتِ اخْتَصَرَ الْمَتْنَ أَوِ الْإِسْنَادَ) المهم لابد أن يعمل لك فائدة، لا بد إذا كرر الحديث لابد أن يحضر لك فائدة من وراء هذا التكرار (وَقَدْ صَنَعَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ هُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ -وَهُوَ الْقَعْنَبِيُّ- مُخْتَصَرًا مُقْتَصَرًا عَلَى مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْكُفْرَ يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ أَوْرَدَهُ فِي الصَّلَاةِ فِي بَابِ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ نَارٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُغَايِرِ اقْتَصَرَ عَلَى مَقْصُودِ التَّرْجَمَةِ مِنْهُ فَقَطْ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَسَاقَهُ تَامًّا) يعني انظر الآن جزّءه، وضع في كل مكان جزءًا؛ لأنه نفس الطريق، لما يكون نفس الطريق إذًا يأتيك بالمتن لكن يغاير، يأتي بجزء لم يأتِ به بموضع آخر، أو يأتي به كاملًا في موضع، أو يأتي به ناقصا في موضع آخر (ثُمَّ أَوْرَدَهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ فِي ذِكْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَنْ شَيْخٍ غَيْرِ الْقَعْنَبِيِّ مُقْتَصَرًا عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ عَنْ شَيْخٍ غَيْرِهِمَا عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا. وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُحْمَلُ جَمِيعُ تَصَرُّفِهِ، فَلَا يُوجَدُ فِي كِتَابِهِ حَدِيثٌ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ فَصَاعِدًا إِلَّا نَادِرًا وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ) انتهى المراد.
من الفوائد التي تؤخذ من هذا الحديث:
· أن النار مخلوقة الآن موجودة؛ لأن النبي ﷺ رآها.
· ومن الفوائد التي ذكرها بعض أهل العلم قالوا: ينبغي لولي الأمر وأصحاب الولايات وكبار السن أن يعظوا رعاياهم وأتباعهم ويحذروهم من المخالفات لأوامر الله ونواهيه، ويحرضوهم على الطاعات.
· ومنها: للمتعلم أن يراجع العالم فيما سمعه منه إذا لم يظهر له معناه ليبينه له.
· ودل الحديث على أن كفران الحقوق وجحد الإحسان حرام معدود من كبائر الذنوب، هذا ليس للنساء فقط هذا عام للجميع، كفران الحقوق وجحد الإحسان، سواء كان من الرجال أو من النساء، حرام معدود من كبائر الذنوب، ويدل على ذلك أن النبي ﷺ توعد من فعل ذلك بالنار، فجحد المرأة إحسان زوجها عليها بأن تقول ما رأيت منك خيرًا قط حرام معدود من كبائر الذنوب، وكذا كل من وصل إليه إحسان من غيره سواء كان ذلك الإحسان مالًا، أو علمًا، أو جلب نفعٍ، أو دفع ضررٍ إذا أنكره وجحده كأن يقول فلان لم يفعل معي خيرًا قط، حرام وكبيرة، والله أعلم.
الحديث متفق عليه من حديث مالك عن زيد بن أسلم به، وتابع مالكًا عليه حفص بن ميسرة عند مسلم، رواه جمع عن مالك، أخرجه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، وتوبع مالك عليه، وللحديث شواهد؛ فالحديث صحيح لا إشكال فيه، والحمد لله.
قال المؤلف رحمه الله: "بَابٌ: الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلَّا بِالشِّرْكِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»، وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ، عَنِ الْمَعْرُورِ قَالَ: "لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»"
قال: "بابٌ المعاصي من أمر الجاهلية"
المعاصي: جمع معصية، وهي في الشرع: مخالفة الشارع بترك واجب أو فعل محرم، ومنها كبائر ومنها صغائر، الجاهلية: ما قبل الإسلام، سُميت بذلك لكثرة جهالاتهم، أي: لكثرة مخالفتهم للشرع مع العلم بذلك.
وأمر الجاهلية: خصال الجاهلية، أو مِن أفعال أهل الجاهلية.
قال صاحب المطالع: "وقوله: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» و "نذرتُ ليلةً في الجاهلية" و "كانت قريش تصومه في الجاهلية" كل ذلك كناية عما كانت عليه العرب قبل الإسلام، وبعثِ الرسول ﷺ، من الجهل بالله وبرسوله وشرائع الدين، والتمسك بعبادة غير الله، والمفاخرة بالأنساب، والكبرياء والجبروت، إلى سائر ما أذهبه الله وأسقطه ونهى عنه بما شرعه من الدين وأبانه بالعلم" انتهى كلامه رحمه الله.
"ولا يُكَفّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك" يُكَفّر: أي لا ينسب صاحبها إلى الكفر بفعلها.
في البداية بيّن لك أنها من أمر الجاهلية، هل معنى ذلك أنه يكفر كما كان أهل الجاهلية كفارًا؟
قال لك هنا: "ولا يُكَفّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك" هذه الأبواب رد على الخوارج وبيان لعقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب.
وفي رواية أبي الوقت: "لا يَكْفُر" أي: لا يخرج من الملة بفعلها، لا يكفر صاحب المعصية بفعل المعصية، إلا لو أشرك، ومن وقع في الشرك كان كافرًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤٨)﴾ [النساء: 48].
المراد أن المسلم لا يكفر بالمعصية التي هي دون الكفر، فلا يكفر المسلم إلا إن وقع في الشرك أو الكفر، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، هذه عقيدة متفق عليها عندهم لا خلاف عندهم فيها، ومراد البخاري بقوله: "إلا الشرك" ما يشمل الكفر المخرج من الملة؛ لأنه استدل بالآية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤٨)﴾ [النساء: 48].
لا خلاف بين أهل العلم أن المقصود بذلك: الشرك والكفر معًا.
فهذا مراد البخاري رحمه الله وهذا المقصود من الشرك فيها، فالشرك قد يطلق ويراد به عموم الكفر المخرج من الملة والعكس كذلك، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧)﴾ [المؤمنون: 117] هم مشركون وهم كافرون أيضًا، وهذا للرد على الخوارج كما ذكرنا الذين يكفرون بكبائر الذنوب.
قال: "لقول النبي ﷺ: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية»" لأن المعاصي من خصال الجاهلية أو من فعل أهل الجاهلية، والدليل قول النبي ﷺ لأبي ذر: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» أي: فيك خصلة جاهلية، وفاعل المعصية لا يكفر لقول الله تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به﴾ الإشراك، لا يغفر أن يشرك به، لا يغفر الإشراك به، ﴿ويغفر ما دون ذلك﴾ ما سوى ذلك الإشراك من الذنوب ﴿لمن يشاء﴾ إن الله لا يغفر الشرك به والكفر لمن مات عليه، ويغفر ما دون الشرك والكفر، ما سوى الشرك والكفر من الذنوب يغفره الله تعالى لمن يشاء.
قال ابن حجر: "والمراد بالشرك في هذه الآية الكفر؛ لأن من جحد نبوة محمد ﷺ مثلًا كان كافرًا ولو لم يجعل مع الله إلهًا آخر، والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف" انتهى المراد.
قال أبو بكر الإسماعيلي: -الآن نقرر لكم عقيدة أهل السنة والجماعة من كلام أهل السنة والجماعة-
قال أبو بكر الإسماعيلي: "ويقولون إن أحدًا من أهل التوحيد ومن يصلي إلى قبلة المسلمين لو ارتكب ذنبًا أو ذنوبًا كثيرةً صغائر أو كبائر مع الإقامة على التوحيد لله والإقرار بما التزمه وقبله عن الله؛ فإنه لا يكفر به ويرجون له المغفرة، قال تعالى: ﴿ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾" انتهى.
وقال ابن بطة العكبري: "وقد أجمعت العلماء لا خلاف بينهم أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا نخرجه من الإسلام بمعصية، نرجو للمحسن ونخاف على المسيء".
وقال أبو عثمان الصابوني: "ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوبًا كثيرةً، صغائر كانت أو كبائر فإنه لا يكفر بها"
وقال البغوي رحمه الله: "اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئًا منها فمات قبل التوبة لا يُخلّد في النار، كما جاء به الحديث؛ بل هو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه ثم أدخله الجنة برحمته".
قال ابن تيمية رحمه الله: -يبين عقيدة أهل السنة والجماعة-
(وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ، لَا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ، كَمَا تَفْعَلُهُ «الْخَوَارِجُ» ، بَلْ الْأُخُوَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْقِصَاصِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] وَقَالَ سُبْحَانَه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ • إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 9 - 10])
طبعًا الشاهد هنا قوله: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ مع الاقتتال الذي حصل بينهم، ومع أنه قال: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يقتل بعضكم بعضًا» وقال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» ومع هذا سمّاهم أخوة، إذن الكفر هنا ليس كفرًا مخرجًا من الملة، فلا يُخرجون أصحاب المعاصي من الملة
(وَلَا يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ) الفاسق المِلّي يعني من هو على ملة الإسلام، هذا الفاسق المِلّي يكون فاسقًا بفعله للمعاصي ولكنه على ملة الإسلام، لا يسلبونه اسم الإسلام بالكلية، لا يصرفون عنه اسم الإيمان كليًا، (وَلَا يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّارِ) يعني يقولون هو مؤمن ويقولون أنه لا يخلد في النار حتى وإن دخلها (كَمَا تَقُولُهُ "الْمُعْتَزِلَة) المعتزلة يقولون في الفاسق بأنه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا؛ لا هو كافر ولا هو مؤمن، وفي الآخرة هو مخلد في نار جهنم.
وأهل السنة لا يقولون بهذا، يقولون هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، هذا اسمه في الدنيا، وفي الآخرة لا يخلد في نار جهنم، إن شاء الله عذبه وإن شاء لم يعذبه هذه عقيدة أهل السنة
بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ) عندهم يعتبر مؤمنًا (فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]) فيشمل ذلك الفاسق يعني هل يحرر الفاسق ولا لا ؟ يحرر لأنه يشمله اسم المؤمن (وَقَدْ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ) الإيمان المطلق ومطلق الإيمان؛ الفرق بينهما:
الإيمان المطلق يعني: الإيمان الكامل، هذا الفاسق لا يدخل في الإيمان الكامل؛ لأن إيمانه ليس كاملًا، إيمانه ناقص بفسقه؛ فلا يدخل في هذا (كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ})
فهذا الفاسق لا يدخل في هذه؛ لأن المقصود هنا المؤمن كامل الإيمان، (وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ») يعني كامل الإيمان، لما يفعل هذه الأفعال يكون ناقص الإيمان.
(وَيَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ، فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ؛ فَلَا يُعْطَى الِاسْمُ الْمُطْلَقُ) لما تسمع الاسم المطلق احذف المطلق، وضع مكانها الكامل؛ فلا يعطى الاسم الكامل، الإيمان المطلق: الإيمان الكامل.
(وَلَا يُسْلَبُ مُطْلَقُ الِاسْمِ) لما تأتي "مطلق الاسم" هكذا -المطلق هي الأولى- احذف المطلق وضع مكانها أصل، ولا يُسلب أصل الاسم، يعني مطلق الإيمان، لا يسلب عنه أصل الإيمان، هو أصل الإيمان موجود عنده؛ لكن الناقص عنده هو كماله، هذا الفرق، انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.
وقال بن أبي العز الحنفي: "أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرًا ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج" انتهى.
وقال الشراح: (غرض البخاري الرد على من يكفر بالذنوب كالخوارج، ويقول) أي: الذي يرد عليه البخاري أيش يقول؟ (ويقول: إن من مات على ذلك يخلّد في النار) الذين يكفرون هم الخوارج، الخوارج يقولون هو في الدنيا كافر، الفاسق هذا مرتكب الذنب الكبيرة: هو في الدنيا كافر، المعتزلة تخالفهم تقول: لا مؤمن ولا كافر، في منزلة بين المنزلتين، هذا في الاسم في إطلاق الاسم عليه في الدنيا، في الآخرة يتفقون، المعتزلة والخوارج يقولون: هو مخلد في نار جهنم، قال: (ويقول إن من مات على ذلك يخلّد في النار) هذا قول من؟ الخوارج والمعتزلة، الأول التكفير قول الخوارج، المعتزلة أتوا ببدعة أخرى، قالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، قال: (والآية ترد عليهم؛ لأن المراد بقوله: ﴿ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ من مات على كل ذنب سوى الشرك، واحتج البخاري بالآية السالفة ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ وهي صريحة في الدلالة لأهل الحق) دلالتها صريحة، (قالوا: لأن المراد من مات على الذنوب بلا توبة) لماذا قالوا بلا توبة هنا؟ لأن أهل البدع قالوا هذه الآية للذي له توبة، فردوا عليهم، قالوا هذا لمن لا توبة له (ولو كان المراد: من تاب لما كان فرق بين الشرك وغيره) أيش الفرق بين الشرك وغيره؟! كل من تاب يغفر الله سبحانه وتعالى له؛ لكن هنا لما فرّق بين الشرك وغيره إذًا هذا لمن لم يتب قال: (وقد تظاهرت الأدلة على ذلك وإجماع السلف عليه" انتهى.
"حدثنا سليمان بن حرب" ثقة، حافظ، إمام، تقدمت ترجمته.
"قال: حدثنا شعبة" هو ابن الحجاج، تقدم أيضًا.
"عن واصلٍ الأحدب" هو واصل بن حيان الأحدب الأسدي الكوفي، بياع السابَرِي -نوع من الثياب-، ثقة ثبت، من أتباع التابعين، مات سنة 120 وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.
"عن المعرور" في نسخة: "ابن سويد الأسَدي" معرور بن سويد الأسدي، أبو أُمَيّة الكوفي ثقة، عاش 120 سنة، روى له الجماعة.
"قال: لقيت أبا ذر" جندب بن جنادة، أبو ذر الغفاري، من بني غفار، صحابي فاضل جليل، مختلف في اسمه، قال ابن عبد البر: (المشهور المحفوظ: جندب بن جنادة، وأمه: رملة بنت الوقيعة من بني غفار) طبعًا إسلام أبي ذر كان قديمًا، ولإسلامه قصة ستأتي إن شاء الله سيخرجها البخاري وسنذكرها هناك، وهو من أوائل من أسلم.
(ثم رجع إلى بلاد قومه بعد ما أسلم، فأقام بها حتى حصلت غزوة بدر وغزوة أحد وغزوة الخندق ثم قدم إلى النبي ﷺ المدينة فصحبه إلى أن مات، ثم خرج بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه إلى الشام، فلم يزل بها حتى ولي عثمان رضي الله عنه، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية به، وأسكنه الربْذة) حصل خلاف بينه وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وسيأتي في موضعه بإذن الله ما هو السبب الخلاف، ثم استدعاه عثمان رضي الله عنه عنده بعد أن حصل بينهم خلاف، وأراد عثمان منه أن يسكن المدينة معه فطلب أن يسكن الربذة فذهب إلى الربذة ومات بها، وصلى عليه عبد الله بن مسعود وكانت وفاته سنة 32 في خلافة عثمان، يُروى عن النبي ﷺ أنه قال: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر».
قال ابن حجر: ومناقبه كثيرة جدًا.
"بالرَّبْذة" الربْذة قرية قرب المدينة.
"وعليه" أي: لقيته وهو لابس يلبس "حُلّة" قال ابن حجر: (هي ثياب ذات خطوط والحلة لا تكون إلا من ثوبين) يعني: مثل الذي ترونها في الحج والعمرة لباس الإحرام، إزار من تحت وثوب من الأعلى، هذه تسمى حلة (وقيل إنما تكون حلة إذا كانت جديدة) وقال أبو عبيد: (الحلل برود اليمن).
"وعلى غلامه حلة" لمـّا مرّ به أبو ذر مر به ومعه غلام فأبو ذر كان يرتدي حلة، ثياب طيبة يعني جيدة، وكان غلامه يرتدي نفس الحلة هذه.
"فسألته عن ذلك" يعني سأل المعرور أبا ذر عن سبب لبسه هو وغلامه نفس الحلة، نفس الدرجة من اللباس، فالعادة عندهم جارية أن تكون ثياب الغلام دون ثياب سيده، فذكر السبب "فقال: إني ساببت" أي شاتمت، كما جاء في بعض الروايات، ولفظ البخاري في كتاب الأدب: "كان بيني وبين رجل كلام" كان بينهم مخاصمة وخلاف وسب، وعند مسلم: "كان بيني وبين رجل من إخواني كلام" "ساببت رجلًا" ورد في رواية ضعيفة أنه بلال بن رباح رضي الله عنه، وهذا خطأ لسببين:
الأول: ضعف ما استندوا عليه -الذين قالوا بأنه بلال- ولا يصح فيه شيء، وسنذكر الروايات في الأخير.
الثاني: لِما قاله النووي وقوله صحيح، قال: "والظاهر أنه كان عبدًا" كان عبدًا، يعني مملوكًا، وهذا يدل عليه السياق الذي سيأتي إن شاء الله، سياق الحديث وهذا أقوى مما ذكروه، وبلال لم يكن عبدًا في المدينة.
قال: "فعيرته" أي نسبته إلى العار، والعار السبة والعيب، وقيل: هو كل شيء يلزم به سبة أو عيب.
"فعيرته بأمه" وفي رواية عند البخاري ستأتي "وكانت أمه أعجمية فنلت منها" قدح فيها.
"فقال لي النبي ﷺ: "«يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟»" هذا سؤال إنكار.
"«إنك امرؤ فيك جاهلية»" أي: إنك في تعييره بأمه على خلق من أخلاق الجاهلية فهذا التعيير بالأم تفعله الجاهلية، ليس أنت، وقد بقي فيك من أخلاق القوم شيء؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يتفاخرون بالأنساب ويعيرون بالآباء والأمهات وذلك شيء أذهبه الإسلام، قد قال الله تبارك وتعالى: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾.
قال ابن حجر: (ويظهر لي أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده؛ فلهذا قال كما عند المؤلف في الأدب: "قلت على ساعتي هذه من كبر السن") يعني ما زالت هذه الخصلة فيَّ وأنا في هذا السن وفي هذا الوقت؟ قال: ("نعم" كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه ومع كبر سنه فبين له كون هذه الخصلة مذمومة شرعا وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذًا بالأحوط) هكذا كان أصحاب النبي ﷺ، خلاص تسليم وانقياد وانتهى الأمر، ما كان يعرف الحكم؛ لكن لما بيّن له انتهى الأمر، واستهجن أن تكون في هذه الخصلة أصلًا، واليوم حتى بعد ما عرفنا انظر أحوال الناس، تعيير بالأم وتعيير بالأب وتعيير بالأنساب كثير جدًا، قال: (وغيره أخذًا بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي اشتراط المواساة لا المساواة) يعني في الحديث ليس فيه أنك تساويه في اللباس لكن إذا لبست ألبسه، هذا معنى المواساة.
وقال: (وإنما وبخه بذلك على عظيم منزلته عنده) يعني مع عظم منزلة أبي ذر رحمه الله قال: (تَحْذِيرًا لَهُ عَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعُذْرِ، لَكِنْ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِهِ يُسْتَعْظَمُ أَكْثَرَ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ) انتهى، المهم الغاية والمراد: التحذير من هذا الفعل لأبي ذر ولغيره.
ثم قال ﷺ: "«إخوانكم»" أي المماليك، إخوانكم في الإسلام.
"«خَوَلكم»" أي: خدمكم، الخَوَل، قال أهل اللغة: "الخول: الخدم سُموا بذلك لأنهم يتخولون الأمور، أي: يصلحونها، ويقومون بها" هذا أصل الكلمة، ثم صار كثير من الناس اليوم يستعملونها في معنى قبيح، هو أيضًا من الكناية، هم أخذوا هذا المعنى الأصل وكنوا بها على المعنى البعيد؛ صاروا يستعملونها في اللوطي.
"«جعلهم الله تحت أيديكم»" يعني تحت مِلككم، وجعلهم خدمًا لكم، وهذا ما يدلك على أنه كان عبدًا -هذا الرجل الذي سابّه أبو ذر-.
قال: "«فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ»" الآن الاتفاق حاصل بين أهل العلم كما سيأتي إن شاء الله أن هذا ليس مقصودًا على الوجوب، يعني ما فعله الآن هذا ليس على الوجوب؛ لكن المقصود من ذلك ألا تتركه بلا لباس وأنت تلبس، وألا تتركه بلا أكل وأنت تأكل هذا المقصود، المقصود من حيث الوجوب، أما من حيث الاستحباب والأفضل فما تلبسه ألبسه إياه، ما تأكل منه أطعمه منه.
قال البغوي: (هَذَا خطاب مَعَ الْعَرَب الَّذين لبوسُ عامتهم، وأطعمتهم مُتَقَارِبَة، يَأْكُلُون الجَشِب) يعني الطعام الغليظ (وَيلبسُونَ الخشن، فَأَمرهمْ أَن يُطعموا، ويُلبسوا رقيقَهم، مِمَّا يَأْكُلُون وَيلبسُونَ، فَأَما من خَالف معاش السَّلف، وَالْعرب، فَأكل رَقِيق الطَّعَام، وَلبس جيِّد الثِّيَاب، فَلَو واسى رَقِيقه، كَانَ أحسن، فَإِن لم يفعل، فَلَيْسَ عَلَيْهِ لرقيقه إِلا مَا هُوَ الْمَعْرُوف من نَفَقَة رقيقَة بَلَده، وكِسوتهم) انتهى.
وقال النووي: (وَالْأَمْرُ بِإِطْعَامِهِمْ مِمَّا يَأْكُلُ السَّيِّدُ وَإِلْبَاسُهُمْ مِمَّا يَلْبَسُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لَا عَلَى الْإِيجَابِ، وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ).
النووي في كلامه يمتاز بميزتين:
الأول: سهولة العبارة: كلام النووي سهل العبارة.
الثاني: الاختصار في الكلام: فالنووي يعطيك كلمات تجدها مختصرة، يلخص لك حكم المسألة وعباراته المستعملة تكون سهلة؛ لذلك العلماء ينقلون عنه كثيرًا ويحبون كلامه، وهو ممن عندهم سعة اطلاع على مسائل الإجماع والخلاف.
قال: (وَالْأَمْرُ بِإِطْعَامِهِمْ مِمَّا يَأْكُلُ السَّيِّدُ وَإِلْبَاسُهُمْ مِمَّا يَلْبَسُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ) انتهى، يعني لخص لك الموضوع.
قال: (وَأَمَّا فِعْلُ أَبِي ذَرٍّ فِي كِسْوَةِ غُلَامِهِ مِثْلَ كِسْوَتِهِ فَعَمَلٌ بِالْمُسْتَحَبِّ) ممكن أنت تورد إشكالًا مباشرة تقول طيب والذي فعله أبو ذر، أعطاك الإجابة ملخصة (وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ نَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ بِحَسَبِ الْبُلْدَانِ وَالْأَشْخَاصِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ نَفَقَةِ السَّيِّدِ وَلِبَاسِهِ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ) هذا حسب المتعارف عليه، يعني رجع الأمر الضابط إلى أيش؟ إلى العرف (حَتَّى لَوْ قَتَّرَ السَّيِّدُ عَلَى نَفْسِهِ تَقْتِيرًا خَارِجًا عَنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ) التقتير هذا على نفسه يرجع أيش؟ أيش السبب؟ لماذا يقتر على نفسه؟ يلبس مثلًا ثيابًا خشنة وهو قادر على شراء ثياب جيدة لماذا؟ لأحد سببين، قال النووي: (إِمَّا زُهْدًا وَإِمَّا شُحًّا) إما بخيل وإما زاهد، قال: (لَا يَحِلُّ لَهُ التَّقْتِيرُ عَلَى الْمَمْلُوكِ) إن قتّر على نفسه، فأعطِ المملوك (لَا يَحِلُّ لَهُ التَّقْتِيرُ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَإِلْزَامُهُ وَمُوَافَقَتُهُ إِلَّا بِرِضَاهُ) كما قال أحد الذين سمعوا مناقب الرقيق عند المسلمين، فقال: وددت لو أن أكون عبدًا عند مسلم، المناقب هذه التي يحصل عليها والفضائل التي يحصل عليها ملك اليمين عند المسلمين؛ لكن أقول لكم بصدق: الحمد لله أن اليوم لا يوجد، لو فيه مملوكين الله المستعان، حال المسلمين في تعاملهم مع بعضهم سواء كان مملوكًا ولا غيره حال يرثى لها، نسمع ما يحصل مع الخادمات من ظلم عجيب جدًا، ومن تجبر وتحكم بعيد كل البعد عن وصايا النبي ﷺ.
قال: (حَتَّى لَوْ قَتَّرَ السَّيِّدُ عَلَى نَفْسِهِ تَقْتِيرًا خَارِجًا عَنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ إِمَّا زُهْدًا وَإِمَّا شُحًّا لَا يَحِلُّ لَهُ التَّقْتِيرُ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَإِلْزَامُهُ وَمُوَافَقَتُهُ إِلَّا بِرِضَاهُ) انتهى.
"«ولا تكلفوهم ما يغلبهم»" أي: لا تحملوهم من العمل ما تعجز قدرتهم عنه لعظمه أو صعوبته، والنهي فيه للتحريم "«ولا تكلفوهم ما يغلبهم»" النهي للتحريم، قال العيني: (بلا خلاف).
"«فإن كلفتموهم»" ما يغلبهم "«فأعينوهم»" من الإعانة وهي المساعدة.
قال النووي: (وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَهُ من العمل ما لا يُطِيقُهُ؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَزِمَهُ إِعَانَتُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ) انتهى.
قال الشراح: وفي الحديث:
§ النهي عن سب العبيد، ومن في معناهم، وتعييرهم بأصولهم.
§ وفيه الحث على الإحسان إليهم، والرفق بهم، وبمن في معناهم من أجير أو خادم أو دابة.
§ وجواز إطلاق الأخ على الرقيق.
§ والمحافظة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
§ وأن التفاضل الحقيقي بين المسلمين إنما هو في التقوى؛ فلا يفيد النسب الشريف صاحبه إذا لم يكن من أهل التقوى، وتفيد التقوى وضيع النسب، قال تعالى: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾.
§ ويفيد الحديث ما استدل به البخاري: وهو أن المعاصي كلها من خصال الجاهلية.
وقال بعض الشراح: يريد البخاري أن فاعل المعاصي لا يكفر؛ لأنه لو كان يكفر لبيّنه النبي ﷺ لأبي ذر ولم يكتفِ بقوله له: «إنك امرؤ فيك جاهلية».
وسيأتي الحديث برقم 2545 من طريق آدم بن أبي إياس، عن شعبة، حدثنا واصل الأحدب قال: سمعت المعرور بن سويد به.
وبرقم 6050 من رواية عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد به.
الحديث متفق عليه من حديث شعبة، عن واصل الأحدب، عن المعرور.
ومن حديث الأعمش عن المعرور أيضًا.
وأخرجه البزار من طريق مُوَرِّقٍ العِجْلي، عن أبي ذر، وقال: "روي عن أبي ذر من غير وجه بألفاظ مختلفة فذكرنا كل حديث بإسناده و بلفظه في موضعه" انتهى.
الحديث صحيح لا إشكال فيه بحمد الله.
والرواية التي فيها ذُكر بلال، قال ابن بطال: (وقد روى سمرة بن جندب أن بلالًا كان الذي عيّره أبو ذر بأمه، روى الوليد بن مسلم، عن أبي بكر، عن ضمرة بن حبيب، قال: "كان بين أبي ذر وبين بلال محاورة فعيره أبو ذر بسواد أمه، فانطلق بلال إلى رسول الله ﷺ فشكا إليه تعييره بذلك، فأمره رسول الله ﷺ أن يدعوه، فلما جاءه أبو ذر قال له رسول الله ﷺ: «شتمت بلالا وعيرته بسواد أمه؟» قال: نعم، قال رسول الله ﷺ: «ما كنت أحسب أنه بقي في صدرك من كبر الجاهلية شيء» فألقى أبو ذر نفسه بالأرض، ثم وضع خده على التراب، وقال: والله لا أرفع خدي من التراب حتى يطأ بلال خدي بقدمه، فوطأ خده بقدمه") انتهى.
وقد ذكره ابن الملقن في التوضيح من قول الوليد بن مسلم ليس فيه أبو بكر وضمرة، أشار الحافظ إلى ضعفها فقال: "وقيل إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن مولى أبي بكر، وروى ذلك الوليد بن مسلم منقطعًا" انتهى.
هذا ما جاء في نفس الحديث.
وجاء بلفظ آخر للحديث أخرجه البيهقي في "الشعب" في أن أبا ذر عيّر بلالًا بأمه.
وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق بإسناد ضعيف عن أبي إمامة قال: "عير أبو ذر بلالًا بأمه فقال: يا ابن السوداء، وإن بلالًا أتى رسول الله ﷺ فأخبره، فغضب فجاء أبو ذر ولم يشعر، فأعرض عنه النبي ﷺ فقال: ما أعرضك عني إلا شيء بلغك يا رسول الله، قال: «أنت الذي تعير بلالًا بأمه؟ قال النبي ﷺ: والذي أنزل الكتاب على محمد أو ما شاء الله أن يحلف، ما لأحد عليه فضل إلا بعمل، إن أنتم إلا كطف الصاع)
هذا ما وقفت عليه وكله ضعيف لا يثبت.
كل هذا الذي ذُكر من آثار ضعيفة لا يصح منها شيء في أن المـُعيَّر هو بلال.
والشراح يعتمدون على روايات ضعيفة كثيرًا، بعضهم ينبه على ضعفها وبعضهم لا ينبه، وبعضهم ينبه على البعض ويترك البعض، فتنبهوا لهذا، وهذا تجدونه بكثرة في شروح الأحاديث، يبنون لك صروحًا وشروحًا عظيمة ويقررون أحكامًا على رواية تجدها في النهاية ضعيفة لا تثبت، ولا أصل لها، هذا موجود بكثرة في كلام الشراح، طبعًا يوجد بعض الشراح محققون ويميزون بين الغث والسمين في كلامهم.
في آخر الحديث في آخر هذا الكتاب أنُبّه على ما ذكرته في مسألة عدم وجود العبيد وهذا أفضل؛ لكن طبعًا هذا حكم شرعي -وجود العبيد-؛ لكن معاملتهم معاملة الشرعية هذا الذي نحبه وهو أن يقوم شرع الله سبحانه وتعالى في العبيد وفي غيرهم، والواجب أن نُحب ما يحبه الله سبحانه وتعالى وهو أن يوجد العبيد بالضوابط الشرعية وأن يعاملوا بالطرق الشرعية، ولا يجوز لنا أن نحب ما لا يحبه الله سبحانه وتعالى، وأستغفر الله وأتوب إليه من الكلمة التي ذكرتها، والله أعلم، نكتفي بهذا.