الدرس السابع عشر 24/02/1445ه – 09/09/2023
الحمد لله رب العالمين، أما بعد:
معنا اليوم الدرس السابع عشر من دروس شرح صحيح البخاري، مازلنا في كتاب الإيمان؛ وصلنا عند الحديث السادس والأربعين "بَابٌ: الزَّكَاةُ مِنَ الإِسْلَامِ"
"بَابُ: الزَّكَاةِ مِنَ الإِسْلَامِ
وَقَوْلِهُ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]"
الشيخ: عندَكَ "بابُ" بدون تنوين؟ بالرفع؟
القارئ: يوجد الاثنتين، أخذت بالرفع فقط.
الشيخ: تمام، تفضل
القارئ: قال المؤلف رحمه الله:
"حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَصِيَامُ رَمَضَانَ». قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»"
الشيخ: قال رحمه الله: "بَابٌ" هكذا بالتنوين في النسخة التي بين يديّ وقد أُثبِتَ عليها علامة صح أي أنها هكذا صحيحة ليس فيها خطأ
"بَابٌ: الزَّكَاةُ مِنَ الإِسْلَامِ" أي الزكاة خَصلةٌ من خِصال الإسلام، وشعبة من شُعَبِه، طبعًا الإسلام هنا بمعنى الإيمان والمؤلف عبَّر بالإسلام لأنه هكذا جاء في الحديث.
قال: "وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]"
"﴿وَمَا أُمِرُوا﴾" يعني أهلَ الكتاب من اليهود والنصارى وكل من بُعث إليهم الرسل أُمِروا بهذا
"﴿وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾" يعني إلا أن يعبدوا الله: أي يخضعوا ويتذلّلوا له بالطاعة
"﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾" أي أُمروا بأن يجعلوا عبادتهم خالصةً له وحده لا شاركه فيها أحد، فأُمروا بالتوحيد ونُهوا عن الشرك كقوله تبارك وتعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ولهذا قال: "﴿حُنَفَاءَ﴾" أي مُتحنّفين مائلين عن الشرك إلى التوحيد كقوله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، قال البغوي رحمه الله: (مَائِلِينَ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ).
"﴿و﴾" أُمروا أن "﴿يقيموا الصلاة﴾" وهي أشرف عبادات البدن "﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾" زكاة المال، "﴿وَذَلِكَ﴾" الذي أُمروا به "﴿دِينُ القَيِّمَةِ﴾" أي دين الإسلام، الدين المستقيم
قال ابن كثير رحمه الله: (وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَالزُّهْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ)
قال ابن حجر: (وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى مَا تُرْجِمَ لَهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ دِينُ الْإِسْلَامِ وَالْقَيِّمَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَقَدْ جَاءَ قَامَ بِمَعْنَى اسْتَقَامَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ أَيْ: مُسْتَقِيمَةٌ، وَإِنَّمَا خَصَّ الزَّكَاةَ بِالتَّرْجَمَةِ) يعني البخاري؛ لماذا أتى بالزكاة خاصة أنها من الإيمان؟ قال: (وَإِنَّمَا خَصَّ الزَّكَاةَ بِالتَّرْجَمَةِ) مع أن كل ما ذُكر في الآية هو من الإيمان، قال: (لِأَنَّ بَاقِيَ مَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ قَدْ أَفْرَدَهُ بِتَرَاجِمَ أُخْرَى) انتهى كلامه رحمه الله.
هذا الاستدلال من الإمام البخاري رحمه الله بهذه الآية على أن الأعمال داخلة في الإيمان ليس أول من جاء به كما قال ابن كثير رحمه الله.
وقال مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ: (قَدِمَ عَلَيْنَا سَالِمٌ الْأَفْطَسُ بِالْإِرْجَاءِ فَعَرَضَهُ) يعني عرض عليهم الإرجاء وأراد أن ينشره بينهم، قَالَ: (فَنَفَرَ مِنْهُ أَصْحَابُنَا نَفَارًا شَدِيدًا) هكذا ينبغي أن يكون موقف طلبة العلم عندما تأتي بدعة جديدة؛ النِّفارُ منها والهروب لأن القلوب ضعيفة والشبه خطّافة؛ قال: (وَكَانَ أَشَدَّهُمْ نِفارًا مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ، فَأَمَّا عَبْدُ الْكَرِيمِ فَإِنَّهُ عَاهَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَلَّا يُؤوِيهِ وَإِيَّاهُ سَقْفُ بَيْتٍ إِلَّا الْمَسْجِدَ) أُناسٌ قد علموا خطورة البدعة على دينهم وكانوا أهل تقوى وخشية لله سبحانه وتعالى وحبًّا لدينهم فكانوا يحرصون عليه أشد الحرص ويفرُّون من كل ما يضر به، هذه كانت طريقتهم، فلما رقّ الدين وضَعفَ في قلوب الكثيرين ما الذي حصل؟ نتج منهج التمييع ومجالسة كل من هب ودب حتى انغمس الكثير من الشباب في البدع والضلالات بسبب هذا المنهج الفاسد.
قال: (قَالَ مَعْقِلٌ: فَحَجَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي قَالَ: قَالَ: قُلْتُ إِنَّ لَنَا إِلَيْكَ حَاجَةً) انظر كيف يرفعون المسائل مباشرةً لأهل العلم وإن كانوا نفروا من هذه البدعة لأنهم علموا أنها بدعة، لكنهم أعادوها وردّوها لأهل العلم فعرضوها عليهم، لما ذهب إلى عطاء بن أبي رباح؛ مِن أعلم أهل زمانه في ذاك الوقت وكان في مكة، قال: (قُلْتُ إِنَّ لَنَا إِلَيْكَ حَاجَةً فَأخلِنا) دعنا مع بعض في فراغ، خلينا وحدنا بعيدين عن الناس، يريد أن يكلّمه ببدعة جديدة ما يريد أن يسمعها للناس، قال: (فَفَعَلَ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ قَوْمًا قِبَلَنَا) أي من جهتنا (قَدْ أَحْدَثُوا وَتَكَلَّمُوا) أتوا ببدعة جديدة (وَقَالُوا: إِنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَيْسَتَا مِنَ الدِّينِ) يعني ليستا من الإيمان كما في رواية أخرى لهذا الخبر قال: (ليستا من الإيمان) (قَالَ: فَقَالَ: أَوَلَيْسَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...﴾ -وذكر له بقية الآية- فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ مِنَ الدِّينِ) انتهى.
هذا أعلى ممن ذكرهم ابن كثير رحمه الله، عطاء بن أبي رباح هو تابعي تلميذ ابن عباس رضي الله عنه
قال جعفر بن محمد: (سمعت أبا عبد اللَّه، وسأله رجل خراساني) أبو عبد الله هو أحمد بن حنبل (فقال: إن عندنا قومًا يقولون: الإيمان قول بغير عمل، وقوم يقولون: قول وعمل، فقال: ما يقرؤون من كتاب اللَّه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...﴾ الآية) فاستدلّ عليه بهذه الآية، هذا جَمعٌ من السلف رضي الله عنهم ومن أتباعهم يستدلّون بهذه الآية على أن أعمال الجوارح من الإيمان
"حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ" هو ابن أبي أويس، ابن أخت الإمام مالك، تقدم، وهو ضعيف يصلح في الشواهد والمتابعات على الراجح، البخاري انتقى له انتقاءً، وتقدّم التفصيل.
"قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ" هو ابن مالك بن أبي عامر الأصبحي، إمام دار الهجرة، إمام من أئمة أهل السنة في زمنه رحمه الله
"عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ" هو نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو سهيل المدني، تابعي ثقة، تقدّمَ
"عَنْ أَبِيهِ" هو مالك بن أبي عامر الأصبحي، تابعي تقدّم.
"أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ" هو ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيميّ، أبو محمد، يجتمع مع رسول الله ﷺ في الجد السابع؛ في الأب السابع، مثل أبي بكر رضي الله عنه، كان عند وقعة بدر في تجارة في الشام فضرب له النبي ﷺ بسهمه وأجره، وشهد أُحُدًا وأبلى فيها بلاءً حسنًا ووقى النبيَّ ﷺ بنفسه واتقى النَّبل عنه بيده حتى شُلَّت.
قال قيس بن أبي حازم: (رأيت يد طلحة شَلًّاءَ وَقَى بِهَا النَّبِيَّ ﷺ يوم أحد)
وهو أحد العشرة المبشَّرين بالجنة وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصِّدِّيق، وأحد الستة أصحاب الشورى، متقدم وغالب في كثير من المواقف
قال عمر فيه: (تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ)
وقُتِل طلحةُ رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقيل غير ذلك، قُتِلَ يوم الجمل، كانت وقعة الجمل سنة 36هـ
"يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ" قيل: هذا الرجل هو ضِمام بن ثعلبة وقيل غيره، قال ابن عبد البر: (وَهَذَا الْأَعْرَابِيُّ النَّجْدِيُّ هُوَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ السَّعْدِيُّ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ رَوَى حَدِيثَهُ بن عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ... أَكْمَل مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ هَذَا... وفيه ذِكرُ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ فِيهَا الْحَجُّ لَا شَكَّ فِيهِ)
اعترض الحافظ ابن حجر في الفتح تبعًا لغيره على من جزم بأنه ضِمام بن ثعلبة وردَّ قولهم وفارق بين الحديث هذا الذي معنا وبين حديث ابن عباس وأبي هريرة الذي ذُكر فيه ضمام بن ثعلبة وقال ابن حجر تلك حديث وهذا حديث آخر لأن الواقعة مختلفة، قال ذلك تبعًا للبُلقينيّ شيخه، وقبل ذلك قاله القرطبيّ كما ذكره الحافظ في "الهدي" في "كتاب الإيمان"، لكنه قال في "الهدي" أيضًا -الحافظ ابن حجر- في كتاب الصوم: (حَدِيث طَلْحَة أَن أَعْرَابِيًا جَاءَ تقدم فِي الْإِيمَان أَنه ضمام بن ثَعْلَبَة وَقيل غَيره) كأنه جزم هنا أنه ضمام بن ثعلبة مع أنه اعترض سابقًا.
على كل حال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ" النجد في الأصل: ما ارتفع من الأرض، ضد التِّهامة، تِهامة: ما انخفض من الأرض، ونجد: ما ارتفع من الأرض، هذا الأصل، والتهامة هو الغَور يعني المنخفض، سُمِّيَت به الأرض الواقعة بين تِهامة -أي مكة- وبين العراق؛ سُمّيت هذه الأرض نجد، الآن هي أرض اليمامة وأرض الرياض وما شابه هذه تعتبر من أرض نجد.
"ثَائِرَ الرَّأْسِ" أي منتذر شعر الرأس غير مُرَجَّلِه، يعني غير ممشط شعره
"يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ" الدَّوِيُّ: شدة الصوت وبُعدُه في الهواء فلا يُفهَم منه شيء، كدويّ النحل؛ تسمع صوتًا لكن لا تفهم شيئًا، قال الخطابيّ: (الدَّوِيُّ صَوْتٌ مُرْتَفِعٌ مُتَكَرِّرٌ وَلَا يُفْهَمُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَادَى مِنْ بُعْدٍ)
"حَتَّى دَنَا" إلى أن اقترب، فلما اقترب فهموا عليه ما يقول
"فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ" يسأل عن شرائع الإسلام، ففي رواية إسماعيل بن جعفر عند البخاري: "فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بشَرَائِعَ الإِسْلَامِ" وفيها أن الرجل سأله عن الصلاة والصيام والزكاة فهذا يفسر عن ماذا سأل من الإسلام، سأل عن الإسلام، ما هو الإسلام الذي سأل عنه؟ هي شرائع الإسلام، لذلك أجابه النبي ﷺ ببيان شرائع الإسلام وهي الصلاة والصيام والزكاة.
قال أهل العلم... لماذا سكت النبي ﷺ عن التوحيد؟ لَم يذكر له التوحيد مع أن المعروف في أدلة كثيرة أن النبي ﷺ عندما كان يبدأ دعوته أو يذكرها لأحد يبدأ معه بالتوحيد، قالوا: (سكوتُ النّبيِّ - ﷺ - لهذا الأعرابيّ عن ذِكْرِ التّوحيد؛ لأنّه فهم منه قَبُوله والاعتقاد به حين سأله عن شرائعه) لما جاء سأل عن شرائع الإسلام؛ عن الأعمال عَلِمَ النبي ﷺ أنه كان مسلمًا وأنه يعرف معنى الإسلام وعرف التوحيد فما احتاج إلى أن يذكره له، قالوا: (ولو كان ابتداء التّعليم) لو أراد النبي ﷺ أن يبتدئه بالتعليم (لبَدَأَهُ بالمبادىء والأوائل) يعني في مسائل التوحيد (كما فعل بغيره -ﷺ-)
قال في رواية إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عند البخاري: "أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ؟" يسأل عن فرائض الصلاة خاصة
"فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ»" أي فرض الله عليك خمس صلوات في اليوم والليلة، لاحظ هنا السؤال، ركز عليه جيّدًا لأن فيه رد على من يقول أن هذا فقط في صلوات اليوم والليلة، قال: "أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ؟" ما قال: من الصلاة في اليوم والليلة، لكن أخبره النبي ﷺ أنه فرض عليه خمس صلوات في اليوم والليلة
فقال الرجل: "هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟" هذه الصلوات الخمس، هل يجب علي شيءٌ من جنس الصلاة غير هذه الخمس؟
قال النبي ﷺ له: "«لا»" أي لا يجب عليك غيرها "«إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»" أو "«تَطَّوّع»" بتشديد الطاء أو بتخفيفها روايتان وكلاهما صحيح، ما في إشكال في هذا، يجوز تخفيف الطاء وتشديد الطاء، أي: تتنفّل، والمعنى: إلا أن تفعله بطواعيتك أي: باختيارك ورغبتك من غير أن يوجبه الشرع عليك، فلك أجر إن فعلت ذلك.
قال ابن عبد البر: (وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» نَدْبٌ إِلَى التَّطَوُّعِ كَأَنَّهُ قَالَ مَا عَلَيْكَ فَرْضٌ إِلَّا الْخَمْسَ وَلَكِنْ إِنْ تَطَوَّعَتْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) انتهى.
استدلَّ به أهل العلم على عدم وجوب الوتر، وعدم وجوب تحية المسجد، وعدم وجوب صلاة العيدين، وعدم وجوب أي صلاة من الصلوات إلا هذه الخمس، وهذا هو الصواب.
هذا الحديث واضح، الرجل يسأل عن أيش؟ عمّا افترض الله عليه من الصلاة، سواء كانت يومية، سواء كانت سنوية، إلى آخره... فقال عليه الصلاة والسلام ما عليك واجب إلا هذه الخمس، أمر واضح
قال ابن عبد البر: (وَفِيه أَيْضًا مِنَ الْفِقْهِ) أي هذا الحديث (أَلَّا فَرْضَ مِنَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا خَمْسَ وَفِي ذَلِكَ رَدُّ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ) انتهى
واستَدلَّ به أيضًا من قال إن الشروع في التطوّع يوجب إتمامه تمسّكًا بأن الاستثناء فيه متصل، يعني: لو جئت وأردت أن تصوم صوم نفل وبدأت بالصيام هل يجوز لك أن تقطعه أم يجب عليك أن تُتِمَّه؟ البعض قال يجب إتمامه، لماذا؟ قالوا هنا هل يجب علي؟ قال: «لا إلا أن تطّوّع» سواء كانت صلاة أو صيامًا أو غير ذلك، يعني إذا أردت أن تبدأ بصلاة النافلة هل يجوز لك قطعها؟ يقولون هنا: لا يجوز لأنه قال له: «لا إلا أن تطوع» يعني إلا أن تتنفّل، فإذا تنفّلت فيجب عليك أن تُتِمَّها، هكذا فهموها، هذا بناءً على أيش؟ على أن الاستثناء متصل.
لكن الصحيح أن الاستثناء منقطع كما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، ذاك القول قول المالكية والأحناف، بمعنى: ولكن إن تطوّعتَ فهو خير لك، أو: لكن يُستَحبُّ لك أن تطوع، إذًا صار عندي هنا الاستثناء منقطع.
ظاهر الحديث ما قال به لا هؤلاء ولا هؤلاء، لأنهم قالوا ظاهره إذا أخذناه على ظاهره «لا إلا أن تطوع» معنى ذلك أن تطوعك صار واجبًا فقالوا هذا متناقض لا يصح، إذًا قالوا: نحمله على أنه إذا ابتدأ بالتطوع صار لازمًا له، وهذا خطأ، لماذا؟ لأنه ثبت في السنة أن النبي ﷺ صام نفلًا وقطع الصيام، أفطر لماذا؟ لأنه كان نفلًا، فثبت بذلك أن التطوع حتى لو بدأت به يجوز قطعه، وجاء في أثر عن ابن عباس يبيّن هذا واضحًا، ذَكَرْتُهُ في شرحي على لبّ الأصول وهناك أطلت الكلام في أدلة كلا الطرفين، فلا يجب إتمام شيء من النوافل سوى الحج والعمرة لأننا أُمِرنا بإتمامها، هذا ما تدل عليه مجموع الأدلة في المسألة خلافًا للمالكية والأحناف، القول فصّلته في شرح لب الأصول في أصول الفقه في مبحث الأحكام التكليفية مبحث المستحب خاصة، هناك من أراد المسألة بطولها فليرجع إليها.
خلاصة ما ذكرناه، قال النووي رحمه الله: (قال أصحابنا) الذين هم الشافعية، النووي إذا قال: قال أصحابنا في مسألة فقهية فيعني الشافعية وإذا قال: قال أصحابنا في مسألة عقائدية فيعني المتكلمين، فهو ينسب نفسه للمتكلمين. قال النووي: (قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَوْلُهُ ﷺ: «إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ» اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَمَعْنَاهُ: لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَكَ أَنْ تَطَّوَّعَ وَجَعَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا واستدلوا به على أن مَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ نَفْلٍ أَوْ صَوْمِ نَفْلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِتْمَامُ وَلَا يَجِبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ) انتهى.
ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة هو الصواب إن شاء الله، لكن الذين قالوا: الاستثناء متصل قدّروا: إلا أن تشرع في التطوع فيجب عليك إتمام تطوعك، هذا التقدير عندهم، والتقدير عندنا قد ذكرناه.
وفي حديث إسماعيل بن جعفر عند البخاري، فقال- أي الأعرابي-: "أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ؟" يسأل عن أيش؟ عن الصيام الواجب.
"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَصِيَامُ رَمَضَانَ»" أي: وفرض الله عليك صيام شهر رمضان
"قَالَ الأعرابي: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟" هل يجب علي صيامُ غيرِ شهرِ رمضان؟ "قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»"
قال ابن عبد البر رحمه الله: (وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ لَا فَرْضَ مِنَ الصِّيَامِ إِلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ وَهَذَا أَمْرٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ)
"قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الزَّكَاةَ" أي بيّنَ له في جملة ما بيّن من الفرائض: وجوب الزكاة
"قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟" من جنس الزكاة غي التي فُرِضَت "قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»"
قال ابن عبد البر: (وَفِيهِ أَنَّ الزَّكَاةَ فَرِيضَةٌ وَهُوَ أَمْرٌ أَيْضًا لَا اخْتِلَافَ فِي جُمْلَتِهِ لَكِنْ فِي تَفْصِيلِهِ اخْتِلَافٌ) ليس موضوعنا الآن
وقال ابن حجر: (وقَوْلُهُ: "وَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الزَّكَاةَ" فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ) هي عند البخاري موجودة (أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ قَالَ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ فِي الْقِصَّةِ أَشْيَاءَ أُجْمِلَتْ) يعني يوجد أشياء ما ذُكِرَت، ذُكِرَت مجملة (مِنْهَا بَيَانُ نُصُبِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُفَسَّرْ فِي الرِّوَايَتَيْنِ وَكَذَا أَسْمَاءُ الصَّلَوَاتِ وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِيهِ شُهْرَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَوِ الْقَصْدُ مِنَ الْقِصَّةِ بَيَانُ أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِالْفَرَائِضِ نَاجٍ وَإِنْ لَمْ يفعل النَّوَافِل) انتهى. الظاهر الثاني هو المراد من القصة والله أعلم.
"قال" طلحة "فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ" أي لا أزيد على ما ذَكرتَ ولا أنقص، وفي رواية إسماعيل بن جعفر: "وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا" واضح أنه يريد أن يلتزم بالفرائض ولا يريد أن يفعل النوافل "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»" أي فاز وظفر بالنجاة إن صدق في قوله.
قال ابن رجب: (وَمُرَادُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ شَيْئًا مِنَ التَّطَوُّعِ، لَيْسَ مُرَادُهُ أَلَا يَعْمَلُ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَوَاجِبَاتِهِ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ، لِأَنَّ السَّائِلَ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا عَامِلُهَا الْجَنَّةَ) انتهى.
عن عمل، سأل السائل عن الواجبات وذكر أنه يريد أن يتقيد بكل ما فرضه الله عليه لذلك قال له النبي ﷺ: «أفلح إن صدق»
وقال ابن حجر: (وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ بَعْدُ أَوِ الرَّاوِي اخْتَصَرَهُ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الثَّانِيَ مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَدَخَلَ فِيهِ بَاقِي الْمَفْرُوضَاتِ بَلْ وَالْمَنْدُوبَاتِ) انتهى.
وخالفه غيره في دخول المندوبات في قوله: شرائع الإسلام، الظاهر أن الموضوع كله كان يدور حول الواجبات.
قال ابن عبد البر رحمه الله: (وفيه) أي في حديث طلحة (ذِكرُ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ فِيهَا الْحَجُّ لَا شَكَّ فِيهِ) انتهى.
يعني وإن لم تُذكَر تفصيلًا فهي داخلة فيما أجمل الراوي من الألفاظ.
فالظاهر أنه ذكر له شرائع الإسلام الواجبة فقط فمن أدّى الفرائض فقط دون النوافل مع اجتناب المحارم أفلح
قال ابن عبد البر: (وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ: "وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «ﷺ أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»" فَفِيهِ دَلِيلٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَدَّى فَرَائِضَ اللَّهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ إِذَا اجْتَنَبَ مَحَارِمَهُ لِأَنَّ الْفَلَاحَ مَعْنَاهُ الْبَقَاءُ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّتِي أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا وَفَاكِهَتُهَا لَا مَقْطُوعَةٌ وَلَا مَمْنُوعَةٌ وَعَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةِ وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) يقول ابن عبد البر -الكلام ما زال له-: (كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ الْفَضَائِلِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ شكا رَجُلٌ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِاللَّيْلِ فَقَالَ لَهُ يَا ابْنَ أَخِي لَا تَعْصِ اللَّهَ بِالنَّهَارِ تَسْتَغْنِ عَنِ القيام بالليل) انتهى.
وقال ابن بطال: (هذا الحديث حجة أن الفرائض تُسمى إسلامًا، ودل قوله: «أفلح إن صدق» على أنه إن لم يصدق في التزامها أنه ليس بمفلح، وهذا خلاف قول المرجئة) انتهى.
المرجئة يقولون: يدخل الجنة ويفلح وإن لم يعمل.
قال ابن عبد البر: (وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْإِنْسَانِ بِبَعْضِ مَا فِيهِ مِنْ خِلْقَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَحْمُودَةً فَلَيْسَ بِغَيْبَةٍ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْوَاصِفُ عَيْبَهُ) انتهى.
الحديث متفق عليه وهو من رواية إسماعيل بن أبي أويس ابن أخت الإمام مالك.
قال ابن حجر رحمه الله: (فهو من رواية إسماعيل، عن خاله، عن عمه، عن أبيه، عن حَلِيفه، فهو مسلسل بالأقارب، كما هو مسلسل بالبلد)
أخرج الحديث الشيخان وجمعٌ غيرهما من طريق أبي سهيل، جاء في رواية عند مسلم: «أَفْلَحَ، وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ»، قال ابن عبد البر رحمه الله: (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي إِسْنَادِهِ وَلَا فِي مَتْنِهِ إِلَّا أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) نفس الإسناد طبعًا، إسماعيل بن جعفر تابعَ مالكًا عليه في روايته عن أبي سهيل، قال: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ سَوَاءً وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» أَوْ «دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» وَهَذِهِ لَفْظَةٌ) يعني «وأبيه» (وَهَذِهِ لَفْظَةٌ إِنْ صَحَّتْ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عن الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ وَبِغَيْرِ اللَّهِ)
هنا العلماء عندهم أصلٌ وهو أن بعض المسائل فيها أدلة مُحْكَمَة، هذه الأدلة يتخذونها أصلًا ويبنون عليها حكم المسألة ثم بعد ذلك ما خالفها يردونه إلى هذا المحكم، ينظرون أولًا في الصحة؛ إن صح ينظرون بعد ذلك في طريقة تأويله بحيث يتناسب مع الأدلة المحكمة ولا يخالفها، بهذه الطريقة يبنون دينهم على المحكمات ويجعلونها أصلًا ويردون المتشابهات إليها كمسألتنا هذه التي معنا: عندهم أصلٌ متّفقٌ عليه أنه لا يجوز الحلف بغير الله، أدلته كثيرة، فلما كثرت الأدلة ومع صحتها جعلوها أصلًا محكمًا ردوا إليه هذا المتشابه الذي معنا هنا وهو أن النبي ﷺ حلف بغير الله وقال: «وأبيه» في ظاهر هذا الحديث، فهذا الحديث صار مشكلًا، وهذه الرواية موجودة في صحيح مسلم لكن ابن عبد البر انتقدها فمرة لم يجزم بضعفها فقال: إن صحت فمعناها أنها منسوخة؛ يعني هذا حكم سابق ثم جاء بعد ذلك رَفعُه فنُسخَ ونُهي عنه، ثم قال في موضع آخر: (وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا فِي حُكْمِ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنِ احتج مُحتَجٌّ بحديث يروى عن إسماعيل بْنَ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ) وذكر هذا الحديث نفسه بالرواية التي سبقت (قِيلَ لَهُ هَذِهِ لَفْظَةٌ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ) جزم بأيش؟ بضعفها هنا (مِنْ حَدِيثِ مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ لَمْ يَقُولُوا ذلك فيه) لاحظ هنا الآن يدور حول ماذا؟ حول الشذوذ، أي: هذه اللفظة لفظة: «وأبيه» شاذة، لماذا؟ قال: لأن إسماعيل بن جعفر رواه عن أبي سهيل ومالك رواه عن أبي سهيل وغير مالك رواه عن أبي سهيل، كلهم لا يقول فيه: «وأبيه»، من الذي زادها؟ زادها إسماعيل بن جعفر، إذًا الرواية شاذّة؛ لأنه خالف من هو أوثق منه وأكثر عددًا، حتى وإن قلنا أن مالكًا تفرّد به -إسماعيل ومالك- فمالك أحفظ من إسماعيل، هذا أمر أول، الأمر الثاني أن إسماعيل نفسه قد رواه بغير هذه اللفظة، هذا يؤكد خطأ هذه الرواية، قال ابن عبد البر: (وقد روي عن إسماعيل بْنَ جَعْفَرٍ هَذَا الْحَدِيثُ وَفِيهِ: «أَفْلَحَ وَاللَّهِ إِنْ صَدَقَ» «ودَخَلَ الْجَنَّةَ وَاللَّهِ إِنْ صَدَقَ» وَهَذَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى «وَأَبِيهِ» لِأَنَّهَا لَفْظَةٌ مُنْكِرَةٌ) قلنا لكم هم يستعملون المنكر على المعنى الأعم من حصره على تفرد الضعيف وخالفته للثقة، لا، هم عندهم أعم من هذا، يستعملونه بمعنى الشاذ والمنكر وغير ذلك، كل ما هو خطأ عندهم يقولون هو منكر، هنا هذا المراد (لِأَنَّهَا لَفْظَةٌ مُنْكِرَةٌ تَرُدُّهَا الْآثَارُ الصِّحَاحُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ) الكلام لابن عبد البر (أجمع العلماء عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهَا لِأَحَدٍ) انتهى. مكروهة هنا بمعنى محرّمة، وقد مر معكم هذا في أصول الفقه، يطلقون الكراهة أحيانًا على التحريم، الدليل أنه قال في الأخير: (ولا يجوز الحلف بها لأحد) انتهى.
ولعلّ البخاريّ رحمه الله حذَفَها عمدًا والله أعلم، لَم يذكرها، ذكرَها مسلم في صحيحه.
على كل حال: مَن صحَّحَ هذه الرواية تأوّلها ولا بدّ، لا بدّ من التأويل حتى تتوافق مع الأدلة المحكمة في النهي عن الحلف بغير الله، ومَن ضعّفها -خلاص- الأمر عنده واضح.
فصَّل القول في شذوذها الإمام الألباني رحمه الله في كتابه "الضعيفة" في المجلد العاشر ص755، وهذا الكتاب؛ كتاب "الضعيفة" أعتبرُه من أنفس كتب الشيخ الألباني رحمه الله وأجودها
ومن صحح هذه اللفظة كما ذكرنا لكم قد تأولها، فإما أن يقال بضعفها أو أن يقال بتأويلها، أما أن يؤخذ منها حكمٌ فلا، لماذا؟ لأن الإجماع منعقد على خلاف ذلك والأدلة المحكمة تَرُدُّه، والله أعلم.
"بَابٌ: اتِّبَاعُ الجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَانِ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ المَنْجُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الحَسَنِ، وَمُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» تَابَعَهُ عُثْمَانُ المُؤَذِّنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ"
الشيخ: "بَابٌ: اتِّبَاعُ الجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَانِ" أي: اتباع الجنائز شعبةٌ من شُعب الإيمان، واتباع الجنائز: أي المشي معها.
الجنائز: جمع جِنازة بكسر الجيم وهي أفصح، وجَنازة صحيحة بالفتح، وقيل: بالفتح للميّت وبالكسر للنعش وعليه الميّت، وقيل عكسه، حكاه صاحب "المطالع"، فإن لم يكُن ميّتٌ فهو سريرٌ أو نعشٌ، وهي مشتقةٌ من (جَنَزَهُ) إذا ستره، وفي "النهاية": هي (بِالْكَسْرِ والفَتْح: الْمَيِّتُ بسَريره، وَقِيلَ بالكَسْر السَّرِير، وَبِالْفَتْحِ الْمَيِّتُ) انتهى.
"حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ المَنْجُوفِيُّ" هو أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف السَّدوسيّ، أبو بكر المنجوفيّ البَصريّ، يروي عن أتباع التابعين، صدوق، مات سنة 252هـ، روى له البخاري وأبو داود والنسائي.
"قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ" بنُ عُبَادَةَ بنِ العَلَاءِ بن حسان القَيْسِيُّ، أبو محمد البَصْرِيُّ، يروي عن أتباع التابعين، مُكثِرٌ ومُصنِّفٌ، وَثَّقَهُ جماعة وضَعَّفَهُ آخرون منهم النسائي في "الكبرى" عند الحديث رقم 2896 لأن هذا التضعيف غير مذكور في "تهذيب التهذيب" ولا "تهذيب الكمال" لذلك نَصَصْنا لكم عليه، وأبو حاتم في روايةٍ عنه؛ أظن وأذكر أن هذه الرواية أيضًا غير مذكورة في "تهذيب التهذيب"، وأعدل الأقوال فيه أن يُقال: لا بأس به، هذا ما ذهب إليه الإمام أحمد وابن معين في رواية عنه، مات سنة 205هـ أو 207هـ روى له الجماعة.
"قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ" هو ابنُ أَبِي جَمِيْلَةَ العَبْديّ الهَجَريّ، أَبُو سَهْلٍ البَصْرِيُّ، المعروف بالأَعْرَابِيِّ، ولم يكن أعرابيًّا، من أتباع التابعين، ثقةٌ قدَريٌّ شيعيٌّ، مات سنة 146هـ أو 147هـ، روى له الجماعة.
"عَنِ الحَسَنِ" هو الحسن بن أبي الحسن البصري، الإمام المعروف، وهو مُدَلِّسٌ.
"وَمُحَمَّدٍ" هو محمد بن سيرين الأنصاري، أبو بكر بن أبي عَمرة البصريّ، أخو أنس بن مالك بن سيرين ومَعبَد بن سيرين وحفصة بنت سيرين وكريمة بنت سيرين، مولى أنس بن مالك، وهو من سبي عين التمر الذين أسَرَهُم خالد بن الوليد، تابعيٌّ ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ إمامٌ كبير القدر، مات سنة 110هـ، روى له الجماعة، وهو القائل: (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ) يعني أن الدين لا يؤخَذُ عن كل أحد خاصّةً عن أهل البدع بل يؤخَذ عن أهل السنة
قال ابن عون: (كَانَ مُحَمَّدٌ) يعني ابنَ سيرين (يَرَى أَنَّ أَهْلَ الأَهْوَاءِ أَسْرَعُ النَّاسِ رِدَّةً، وَأَنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ فِيْهِم: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِيْنَ يَخُوْضُوْنَ فِي آيَاتِنَا، فَأَعْرِضْ عَنْهُم حَتَّى يَخُوْضُوا فِي حَدِيْثٍ غَيْرِهِ﴾) أسرع الناس ردّةً؛ من تأمل حالهم وجد هذا فيهم، البدعة تتدرّج بصاحبها حتى توصله إلى الرِّدَّة والخروج عن دين الإسلام
وَعَنْ شُعَيْبِ بنِ الحَبْحَابِ: (قُلْتُ لابْنِ سِيْرِيْنَ: مَا تَرَى فِي السَّمَاعِ مِنْ أَهْلِ الأَهْوَاءِ؟ قَالَ: لَا نَسْمَعُ مِنْهُم وَلَا كَرَامَةً)
قال ابن سيرين: (لَقَدْ أَتَى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ وَمَا يُسْأَلُ عَنْ إِسْنَادِ الحَدِيْثِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ، قلنا سَمُّوا لَنَا رِجَالكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ البِدَعِ فَيُترَكُ حَدِيثهُمْ)
وعن ابن عون: (سمع ابن سيرين يَنْهَى عَنِ الجِدَالِ، إِلَاّ رَجَاءَ إِنْ كَلَّمْتَهُ أَنْ يَرْجِعَ) أصول سلفية واحدة
قال يونس: (كَانَ ابْنُ سِيْرِيْنَ صَاحِبَ ضَحِكٍ وَمُزَاحٍ)
وكان عالمـًا بتعبير الرؤيا، أما الكتاب الذي يُنسَب إليه في ذلك فلا يصح عنه؛ ليس لابن سيرين، يذكر البعض أنه لأحد معبّري الرؤى لكنه ليس لابن سيرين.
وفي ترجمته في "سير أعلام النبلاء" الكثير من الفوائد، اقرؤوها فهذا أحد أئمة السنة.
في الحديث الذي معنا: يرويه ابن سيرين والحسن البصري عن أبي هريرة، قال ابن حجر: (فالحسن وابن سيرين حَدَّثَا به عَوْفًا) عوف الأعرابي سمعه من الاثنين (عن أبي هُريرة إما مُجتمعَين وإما متفرّقَين، فأما ابن سيرين فسماعه من أبي هريرة صحيح، وأما الحسن فمختلَفٌ في سماعه منه، والأكثر عَلى نفيه، وتوهيمِ مَن أثبتَهُ) يعني من أثبت أن الحسن سمع من أبي هريرة قالوا: هذا واهم، خطأ، لم يسمع الحسن من أبي هريرة، وهو كثير الإرسال ومدلِّس أيضًا، قال ابن حجر: (وهو مع ذلِكَ كثير الإرسال فلا تُحمَل عنعنته عَلى السماع، وإنما أورده المصنف كما سَمِع) تقول: أليس من شرط البخاري أن يُخرِجَ الأحاديث المتصلة؛ لماذا أخرج هذه الرواية وهي منقطعة بين الحسن البصري وأبي هريرة؟ يقول لك: هو سمعه هكذا من عوف الأعرابي وليس هو أصلًا عنده، هو ما اعتمد على رواية الحسن عن أبي هريرة، هو يريد رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة لكنه سمعه هكذا فتركه كما هو، قال: (وقد وقع له نظير هذا في قصة موسى، فإنه أخرج فيها حديثًا من طريق رَوْح بن عُبَادة بهذا الإسناد، وأخرج أيضًا في بدء الخلق من طريق عَوْف عنهما، عن أبي هريرة حديثًا آخر، واعتماده في كل ذَلِكَ عَلى مُحَمَّد بن سيرين، والله أعلم) انتهى كلامه.
"عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ" رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنِ اتَّبَعَ»" يعني مشى مع الجنازة.
مما درستم في الفقه أن العلماء مختلفون في المشي مع الجِنازة؛ يمشي أمامها، يمشي خلفها، يمشي من يمينها، هذا فيه نزاع بين أهل العلم.
قال ابن حجر: (مَنِ «اتَّبَعَ» هُوَ بِالتَّشْدِيدِ وَلِلْأَصِيلِيِّ «تَبِعَ») هما روايتان: اتّبع أو تَبِع (بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا اللَّفْظِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يُقَالُ تَبِعَهُ إِذَا مَشَى خَلْفَهُ أَوْ إِذَا مَرَّ بِهِ فَمَشَى مَعَهُ وَكَذَلِكَ اتَّبَعَهُ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ افْتَعَلَ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ وَقَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ الْحَدِيثُ الآخر الْمُصَحح عِنْد ابن حبَان وَغَيره من حَدِيث ابن عُمَرَ فِي الْمَشْيِ أَمَامَهَا، وَأَمَّا أَتْبَعَهُ بِالْإِسْكَانِ فَهُوَ بِمَعْنَى لَحِقَهُ إِذَا كَانَ سَبَقَهُ وَلَمْ تَأْتِ بِهِ الرِّوَايَةُ هُنَا) يعني لو كانوا يريدون أن يستدلوا، أو ما هو حقيقةً دليل لهم على أن اتباعها بالمشي خلفها أفضل يصحّ أن يستدلّوا بهذا اللفظ "أَتْبَعَهُ"؛ هذه التي تأتي بأنه مشى خلفها، لكن هذه لم تأتِ بها الرواية، فلا دليل لهم على ذلك.
"«جَنَازَةَ مُسْلِمٍ»": الكلام عن اتّباع جنازة المسلم خاصّة؛ لا الكافر، قَيَّدَه هنا بالمسلم
"«إِيمَانًا»" فَعَلَ ذلك إيمانًا بما عند الله سبحانه وتعالى من الأجر والثواب، أو إيمانًا بما جاء به الشرع من الحثِّ على اتّباع الجنائز
"«وَاحْتِسَابًا»" يعني يريد الأجر، من وراء هذا الاتّباع يريد الأجر من الله تبارك وتعالى، لا رياء ولا مصانَعةً للناس ومجاملةً لهم
"«وَكَانَ مَعَهُ»" أي مع المسلم الميّت، وفي رواية: «وكان معها» أي: مع الجنازة
"«حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ»" قيراطين: مثنى قيراط، الواحد قيراط، الاثنان قيراطان، وهو اسمٌ لمقدارٍ من الثواب؛ قدر من الثواب يقع على القليل والكثير، بيّنه بقوله: "«كُلُّ قِيرَاطٍ»" وزنه في الميزان عند الله تبارك وتعالى "«مِثْلُ جبل أُحُدٍ»" أحد: جبل معروف بالمدينة، أي أنه يرجع بحصّتين من جنس الأجر وليس حصة واحدة.
قال النووي: (فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمَجْمُوعَ بِالصَّلَاةِ) هذي واحدة (وَالِاتِّبَاعِ) اثنتان (وَحُضُورِ الدَّفْنِ) ثلاثة (قِيرَاطَانِ) يعني متى يحصل على القيراطين؟ بهذه الثلاثة، الصلاة واتباع الجنازة وحضور الدفن إلى أن ينتهوا من الدفن.
وقال: (فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ مَعَ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْدَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْأَعْلَى حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِيرَاطَ الثَّانِي لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ دَامَ مَعَهَا مِنْ حِينِ صَلَّى إِلَى أَنْ فَرَغَ دَفنُها) يعني لا بد أن ينتظر حتى ينتهوا من الدفن وليس فقط بوضع اللبن كما قال بعضهم، لا غير صحيح، لا بد من الانتهاء من الدفن وهكذا الرواية تدل عليه.
قال: "«وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ»" من الأجر فيحصل على القيراطين بمجموع الثلاثة، ويحصل على قيراط واحد بالصلاة، لكن هنا مسألة بالنسبة للقيراط: هل يحصل على القيراط بالصلاة وحدها أم بالصلاة مع اتباعها من مكانها إلى أن يصلي عليها؟ مثلًا: خرجوا بها من بيتها؛ من بيت أهلها، إلى المسجد ليصلّوا عليها ثم بعد ذلك يذهبوا بها إلى الدفن، هل إذا ذهب إلى المسجد مباشرةً وصلى عليها يحصل على القيراط أم لا يحصل عليه إلا أن يذهب إلى البيت ويتبعها إلى المسجد ثم يصلي عليها؟ بأمرين أم بأمر واحد؟ هذا محل خلاف بين العلماء، اختلف العلماء في هذا:
فمن قال بالصلاة خاصة احتج بالأحاديث التي فيها ذِكر الصلاة فقط كقوله ﷺ: «من صلى على جنازة فله قيراط» هذه حجتهم، قالوا: فقط مجرد الصلاة خلاص أينما كانت إذا ذهب وصلى عليها فقط حصل على الأجر.
ومن قال يحصل على القيراط من حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة وليس للصلاة وحدها، احتجَّ بأحاديث مقيِّدة كرواية خبّاب عند مسلم: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا» هكذا الرواية، وفي رواية أحمد في حديث أبي سعيد: "«فَمَشَى مَعَهَا مِنْ أَهْلِهَا» هذه الأحاديث تقتضي أن القيراط خاص بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة، هذه المسألة محلّها في كتاب الجنائز، نتركها إلى هناك
"تَابَعَهُ" أي تابع عثمانُ رَوحًا في الرواية عن عوف.
"عُثْمَانُ المـُؤَذِّنُ" فهو عثمان بن الهيثم بن جهم بن عيسى بن حسّان بن المنذر، وهو الأشَجُّ العصريّ العَبديّ، أبو عمرو البَصري، مؤذن المسجد الجامع بالبصرة، صدوقٌ، كان بأَخَرَة يُلَقَّن، توفي قريبًا من سنة 220هـ روى له البخاري والنسائي في اليوم والليلة.
"قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ"
قال ابن حجر: (وَعُثْمَان هُوَ ابن الْهَيْثَمِ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ فَإِنْ كَانَ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ أَعْلَى بِدَرَجَةٍ لَكِنَّهُ ذَكَرَ الْمَوْصُولَ عَنْ رَوْحٍ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ إِتْقَانًا مِنْهُ وَنَبَّهَ بِرِوَايَةِ عُثْمَانَ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي هَذَا السَّنَدِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَقَطْ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْحَسَنَ فَكَأَنَّ عَوْفًا كَانَ رُبَّمَا ذَكَرَهُ وَرُبَّمَا حَذَفَهُ وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ الْمَنْجُوفِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ مَرَّةً بِإِسْقَاطِ الْحَسَنِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِهِ وَمُتَابَعَةُ عُثْمَانَ هَذِهِ وَصَلَهَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ) وذَكر إسنادها هناك، الحافظ ابن حجر ذَكر الإسناد، قال: (وَلَفْظُهُ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ رَوْحٍ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: «وَكَانَ مَعَهَا» فَإِنَّهُ قَالَ بَدَلَهَا فَلَزِمَهَا وَفِي قَوْلِهِ: «وَيُفْرَغُ مِنْ دَفْنِهَا» فَإِنَّهُ قَالَ بَدَلَهَا: «وَتُدْفَنُ» وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «فَلَهُ قِيرَاطٌ» بَدَلَ قَوْلِهِ: «فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» وَالْبَاقِي سَوَاءٌ وَلِهَذَا الِاخْتِلَافِ فِي اللَّفْظِ قَالَ الْمُصَنِّفُ نَحْوَهُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: بِمَعْنَاهُ) انتهى.
عندما تختلف الألفاظ وتتوافق المعاني يقولون (ونحوَه) أما إذا اتفق لفظًا ومعنىً فيقولون (مثلَه).
قال ابن بطّال: (وهذا الباب أيضًا حجة لأهل السُّنة أن الأعمال إيمان، لأنه ﷺ جعل اتباع الجنازة إيمانًا بقوله: «من تبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا») انتهى كلامه رحمه الله.
الحديث صحيح، لا إشكال فيه بحمد الله، وهو مُتّفق عليه، أخرجاه من طُرُقٍ عن أبي هريرة وأخرجا له شواهدَ أيضًا.
"بَابُ خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: «مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا»"
الشيخ: مُكَذِّبًا ومُكَذَّبًا هما نسختان سيأتي الكلام عليها إن شاء الله
القارئ: "وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: (أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ) وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: (مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ) وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ المـُرْجِئَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»"
الشيخ: "بَابُ خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ"
مازال البخاري رحمه الله يردّ على المرجئة، كتابه مليء -هذا- بالرد على المرجئة، لأن المرجئة خطرهم عظيم جدًّا عند السلف رحمهم الله وقد ذكَرْنا أثرًا في ذلك ويوجد أكثر من أثر ذكرها ابن تيمية رحمه الله في كتاب "الإيمان" عن السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يعُدّون بدعة الإرجاء أخطر من بدعة الأزارقة الخوارج لأنها تؤدي إلى إبطال العمل.
هنا مازال المؤلف رحمه الله يَردّ أيضًا على المرجئة.
حَبِطَ بالكسر: بَطَلَ، "يَحْبَطَ عَمَلُهُ" أي يبطُلُ عمله، وهو الثواب الموعود به، يحبط عمله بالرياء وغير الرياء.
وأنتم لا تشعرون: أي لا تدرون ولا تعلمون.
قال ابن رجب: (مرادُ البخاريِّ بهذا البابِ: الردُّ على المرجئةِ، القائلين بأنَّ المؤمنَ يقطعُ لنفسهِ بكمالِ الإيمان) يجزم بهذا (وأنَّ إيمانَهُ كإيمانِ جبريلَ وميكائيلَ، وأنَّه لا يخافُ على نفسِهِ النفاقَ العمليَّ ما دام مؤمنًا) انتهى.
المرجئة يقولون أنه لا يضر مع الإيمان ذنب، هذا كله يردُّون عليهم فيه.
هنا مسألة من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم: في هذا الموضع ابن رجب رحمه الله تكلم عنه ونَصَرَ قولًا، وكأن شيخه ابن القيم رحمه الله يذهب إلى ما ذهب إليه، أما ابن تيمية رحمه الله يخالفهما في ذلك.
المسألة هي: لا شك أن الكُفر يحبط العمل؛ يبطله ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ منتهٍ هذا ليس محل الخلاف، الخلاف أين؟ هل هناك ذنبٌ وسيئةٌ تُبطِل الأعمالَ كما يبطلها الكفر؟ هنا محل الخلاف، ابن رجب رحمه الله نصر القول الذي يقول بأنه توجد بعض الذنوب تبطل الأعمال واستدل بأدلة:
منها الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ الآية، إلى أن قال في آخرها: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ فهذا عمَلُ ذنب أحبط الأعمال.
كذلك قول النبي ﷺ: «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ»
استدل بهذه الأدلة ابن رجب رحمه الله وغيرها أيضًا، وذَكَرَ آثارًا عن السلف رضي الله عنهم في هذا الأمر وأنه يوجد ذنوب تُبطِل الأعمال.
لكن هذا القول أليس هو قول الخوارج والمعتزلة؟ يقولون أن الكبيرة تُبطِل العمل؟
ذكر هذا ابن رجب وقال لا تقل لي هذا لأن الرد على ذلك أن الخوارج والمعتزلة -الفرق بين الذين يقولون بهذا القول وقول الخوارج والمعتزلة- يُبطِلون العمل لأنه يكفر عندهم، فهم يكفّرونه ويبطلون أعماله، وليس فقط مجرد إبطال عمل، أما نحن -يعني هم الذين يقولون بهذا القول- يقولون تبطل الأعمال لكنه لا يكفر، هذا الفرق بين قولهم وبين قول الخوارج والمعتزلة.
ابن تيمية رحمه الله ووافقه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله على هذا القول وغيرهم طبعًا وابن تيمية ينسب القول إلى أكثر أهل السنة أنه لا يوجد عمل يبطل الأعمال إلا الكفر فقط.
كلام ابن رجب رحمه الله تجدونه في شرحه "فتح الباري" عند شرح هذا الحديث تكلَّم عن هذه المسألة.
ابن تيمية رحمه الله كلامه موجود في "مجموع الفتاوى" في المجلد السابع صفحة 493، وفي المجلد العاشر صفحة 321، قال ابن تيمية رحمه الله: (إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرَ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةَ) هذا كلام ابن تيمية رحمه الله، وقال في المجلد العاشر: (وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَعَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيُشْفَعُ فِيهِمْ وَأَنَّ الْكَبِيرَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُحْبَطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرُ كَمَا لَا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ) إلى آخر ما قال رحمه الله، وإذا أردتم المزيد ترجعون إلى هذين الموضعين وتقرؤون كلام هؤلاء الأئمة في هذه المسألة، والمسألة ستأتي في موضعها إن شاء الله بِتَوَسُّعٍ أكثر من هذا.
المهم في الموضوع أن الأعمال تؤثر في الإيمان؛ تُنقِص الإيمان، وأن الأعمال تضر في الإيمان خلافًا لقول المرجئة، وهذا الذي أراده الإمام البخاري رحمه الله حاصلٌ سواء على هذا القول أم على هذا القول.
"وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ" هو إِبْرَاهِيم بْن يزيد بْن شَرِيك التَّيمِيّ، أَبو أسماء الكُوفيٌّ، كان من العُبّاد، ثقة عابد مرجئ، مرجئٌ والبخاري يذكر كلامًا له في الرد على المرجئة؟! نعم، هذا أقوى في الدلالة أصلًا، مرجئٌ ومُدلِّسٌ، قيل: مات سنة 93هـ أو بعدها، روى له الجماعة.
"مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا" أو "مُكَذَّبًا" نسختان.
أخرجه البخاري موصولًا في "تاريخه الكبير" قال: (قَالَ لنا أَبو نُعَيم: عَنْ سُفْيان، عَنْ أَبِي حَيّان، عَنْ إِبْرَاهِيم التَّيمِيّ، قَالَ: ما عرضتُ قولي على عملي، إلا خشيتُ أن أكون مُكذبًا)
قال ابن رجب: (وخرجه جعفر الفريابي بإسناد صحيح عنه) انتهى كلامه رحمه الله.
فالأثر صحيح عن إبراهيم، وهذا التخريج يعني أنه في "صفة المنافق"، يوجد كتاب لجعفر الفريابي اسمه "صفة المنافق" وهو مطبوع.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" وأحمد في "الزهد" وابن أبي الدنيا في "ذم الكذب" وفي "الصمت" هما كتابان لابن أبي الدنيا، وغيرهم، كلهم عن سفيان به، وإسناده صحيح كما قال ابن رجب رحمه الله.
والمعنى أنه إذا تكلّم عن الإسلام والواجبات والمحرّمات أحسن في ذلك ولكنه عند الفعل يخشى أن يخالف فعلُه قولَه، فيكون فعله مكذِّبًا لقوله على رواية "مكذِّبًا" بكسر الذال يكون فعله مكذِّبًا لقوله، أو من يراه يُكَذِّبه لأن فعله مخالف لقوله على رواية "مكذَّبًا" يكذبه من يراه بفتح الذال.
قال ابن رجب: (ومعناه: أن المؤمن يصف الإيمان بقوله) يعني إذا قلت له أخبرني بالإيمان ما هو؟ يقول لك: الإيمان كذا وكذا (وعمله يَقصُرُ عن وصفه، فيخشى على نفسه أن يكون عملُه مكذبًا لقولِه، كما روي عن حذيفة أنه قال: المنافق: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به) انتهى.
لهذا ذكره -أي الإمام البخاري رحمه الله- هنا، لأنه كان يخشى على نفسه من هذا النفاق، صورَتُه صورةُ نفاقٍ: يفعل ما لا يقول.
قال النووي رحمه الله: (معناه أن الله ذم من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصر في العمل فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) فخَشِيَ أن يكون مكذباً إذ لم يبلغ غاية العمل هذا على المختار في ضبط مكذِّباً بكسر الذال، وقد ضُبط بفتحها ومعناه خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفاً لقولي ويقول لو كنت صادقاً ما فعلت هذا الفعل) انتهى.
"وقال ابن أبي مُليكة" هو عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مليكة التيمي المكي، كان قاضيًا لعبد الله بن الزبير، ومؤذنًا له في أوقات الصلاة، تابعي أدرك ثلاثين من الصحابة، قال الذهبي: شيخ الحرم، وكان إمامًا، فقيهًا، حجة، فصيحًا مفوهًا، متفقًا على ثقته، مات سنة 117 روى له الجماعة.
قال: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ" وقد ذُكر غالبهم في تهذيب الكمال، فمن أراد أن يعرفهم يرجع إلى تهذيب الكمال "كلهم يخاف النفاق على نفسه" يعني النفاق العملي.
قال ابن رجب: (وقال الجعد أبو عثمان: قلت لأبي رجاء العطاردي: هل أدركت من أدركت من أصحاب النبي ﷺ يخشون النفاق قال: نعم، إني أدركت بحمد الله منهم صدرًا حسنًا) جماعة جيد عددهم (نعم شديدًا نعم شديدًا، وكان قد أدرك عمر، وممن كان يتعوذ من النفاق ويتخوفه من الصحابة: حذيفة، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري، وأما التابعون: فكثير) الكلام مازال لابن رجب، وقال: (قال زيد بن الزرقاء، عن سفيان الثوري: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث: نقول الإيمان قول وعمل، وهو يقولون: الإيمان قول ولا عمل، ونقول: الإيمان يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق، وقال أبو إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي: قد خاف عمر على نفسه النفاق قال: فقلت للأوزاعي: إنهم يقولون: إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقًا حين سأل حذيفة؛ لكن خاف أن يبتلى بذلك قبل أن يموت، قال: هذا قول أهل البدع)
لأنهم حملوا الخوف على النفاق الأكبر، خاف أن يموت منافقًا نفاقًا أكبر لا نفاقًا أصغر، لأنهم لا يقولون بالنفاق الأصغر، يريدون أن يفروا منه.
(وقال الإمام أحمد -في رواية هانئ- وسئل: ما يقول فيمن لا يخاف النفاق على نفسه؟ فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟" وأصل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره من أن النفاق أصغر وأكبر؛ فالنفاق الأصغر: هو نفاق العمل وهو الذي خافه هؤلاء على أنفسهم؛ وهو باب النفاق الأكبر) أي الذي يوصل إلى النفاق الأكبر (فيُخشى على من غلب عليه خصال النفاق الأصغر في حياته أن يخرجه ذلك إلى النفاق الأكبر حتى ينسلخ من الإيمان بالكلية، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5] وقال: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة [الأنعام: 110]) انتهى.
قال ابن حجر: (وقد جزم) أي ابن أبي مليكة (بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ النِّفَاقَ فِي الْأَعْمَالِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَعْرِضُ عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ مَا يَشُوبُهُ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِخْلَاصَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ مِنْهُمْ فِي الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) انتهى.
صحابة رسول الله ﷺ والسلف والأئمة المعروفون بالإمامة في الدين.
قال: "ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل، وميكائيل" هذا قول المرجئة، ليس قول الصحابة رضي الله عنهم، أي: لا يقول أحد منهم بأن إيمانه كإيمان جبريل، وميكائيل، وأنه لا يزيد وينقص كما تقول المرجئة، فالمرجئة عندهم الإيمان كله شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص، فإيمان أفسق الفاسقين كإيمان جبريل وميكائيل عندهم، لأنه شيء واحد، الناس ما تتفاضل فيه، وعلى هذا لا يجتمع في المسلم إيمان ونفاق، والصحابة يعتقدون أن الإيمان يزيد وينقص، ويدخله النفاق العملي، لذلك يخافونه على أنفسهم، وهذا الفرق.
قال ابن رجب: (والأثر الذي ذكره البخاري عن ابن أبي مُليكة: هو معروف عنه من رواية الصلت بن دينار عنه، وفي الصلت ضعف، وفي بعض الروايات: عنه، عن ابن أبي مليكة قال: أدركت زيادة على خمسمائة من أصحاب رسول الله ﷺ ما مات أحد منهم إلا وهو يخاف النفاق على نفسه) انتهى.
كأن ابن رجب ما وقف على رواية ابن جريج، فما وقف إلا على رواية الصلت، هما طريقان عن ابن أبي مليكة، هذه التي ذكرها هي رواية الصلت، والرواية التي ذكرها البخاري هي رواية ابن جريج، أخرجها البخاري في "تاريخه"، والأثر أخرجه الخلال في "السنة"، ومحمد بن نصر في "الإيمان"، والطبري في "تهذيب الآثار" وغيرهم... انظروهم في "تغليق التعليق"، وفي "فتح الباري" من طريقين: من طريق الصلت، وابن جريج.
"ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن" "ما خافه" الضمير يعود إلى من؟ يعود إلى النفاق، الضمير يعود إلى النفاق، ما خاف النفاق إلا مؤمن، هكذا جاء واضحًا وصريحًا في روايات هذا الأثر، بعضهم قال: "ما خاف الله" هذا خطأ.
"ما خاف النفاق" الروايات واضحة بهذا لمن راجع طرق هذا الأثر، الأمر واضح كما سيأتي "إلا مؤمن" فخوفه منه دليل على إيمانه "ولا أمنه إلا منافق" المؤمن يعلم خطر النفاق على إيمانه، وأنه يضر، فيخاف لخوفه على إيمانه، ويعلم أن النفاق العملي يدخل على المؤمن، بينما المرجئ لا، المنافق هنا لا يخاف على إيمانه، ولا يبالي به، ما في عمل، ما في إشكال عنده، المرجئة لا يقولون بهذا الذي ذُكر، فلذلك قول الحسن هذا مخالف لما عليه المرجئة.
أخرجه الإمام أحمد في "الإيمان"، ومن طريقه الخلال في "السنة"، ومحمد بن نصر في "الإيمان"، وجعفر الفريابي في "صفة النفاق"، وابن بطة في "الإبانة"، والبيهقي في "الشعب"، وغيرهم من طرق عنه، ولفظه عند بعضهم: "والله ما مضى مؤمن ولا تقي إلا يخاف النفاق، وما أمنه إلا منافق" وهو صحيح، لا يخاف أيش؟ النفاق، واضح وصريح.
قال ابن رجب: (هذا مشهور عن الحسن، صحيح عنه).
قال الحافظ -في سبب ذكر البخاري له بصيغة التمريض- أيش قال البخاري؟ "ويُذكر عن الحسن" لكن إسناده صحيح، ومن طرق وارد عن الحسن البصري. إذن البخاري يذكر بصيغة التمريض روايات صحيحة، ما السبب؟ البعض في كتب المصطلح مر معكم أنه إذا ذُكر بصيغة التمريض، معنى ذلك أنه يشير إلى ضعفه، وهذا غير صحيح.
هذا صحيح وصحته واضحة جدًا، إذًا لماذا ذكره بصيغة التمريض؟
قال ابن حجر حمه الله: (هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ صِفَةِ الْمُنَافِقِ لَهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ تَرْكُ الْبُخَارِيِّ الْجَزْمَ بِهِ مَعَ صِحَّتِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى قَاعِدَةٍ ذَكَرَهَا لِي شَيْخُنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهِيَ: أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يَخُصُّ صِيغَةَ التَّمْرِيضِ بِضَعْفِ الْإِسْنَادِ؛ بَلْ إِذَا ذَكَرَ الْمَتْنَ بِالْمَعْنَى أَوِ اخْتَصَرَهُ أَتَى بِهَا أَيْضًا) يعني الذي يذكره الآن: يذكر الأثر بصيغة التمريض، إما لضعفه، أو لأنه اختصره، أو لأنه ذكره بالمعنى، هذه القاعدة التي ذكرها.
قال: (لما علم من الخلاف في ذلك) الخلاف في أيش؟ الخلاف في جواز رواية الحديث مختصرًا دون إتمامه، والخلاف في رواية الحديث بالمعنى أيضًا.
فلذلك لما حصل من هذا الخلاف يذكره بصيغة التمريض، قال: (فهنا كذلك) انتهى. والله أعلم على كل حال ما يذكره البخاري رحمه الله بصيغة التمريض، أو بصيغة الجزم لا يجزم لا بصحته، ولا بضعفه حتى يُرجع إلى أصله، وينظر فيه.
قال: "وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ" إلى آخر ما قال، هذا عطف على قوله: "خوف المؤمن" التقدير: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله، والتحذيرِ من الإصرار على النفاق، كان هذا التقدير.
"من الإصرار على النفاق" هكذا في الرواية، هذه في بعض الروايات، وفي نسخ أخرى: "والتحذير من الإصرار على التقاتل" نعم، هكذا في الروايات سواء هنا ولا هنا.
قال ابن حجر: (كذا في أكثر الروايات) في أكثر الروايات عند ابن حجر "التقاتل" يتكلم ابن حجر عن هذه اللفظة، الآن في النسخة التي عند البخاري جاءت "من الإصرار على التقاتل" قال: (كذا في أكثر الروايات وهو المناسب لحديث الباب، وفي بعضها: "على النفاق" ومعناه صحيح، وإن لم تثبت به الرواية) انتهى.
الآن عند ابن حجر رحمه الله الرواية ما ثبتت بلفظ "النفاق"، ثبتت بلفظ "التقاتل"
قال القسطلاني: (وفي رواية أبوي ذر والوقت) يعني في رواية أبي ذر، ورواية أبي الوقت، يجمعون أحيانًا أبوي، يقولون: أبوي ذر والوقت يعني في رواية أبي ذر وفي رواية أبي الوقت ("على النفاق" بدل "التقاتل" والأُولى) أي "على التقاتل"، كان يتكلم عنها في البداية (هي المناسِبة لحديث الباب، حيث قال فيه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى-: «وقتاله كفر»، وهي رواية أبي ذر، والأصيلي، وابن عساكر، ومعنى الثانية كما في "الفتح" صحيح، وإن لم تثبت به الرواية) يعني هذا الكلام الذي قاله الحافظ (انتهى) يعني كلام الحافظ، الكلام الآن للقسطلاني (نعم، ثبتت به الرواية، عن أبي ذر ونسخة السميساطي، كما رُقم له بفرع اليونينية كما ترى) انتهى.
إذًا الرواية ثابتة، وليس كما قال الحافظ بأنها ليست بثابتة بالنفاق والتقاتل، "التقاتل" أَولى؛ لأنها المناسِبة للحديث الذي ذُكر، لكن أيضًا "ما يحذر من الإصرار على النفاق" أيضًا المعنى صحيح، وموافق.
معنى الإصرار على الذنب: الإصرار: قال الحسن البصري: "إتيان العبد ذنبًا، إصرار حتى يتوب" هذا معنا الإصرار "إتيان العبد ذنبًا، إصرار حتى يتوب" لو فعله مرة واحدة؟ نعم، لو فعله مرة واحدة، هو مصر إلى أن يتوب، إذا تاب انتهى، انقطع،
قال الطبري: "الإقامة على الذنب عامدًا، أو ترك التوبة منه" هكذا جاءت في النسخ في المخطوط، لكن يقول بعض المحققين: بأن "أو" هنا خطأ، والصواب: "و" أي: "الإقامة على الذنب عامدًا، وترك التوبة منه" يعني لا بد قيد ترك التوبة منه، إذا ما تاب من الذنب فهو مصر عليه، إذا تاب انقطع الإصرار.
قال ابن رجب رحمه الله: (فمراده) أي البخاري (أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة يخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية وبالوصول إلى النفاق الخالص وإلى سوء الخاتمة، نعوذ بالله من ذلك، كما يقال: إن المعاصي بريد الكفر)
قال الشراح: (وَمُرَادُهُ أَيْضًا الرَّدُّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ حَيْثُ قَالُوا لَا حَذَرَ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ حُصُولِ الْإِيمَانَ وَمَفْهُومُ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ مَنِ اسْتَغْفَرَ لِذَنْبِهِ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَمَفْهُومُهُ ذَمُّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)
"﴿ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون﴾" قال ابن كثير رحمه الله: (أَيْ: تَابُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَرَجَعُوا إِلَى اللَّهِ عَنْ قَرِيبٍ، وَلَمْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَيُصِرُّوا عَلَيْهَا غَيْرَ مقْلِعِين عَنْهَا، وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُمُ الذَّنْبُ تَابُوا عَنْهُ، ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أَنَّ مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾) انتهى الكلام.
"وحدثنا محمد بن عرعرة" ابن البِرِنْد السامي البصري، يروي عن أتباع التابعين، ثقة، مات سنة 213 روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود.
"قال: حدثنا شعبة" هو ابن الحجاج أبو بِسطام الإمام رحمه الله، تقدم.
"عن زُبيد" ابن الحارث، هو ابن الحارث بن عبد الكريم، اليامي، أبو عبد الرحمن الكوفي من أتباع التابعين ثقة، ثبت فقيه عابد، وكان يميل إلى التشيع، مات سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وعشرين ومائة، روى له الجماعة.
"قال سألت أبا وائل" هو شقيق بن سلمة الأسَدي، أبو وائل الكوفي أدرك النبي ﷺ ولم يره، تابعي مخضرم، جليل، ثقة، حجة، عابد، عالم مات بعد الجماجم، يعني معركة دير الجماجم، هذه التي دارت بين الحجاج بن يوسف وابن الأشعث سنة 82 أو بعد ذلك، روى له الجماعة.
قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أنه ثقة حجة".
وقال الأعمش: "قال لي إبراهيم النخعي عليك بشقيق؛ فإني أدركت الناس وهم متوافرون، وإنهم ليعدونه من خيارهم".
وروى مغيرة عن إبراهيم -وذُكر عنده أبو وائل- فقال: "إني لأحسبه ممن يُدفع عنا به"
وعنه قال: "أما إنه خير مني"
قال عاصم بن بهدلة: "قيل لأبي وائل أيهما أحب إليك علي أو عثمان؟ قال: كان علي أحب إلي من عثمان، ثم صار عثمان أحب إلي من علي"
سأله "عن المرجئة" أي: سألته عن مقالة المرجئة، المرجئة أيش تقول؟ العمل ليس من الإيمان.
قال ابن حجر: (وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ: لَمَّا ظَهَرَتِ الْمُرْجِئَةُ أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ سُؤَالَهُ كَانَ عَنْ مُعْتَقَدِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ ظُهُورِهِمْ، وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي وَائِلٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَقِيلَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِدْعَةَ الْإِرْجَاءِ قَدِيمَةٌ) انتهى.
طبعًا قال قتادة -بالنسبة لبدعة الإرجاء وقِدمها- قال قتادة: "إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث" يعني معركة الجماجم.
"فقال: حدثني عبد الله" ابن مسعود، تقدم.
"أن النبي ﷺ قال: «سباب المسلم فسوق»" سباب بمعنى السب، والسب في اللغة: هو الشتم والتكلم في عرض الإنسان بما يَعيبه، قال ابن منده: قال إبراهيم الحربي: (السباب فوق الشتم) هذا قول آخر (وهو أن يقول الرجل ما فيه وما ليس فيه، ويريد عيبه بذلك) وقال المفسرون فيه أقوال مختلفة.
"«فسوق»" خروج عن طاعة الله، قال أهل العلم: الفسق في اللغة: الخروج، وفي الشرع: الخروج عن طاعة الله ورسوله، "«وقتاله»" أي مقاتلته "«كفر»" أصغر، بدليل ما تقدم من الآيات والأحاديث، قد فصلنا هذا القول سابقًا.
قال النووي: (وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَسَبُّ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَفَاعِلُهُ فَاسِقٌ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَمَّا قِتَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يَكْفُرُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ كُفْرًا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْمِلَّةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ؛ إِلَّا إِذَا اسْتَحَلَّهُ) انتهى.
قال ابن حجر: (إِنْ قِيلَ: هَذَا وَإِنْ تَضَمَّنَ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ لَكِنَّ ظَاهِرَهُ يُقَوِّي مَذْهَبَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالْمَعَاصِي، فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُبْتَدِعِ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، وَلَا مُتَمَسَّكَ لِلْخَوَارِجِ فِيهِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْقِتَالُ أَشَدَّ مِنَ السِّبَابِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى إِزْهَاقِ الرُّوحِ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظٍ أَشَدَّ مِنْ لَفْظِ الْفِسْقِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ الَّتِي هِيَ الْخُرُوجُ عَنِ الْمِلَّةِ؛ بَلْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْكُفْرَ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ، مُعْتَمِدًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْقَوَاعِدِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةَ، مِثْلُ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) إلى آخره...
قال ابن عبد البر -بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره- قال: (ومِثلُ هذا كثيرٌ من الآثارِ التي وردَتْ بلفظِ التَّغليظِ، وليسَتْ على ظاهِرِها عندَ أهلِ الحقِّ والعِلم، لأُصُولٍ تَدْفعُها أقْوَى منها، من الكِتابِ والسُّنّةِ المـُجتمَع عليها، والآثارِ الثّابِتةِ أيضًا من جِهةِ الإسنادِ، وهذا بابٌ يتَّسِعُ القولُ فيه ويَكثُرُ، فنَذكُرُ منهُ هاهُنا ما فيه كِفايةٌ إن شاءَ اللَّه، وقد ضلَّت جماعةٌ من أهلِ البِدَع من الخَوارِج والمـُعتزِلةِ في هذا البابِ، فاحتجُّوا بهذه الآثارِ ومِثلِها في تَكفيرِ المـُذنِبينَ، واحتجُّوا من كِتاب اللَّه بآياتٍ ليسَتْ على ظاهِرِها، مِثل قولِهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ لم يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]) إلى آخر ما قال...
وقال ابن رجب: (فهذا الحديث رد به أبو وائل على المرجئة) معروف عند أهل العلم أن المرجئة يُرد عليهم بأحاديث التي يستدل بها الخوارج، والخوارج يُرد عليهم بالأحاديث التي يستدل بها المرجئة؛ لأن الحق في الجمع بين هذه الأدلة، والخروج بالقول الذي أخذه أهل السنة والجماعة من الجمع بين هذه الأحاديث ككل، لا يأخذون بجانب من الأدلة ويتركون جانبًا؛ لكنهم يردون على هؤلاء بالأدلة تلك، ويردون على الآخرين بالأدلة الأخرى.
قال رحمه الله: (فهذا الحديث رد به أبو وائل على المرجئة الذين لا يدخلون الأعمال في الإيمان؛ فإن الحديث يدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرًا وهو قتال المسلمين، فدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرًا وبعضها يسمى إيمانًا، وقد اتهم بعض فقهاء المرجئة أبا وائل في رواية هذا الحديث) هنا انتبه (قد اتهم بعض فقهاء المرجئة) هو حماد بن أبي سليمان (أبا وائل في رواية هذا الحديث، وأما أبو وائل فليس بمتهم؛ بل هو الثقة العدل المأمون، وقد رواه معه عن ابن مسعود أيضًا أبو عمرو الشيباني، وأبو الأحوص، وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود؛ لكن فيهم من وقفه، ورواه أيضًا عن النبي ﷺ سعد بن أبي وقاص وغيره) إذًا لهم شواهد ومتابعات.
قال: (ومثل هذا الحديث قول النبي ﷺ: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» وقد سبق القول في تسمية بعض الأعمال كفرًا وإيمانًا مستوفى في مواضعه) انتهى.
الحديث متفق عليه، روي عن أبي وائل مرفوعًا وموقوفًا، والمرفوع محفوظ صحيح، روي عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا، والمرفوع محفوظ صحيح.
قال ابن زُبيد: "قلت لأبي وائل: سمعت هذا من عبد الله عن النبي ﷺ؟ فقال: نعم" تصريح بأنه مرفوع إلى النبي ﷺ، وله شواهد ومتابعات كما ذكروا.
قال ابن حجر: (وَقَدْ تَابَعَ أَبَا وَائِلٍ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ الرَّحْمَنَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُصَحَّحًا وَلَفْظُهُ: «قِتَالُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ كُفْرٌ وَسِبَابُهُ فُسُوقٌ» وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا فَانْتَفَتْ بِذَلِكَ دَعْوَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَبَا وَائِلٍ تَفَرَّدَ بِهِ) انتهى.
الحديث صحيح لا إشكال فيه حقيقة، صححه الحفاظ والأئمة.
اتهم حماد بن أبي سليمان المرجئ؛ اتهم أبا وائل فيه بسبب إرجائه؛ لأن حماد هو مرجئ، وهذا الحديث حجة عليه؛ فلذلك أراد أن يرده فاتهم أبا وائل.
قال ابن هانئ: "قال أحمد رحمه الله: فقال شعبة: لقلت لحماد بن أبي سليمان: هذا الأعمش حدثنا وزبيد ومنصور عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي ﷺ «سباب المسلم فسوق،، وقتاله كفر» فأيهم يُتهم؟" مَن ستتهم من هؤلاء الأئمة الذين رووا هذا الحديث؟ "فأيهم يُتهم؟ أَيُتهم الأعمش؟ أَيتهم منصور؟ أَيتهم زُبيد؟ قال: أَتهم أبا وائل، قلت لأبي عبد الله: وأيش اتهم من أبي وائل؟" أيش المشكلة عنده في أبي وائل؟ "قال: رأيه الخبيث" يعني حمادًا، يعني لأن له رأي خبيث اتهم أبا وائل، أما أبو وائل ما عليه تهمة، فإرجاء حماد هو الذي دفعه إلى اتهام أبي وائل، أبو وائل ثقة، إمام.
قال ابن هانئ: "سمعت أبا عبد الله يقول: قال ابن عون: كان حمادٌ من أصحابنا حتى أحدث، قال ابن عون: أحدث الإرجاء" كان من أصحابنا من أهل الحديث، من أهل السنة إلى أن أحدث، لما أحدث ما عاد من أصحابنا، صار من المرجئة، هذا الأثر وغيره كثير يبين لك نقض أصل المميعة الذين يقولون لك الرجل لا يخرج من السلفية بخطأ أو خطئين أو ثلاثة، أو بأصل أو أصلين أو ثلاثة!
"هذا كان من أصحابنا" أيش الذي أخرجه؟ الإرجاء بس، يقول الأعمال ليست من الإيمان، انتهى الموضوع، خرج من أهل السنة والجماعة بأصل واحد، وهكذا الفِرق الأخرى: أصل خروجها من أهل السنة بأصل واحد كانوا يقررونه فيخرجهم أهل السنة من أهل السنة، وإن زادوا عليه بعد ذلك، زادوا أو لم يزيدوا، مجرد أصل واحد يخالف فيه تخرج، متى يكون قدريًا؟ إذا قال بالقدر، إذًا متى يكون مرجئًا؟ إذا أخرج العمل عن مسمى الإيمان، إلى آخره... هذا أمر معروف عند أهل السنة، ما في خلاف بينهم أصلًا، متى حصل الخلاف؟ لما دخل منهج التمييع بينهم.
حصل نزاع الآن في هذا الموضوع، من رأيتَه يقرر هذا الأصل فكن منه على حذر، أهل السنة والجماعة هذا أصلهم، وهو واضح.
هذا أصل واحد خالف فيه حماد، لكن انظر حماد لما يصف هذا الذي خالف فيه أيش يسميه؟
قال محمد بن نصر المروزي: "قال شعبة: فذكرت هذا حمادًا، وكان يقول بالإرجاء، وكان يقول لي" اسمع أيش قال حماد "كان يقول لي: أنت منا يا شعبة إلا قطرة" قطرة صغيرة بس، يعني هذه القطرة هي التي لم تجعلك منا، القطرة هذه هي: إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان، كانت فارقة، فاصلة بينه وبين أهل السنة، "فقلت له: أتتهم زبيدًا؟ أتتهم منصورًا؟ أتتهم سليمان؟ فقد حدثوني عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، قال: لا أتهمهم، ولكن أتهم أبا وائل، قال محمد بن نصر: وهذا ليس بشيء" هذا الاتهام ليس بشيء، ثم ذكر للحديث شواهد ومتابعات، فما لك حجة في اتهام أبي وائل أصلً؛ لكن ما الذي دفعه إلى هذا الاتهام؟ هو مذهبه، كما قال الإمام أحمد رحمه الله، مذهبه الفاسد، عقيدته، إرجاؤه هو الذي دفعه إلى الطعن في حديث النبي ﷺ من أجل أيش؟ من أجل أن يبقى على مذهبه الفاسد، بدل أن يقر بصحة الحديث، ويأخذ بما في الحديث تركه لهذا.
قال المؤلف رحمه الله: "أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: «إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ»"
الشيخ: عندك حدثنا قتيبة بن سعيد أم أخبرنا؟ القارئ: أخبرنا
الشيخ: عندك حواشي عليها؟ القارئ: يوجد حدثنا، نعم.
"أخبرنا قتيبة بن سعيد" أبو رجاء الثقفي ثقة تقدم.
"حدثنا إسماعيل بن جعفر" هو ابن أبي كثير ثقة تقدم.
"عن حُميد" هو ابن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصري، تابعي ثقة مدلس، مقدمٌ في الحسن البصري مات سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين ومائة، روى له الجماعة.
قال الذهبي: "وأجمعوا على الاحتجاج بحُميد إذا قال سمعت" انتهى، لأنه مدلس.
قال أبو حاتم: "أكبر أصحاب الحسن: حميد وقتادة"
قال أبو عبيدة الحداد: "عن شعبة: لم يسمع حميد من أنس" الحديث الذي معنا من رواية حميد عن أنس، قال: "لم يسمع حميدٌ من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا، والباقي سمعها من ثابت، أو ثبّته فيها ثابت" انتهى.
كذلك قال غيره، كثير من أهل العلم قالوا هذا الكلام، قال الحافظ العلائي: "فعلى تقدير أن تكون أحاديث حميد مدلَّسة، فقد تبين الواسطة فيها، وهو ثقة صحيح" انتهى.
يعني الأحاديث التي يرويها عن أنس حتى بالعنعنة مقبولة، ليش؟ لأن الواسطة عُرف، وهو ثابت، ثابت ثقة.
"عن أنس" بن مالك رضي الله عنه تقدم.
وفي نسخة: "حدثنا أنس" هذا يزيل اللبس تمامًا، في نسخة: "حدثنا أنس"، وأخرجه البخاري، طبعًا هنا في نسختين: في نسخة "عن" وفي نسخة "حدثنا" يشكل الأمر، لكن الحديث أخرجه البخاري برقم 2023 وفيه تصريح حُميد بالسماع من أنس من غير اختلاف في النسخ هناك.
"قال: أخبرني عبادة بن الصامت" رضي الله عنه تقدم، وهذا من رواية صحابي عن صحابي، أنس بن مالك يرويه عن عبادة بن الصامت.
"أن رسول الله ﷺ خرج" من الحجرة "يخبر بليلة القدر" أي: بتعيين ليلة القدر، أي ليلة هي بالضبط؟ "فتلاحى" من التلاحي، وهو بمعنى التنازع والمخاصمة، أي تنازع رجلان من المسلمين، لم يُذكرا في طرق الحديث فيما أعلم، نظرت في طرق الحديث ما في أي طريق من الطرق يذكر من هم هذان الرجلان؛ لكن قال ابن دحية: "هما عبد الله بن أبي حدرد، وكعب بن مالك، كان له على عبد الله دين، فطلبه، فتنازعا وارتفع صوتهما في المسجد" لكن هذه الرواية قال الحافظ ابن حجر: "ولم يذكر لذلك مستندًا" ما في عندنا شيء يدل على صحة ما قاله ابن دحية، فيبقى الحديث كما ذَكر، خلاص رجلان من المسلمين وانتهى.
في رواية: "يحتقان معهما الشيطان" "يحتقان" يعني يطلب كل واحد منهما حقه من صاحبه، ويدّعي أن الحق معه، وفي رواية أخرى: "يختصمان" الظاهر أنه تنازع ومخاصمة مع سب وتجاوز الحدود الشرعية لقوله: "معهما الشيطان" يشير إلى هذا، ولعل هذا السبب هو الذي جعل البخاري رحمه الله يذكر الحديث في هذا الباب، وترتب على ذلك أن ليلة القدر رُفعت، يعني التقاتل يؤثر في الإيمان، فقال: "«إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان، فرُفِعت»" أي: رفع بيانها، أو علمها من قلبي، فنسيتها.
قال ابن حجر: (فَرُفِعَ تَعْيِينُهَا عَنْ ذِكْرِي، هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ هُنَا، وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا أَوْضَحَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْ يَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْمُحِقُّ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ فَنَسِيتُهَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَاصَمَةَ مَذْمُومَةٌ وَأَنَّهَا سَبَبٌ فِي الْعُقُوبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ أَيِ الْحِرْمَانِ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يَحْضُرُهُ الشَّيْطَانُ تُرْفَعُ مِنْهُ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ الْمُخَاصَمَةُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مَذْمُومَةً؟ قُلْتُ: إِنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ لِوُقُوعِهَا فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ مَحَلُّ الذِّكْرِ لَا اللَّغْوِ، ثُمَّ فِي الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ أَيْضًا بِالذِّكْرِ لَا اللَّغْوِ وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَالذَّمُّ لِمَا عَرَضَ فِيهَا لَا لِذَاتِهَا) يعني ليس لطلب الحق؛ ولكن لِما حصل من طريقة طلب الحق، في المكان، وفي الزمان إلى آخره... (ثُمَّ إِنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِرَفْعِ الصَّوْتِ وَرَفْعُهُ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي﴾ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تشعرون﴾ وَمِنْ هُنَا يَتَّضِحُ مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ وَمُطَابَقَتُهَا لَهُ وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِين عَلَى هَذَا الكِتَاب) انتهى.
ذكر ابن حجر رحمه الله ثلاثة أقوال في سبب ذكر البخاري لهذا الحديث هنا، بإمكانكم أن تراجعوها في فتح الباري، نتركها اختصارًا.
"«وعسى أن يكون رفعها خيرًا لكم»" لتزيدوا في الاجتهاد فيه طلبها، فتكون زيادة في ثوابكم ولو كانت معيّنة لاقتصرتم عليها فقلَّ عملكم، الآن تعملون أكثر لأنكم لا تعرفونها بالضبط، "«التمسوها»" أي: اطلبوها في ليلة "«السبع»" والعشرين من رمضان المذكور، "«والتسع»" والعشرين "«والخمس»" والعشرين، كذا هو في أكثر النسخ بتقديم السبع على التسع، وفي بعضها تقديم التسع.
قال القسطلاني: (وفي الحديث ذمّ الملاحاة والخصومة، وأنهما سبب العقوبة للعامّة بذنب الخاصة، والحثّ على طلب ليلة القدر، ورواته ما بين بلخي وبصري ومدني، ورواية صحابي عن صحابي، والتحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه أيضًا في الصوم وفي الأدب) يعني البخاري (وكذا النسائي) انتهى.
وسيأتي إن شاء الله مزيد شرح لهذا الحديث في موضعه.
هذا الحديث من أفراد البخاري، لم يخرّجه مسلم، وأخرجه البخاري وغيره عن جمع عن حُميد به، وتوبع عليه حُميد أيضًا عند أحمد وغيره، هو صحيح لا إشكال فيه، والحمد لله.
والله أعلم، نسأل الله القبول لنا ولكم، والله الموفق.