إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد:
فدرسنا اليوم هو الدرس الثامن عشر من دروس شرح صحيح البخاري من كتاب الإيمان، هذا الدرس قبل الأخير في كتاب الإيمان، وبعد أن ننتهي إن شاء الله الدرس القادم سنبدأ بكتاب العلم بطريقة مختصرة أكثر من هذه الطريقة التي مشينا عليها في كتاب الإيمان.
وسيكون الدرس بإذن الله تعالى بعد العشاء يوم السبت ويوم الأربعاء، ولن نتقيد بمدة محددة، إنما ما نعده من مادة نلقيها في يومها، هذا المقرر إن شاء الله. ربما نحتاج إلى الإطالة في بعض المواضع على حسب الحاجة، أما الغالب فسيكون للاختصار، حتى نتمكن من إنهاء الكتاب في أسرع وقت ممكن مع المحافظة على عدم الإخلال، فزماننا هذا يناسبه الاختصار، الإطالة ضعفت عنها الهمم، والقراءة صارت عند الناس ضعيفة حتى عند طلبة العلم، فلا يناسبهم إلا الاختصار، لذلك سنختصر بقدر ما نستطيع بإذن الله، وحتى نُكمِل أيضا الكتاب في أسرع ما يمكن، ونسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد.
ربما بعض الكتب نُطيل فيها كما أطلنا في كتاب الإيمان؛ ككتاب الاعتصام بالسنة وكتاب التوحيد ولكن هذه متأخرة إلى أن يأتي وقتها إن شاء الله، المهم الأصل هو الاختصار والإسراع مع عدم الإخلال، إلا في بعض المواضع التي سنحتاج إليها في ذلك إن شاء الله بإذن الله تعالى.
تفضلوا أعزكم الله.
(الطالب) أحسن الله إليكم شيخنا.
قال المؤلف رحمه الله وشيخنا والسامعين، قال: "باب سؤال جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له، ثم قال جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم، فجعل ذلك كله دينا، وما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان، وقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه}".
قال المؤلف رحمه الله: "حدثنا مسدد قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا أبو حيان التَّيميُّ، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس فأتاه جبريل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث، قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: متى الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل؛ وسأخبرك عن أشراطها؛ إذا ولدت الأمَة ربَّها، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهمُ في البنيان، في خمس لا يعلمُهنَّ إلا الله، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم {إنَّ الله عنده علم الساعة} الآية، ثم أدبر فقال: ردوه فلم يروا شيئا، فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم، قال أبو عبدالله: جعل ذلك كلَّه من الإيمان".
(الشيخ) البُهمُ والبهمِ هي عندي هنا بالضم والكسر، قالوا هما معًا، مكتوب عليها حاشية من الأعلى أو ترقيم مثل ترقيم الحاشية معًا، طيب سيأتي إن شاء الله الكلام.
قال المؤلف رحمه الله: "باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة".
كما هو معلوم ومقرر سابقًا أنَّ الإمام البخاري رحمه الله يرى أنَّ الإيمان والإسلام بمعنى واحد، وأراد هنا أن يقرر هذا من خلال الأدلة التي ذكرها.
قال ابن حجر: (تقدم أنَّ المصنف يرى أنَّ الإيمان والإسلام عبارة عن معنىً واحد ، فلما كان ظاهر سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام وجوابه يقتضي تغايرهما)، جواب النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان شيئا والإسلام شيئا آخر، إذًا صار في مغايرة، قال: (وأنَّ الإيمان تصديق بأمور مخصوصة والإسلام إظهار أعمال مخصوصة، أراد أن يَرُدَّ ذلك بالتأويل إلى طريقته) عن البخاري رحمه الله أراد أن يردَّ هذا لطريقته، ولكن الظاهر من البخاري رحمه الله أراد أن يستدلَّ بهذا على أنَّ الإيمان والإسلام نفسه بمعنى واحد؛ لأنه استدلَّ في الأخير بأنَّه جاء يعلمكم دينكم، قال الدِّين هنا بمعنى الإيمان إذًا صار الإيمان والإسلام من الإيمان، هكذا الذي يشير إليه وهذا هو تفسير البخاري رحمه الله، قال: (وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له؛ أي لجبريل تلك المسائل المذكورة، ثم قال: جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم فجعل ذلك كلَّه دينا)، يعني الإيمان والإسلام والإحسان وما ذُكِر في هذا الحديث كله جعله دينا، وما بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان؛ أي هذا الحديث حديث جبريل مع حديث وفد عبد القيس وفد عبد القيس جعل فيه أنَّ الإيمان هو الإسلام حيث فسَّره في قصتهم بما فسَّر به الإسلام هنا، وقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه}.
قال ابن حجر: (أي مع ما دلت عليه الآية أنَّ الإسلام هو الدِّين، ودلَّ عليه خبر أبي سفيان أنَّ الإيمان هو الدين، فاقتضى ذلك أنَّ الإسلام والإيمان أمر واحد، هذا محصِّل كلامه رحمه الله).
يعني مجموع هذه الأدلة عند البخاري يجي كلها يدل على أنَّ الإيمان والإسلام شيء واحد. هذه طريقته في فهم هذه الأحاديث والجمع بينها.
وقد تقدم القول في هذه المسألة مسألة الفرق بين الإيمان والإسلام واختلاف السلف فيها؛ البخاري ومحمد بن نصر المروزي يذهبان إلى أنهما بمعنى واحد، والبعض فرَّق بينهما وجعل هذا له معنى وهذا له معنى مطلقا، وجمهور السلف على أنهما بمعنى واحد إذا افترقا، وأمَّا إذا اجتمعا كما في حديث جبريل الذي معنا فالإيمان ما في القلب والإسلام الأعمال الظاهرة.
راجعوا كتاب الإيمان لابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في أول المجلد السابع صفحة ثلاثمائة وثمانية وخمسين، في أول المجلد تقريبا صفحة خمسة أو ستة، وفي صفحة ثلاثمائة وثمانية وخمسين ذكر هذه المسألة وحقَّق القول فيها وذكر أقوال السلف فيها في عدة مواضع، ومن يصعب عليه فهم كلام ابن تيمية رحمه الله فليراجع شرح ابن عثيمين رحمه الله على العقيدة السفارينيَّة في المجلد الأول صفحة ثلاثمائة وثلاثة وتسعين، أسلوبه أسهل إلا أنَّه لم يذكر أقوال السلف هناك.
(حدثنا مُسدَّد) هو ابن مُسَرهَد ثقة تقدم.
(قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم) هو ابن عُلَيَّة ثقة تقدم.
(أخبرنا أبو حيان التَّيمي) يحيى بن سعيد بن حيان أبو حيان التيمي الكوفي من أتباع التابعين ثقة عابد صاحب سُنَّة، مات سنة خمس وأربعين ومئة، روى له الجماعة، وهو واحد من أربعة يُقال لهم يحيى بن سعيد أخرج لهم البخاري ومسلم. وخامس تفرد بالإخراج له مسلم رحمه الله، كلهم محتج به، كل هؤلاء الخمسة يعني يحيى بن سعيد في الصحيحين يحتج به على طول، طبعا أنتم عرفتم هؤلاء الخمس وذكرناهم من قبل، والآن تستطيعون استحضارهم كونكم حافظين لهم إن شاء الله. فالأمور عندكم طيبة. طيب؛ الأول هو الجمل، الذي يُلقَّب بالجمل، والثاني هو الأنصاري صاحب حديث إنما الأعمال بالنيات، والثالث هو الإمام عالم الجرح والتعديل يحيى بن سعيد القطان، والرابع هو هذا الذي معنا ابن حيان أبو حيَّان التَّيمي، والخامس الذي تفرد له مسلم هو يحيى بن سعيد بن العاص أخو الأشْدَق.
(عن أبي زرعة) هو ابن عمرو بن جرير البَجَلِي ثقة تقدم.
(عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزًا يومًا للناس) يحكي لنا أبو هريرة حادثة كما وقعت فيذكر لنا الآن وصف النبي صلى الله عليه وسلم فيقول كان بارزا يوما، البروز: هو الظهور، كان بارزا يوما للناس يعني كان ظاهرا لهم غير محتجب عنهم جالسا معهم جالس مع أصحابه في المسجد كما يجلس الشيخ مع تلاميذه في المسجد اليوم. وفي رواية في مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني وكان جالسا معهم في المسجد ويقول لهم سلوني حتى يعلِّمَهم، فهابوه أن يسألوه، فجاء رجل فجلس عند ركبتيه، فقال: يا رسول الله: فبدأ بالسؤال عن الإسلام.
(فأتاه جبريل) وفي نسخة رجل؛ أي أتاه جبريل في صورة رجل، فقال جبريل (ما الإيمان؟) هم الآن لا يرون جبريل على أنه جبريل ولا يعرفون أنه جبريل إنما رأوا رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله، فسأل ما الإيمان؟ وفي رواية قُدِّم السؤال عن الإسلام، (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان؛ أن تؤمن) تصدق تقر تعتقد تعترف (بالله) بوجوده وبانفراده بالربوبية والألوهية وبأسمائه وصفاته، وتؤمن بـ(ملائكته) بوجودهم وأنهم عالم الغيب ومخلوقات من نور لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمَرون، وتؤمن بمن سُمِّي لنا منهم؛ كجبريل وإسرافيل وميكائيل ومالك وبأعمالهم التي ذكرت لنا، وكتبه التي أنزلها على رسله؛ كالتوراة والإنجيل والقرآن ومن الإيمان بالقرآن اتباعه، والعمل بما فيه وتعلُّم ما فيه، (وبلقائه)؛ أي الإيمان بوقوف العباد بين يدي الله عز وجل للمحاسبة بأعمالهم والجزاء عليها، (ورسله)؛ وتؤمن برسل الله أنهم مبعوثون من عند الله؛ كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ومن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم تصديقه فيما أخبر به واتباعه فيما جاء به وطاعته، (وتؤمن بالبعث)؛ الإيمان بأنَّ الله يبعث من في القبور أي تؤمن بخروج الموتى من قبورهم أحياءً للحساب.
وفي رواية في مسلم: وتؤمن بالقدر كله، هذا في حديث أبي هريرة هذه الرواية موجودة أيضا حتى ذكر القدر موجود في رواية أبي هريرة لأن هذا الحديث حديث متفق عليه من حديث أبي هريرة لكنَّ حديث عمر فيه خلاف ونزاع لكنْ أخرجه مسلم في صحيحه وفيه: وتؤمن بالقدر خيره وشره، هذا في حديث عمر عند مسلم: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت. هذه الأركان أركان الإيمان الستة، ففسَّر له الإيمان لمَّا اقترن بالإسلام بما في القلب بالاعتقادات الباطنة، من هذا أخذ أهل العلم أنَّه إذا اجتمع الإيمان والإسلام يُفسَّر الإيمان بالاعتقادات القلبية، ويُفسَّر الإسلام بالأعمال الظاهرة كما سيأتي.
(قال) جبريل (ما الإسلام؟ قال) النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تعبد الله) أصل الإسلام هو الاستسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى بطاعته، لكنْ هنا ذكر أصول الإسلام فقال: أن تعبد الله تخضع وتذل له بالطاعة محبة وتعظيما، (ولا تشرك به) شيئا؛ ولا تعبد معه غيره، (وتقيم) تفعل وتداوم على فعل (الصلاة) المكتوبة، (وتؤدي الزكاة المفروضة) الواجبة، (وتصوم) شهر (رمضان).
وفي مسلم زيادة: (قال) أي جبريل: (صدقت).
ولم يذكر الحج في هذا مع أنه أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو مذكور في حديث عمر في صحيح مسلم، ولفظه: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال أي جبريل: صدقت، قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه"، هذه التَّتِمَّة موجودة في حديث عمر.
والظاهر أن الزيادة والنقص التي تحصل في هذه الروايات هو من الرواة؛ فمَن حفظ يزيد ومن لم يحفظ يُنقص.
هذه أركان الإسلام الخمسة، ففسَّر الإسلام لمَّا اقترن بالإيمان بالأعمال الظاهرة.
(قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله) أي هو عبادة الله تبارك وتعالى وحالك وأنت في عبادتك (كأنك تراه)؛ أي كأنك تعبده وأنت تراه، فستكون عبادتك هنا كيف؟ عندما تعبد الله سبحانه وتعالى كأنك تراه في أكمل وجه، في أكمل ما تقدر عليه من الخشوع والخضوع والهيبة والمحبة والتعظيم والإخلاص والمتابعة والتمام والكمال، (فإن لم تكن تراه) فاستمر على إحسان العبادة، (فإنه يراك) ومطَّلع على سرِّك وعلانيتك ويعلم كيف تعبده ويراقبك، فاعبده هكذا؛ لأنك تعبده على هذه الحالة لكونه يراك لا لكونك أنت تراه، وهذا المعنى موجود وإن لم تره أنت لكنَّه هو يراك، هذه مرتبة الإحسان، مرتبة عالية رفيعة وهي أن تعمل العمل خالصا لله تبارك وتعالى على أحسن وجه هذا باختصار، وأنت موقن أنَّ الله يراك وأنت تعمل، فمرتبة الإحسان هي أعلى مرتبة، قال الشُّرَّاح: هذا من جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم لأنَّا لو قدَّرنا أنَّ أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى؛ يعني يرى ربه بعينيه -تقديرا- لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتثمينها على أحسن وجهها إلا أتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: اعبُد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان، فإنَّ التَّتميم المذكورَ في حال العيان إنما كان لعلم العبد باطِّلاع الله سبحانه وتعالى عليه، فلا يُقدِم العبد على تقصيرٍ في هذا الحال للاطِّلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد فينبغي أن يعمل بمقتضاه. المعنى نفسه التي ذكرته لكم هو نفس كلام أهل العلم الشُّرَّاح لمن فهمه فهمه، من لم يفهمه يفهم الكلام الذي ذكرته له سابقا فهو نفس المعنى.
قالوا: فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك، انتهى.
وقيل: المذكور في مرتبة الإحسان مرتبتان؛ مرتبة المشاهدة ومرتبة المراقبة، فمن لم يستطع الوصول إلى مرتبة المشاهدة فلينتقل إلى مرتبة المراقبة، هكذا قال بعض أهل العلم. مقصودهم بمرتبة المشاهدة يعني أن تعبد الله كأنك تراه، تصل الى هذه المرتبة، فإن لم تقدر على هذه فاعبد الله على أنه هو يراك وهو يراقبك، فهي مرتبة أنزل، هكذا فسره بعض أهل العلم.
وللشُّرَّاح الصوفية بدع وضلالات يذكرونها هنا، ويزعمون أنَّ الولي يُمكنه أن يرى ربه في الدنيا، يستدلون بهذا التمثيل، ذكر هذا ابن رجب رحمه الله وردَّ عليه وذكره غيره أيضا من الشُّرَّاح وردُّوا هذا الكلام وذكر بعض أهل العلم أنَّ هذا جهل باللغة، ويدل على عدم فهمهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، التوربشتي أحد الذين ردوا عليهم في هذا.
(قال) جبريل: (متى) تقوم (الساعة؟) السؤال عن يوم قيام الساعة، (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (ما المسؤول) عنها وهو النبي صلى الله عليه وسلم (بأعلم من السائل) وهو جبريل عليه السلام، يعني أنَّ علم الخلق كلهم في وقت الساعة سواء وكلهم يجهلونها، لا أحد منهم يعلم هذا، هذا المقصود أنَّ الله سبحانه وتعالى قد استأثر بعلمها.
(وسأخبرك عن أشراطها)، وفي حديث عمر قال: فأخبرني عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها؛ يعني عن علاماتها التي تدل على اقترابها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(إذا ولدت الأَمَة ربَّها)، وفي حديث عمر: أن تلد الأَمَة ربَّتها؛ "الأَمَة هي المملوكة التي ينجب منها مالكها وهي السُّرِّيَّة". تقدم تفسير السُّرِّيَّة سابقا، وربُّها سيدها ومالكها، وربَّتها سيدتها ومالكتها، وفي التفسير هذا خلاف بين العلماء كثير، أصح ما قيل في ذلك هو ما ذهب إليه أكثر أهل العلم، قالوا: هو إخبار عن كثرة السَّراري وأولادهنَّ، فإنَّ ولدها من سيدها بمنزلة سيدها؛ ابنها لما سيدها يجامعها تنجب، هذا الولد التي أنجبته هو ابن سيدها أي كأنه سيدها، قالوا: لأن مال الإنسان صائر إلى ولده، وهذه المملوكة من ماله، وقد يتصرف فيه في الحال تصرف المالكين، يعني حتى في حياة والده ممكن يتصرف في مال والده كما يتصرف من يملكه؛ فكأنه يملك أمه في هذه الحال، قال: إما بتصريح أبيه له بالإذن؛ من يأذن له أبوه بالتصرف وإما بما يعلمه بقرينة الحال أو عُرف الاستعمال. المهم يكون عنده إذن بالتصرف بماله هذا، ومن ضمن ماله أمه، وقيل: معناه أنَّ الإماء يلدن الملوك، فتكون أمه من جملة رعيَّته، وهو سيدها وسيد غيرها من رعيتها؛ فهي داخلة من ضمن الرعية والرعية كلهم هو سيدهم، هذا قول إبراهيم الحربي، وقيل غير ذلك، لكن القول الأول أقواها، وهذه العلامة حصلت، وكثرت الإماء جدا في الزمن الماضي بسبب كثرة الفتوحات الإسلامية، وكثرة الرِّقِّ في ذاك الزمان. قال:
(وإذا تطاول رعاة الإبل البُهمُ في البنيان) البُهمُ والبُهمِ؛ بضم الميم وكسرها نسختان البُهم بضم الميم صفة للرعاة، إذا تطاول رعاة الإبل البُهمُ ؛صفة ليش؟ لرعاة، أما البُهمِ صفة لمن؟ للإبل، صفة للرعاة وهم السود، أو المجهولون الذين لا يُعرَفون، أو الذي لا شيء لهم، ثلاث تعريفات تفسيرات لكلمة البُهم لأنها تأتي على ثلاث معان؛ منها السود أو المجهولون الذين لا يُعرَفون أو الذين لا شيء لهم، فقراء جدا يعني، وبالجرِّ صفة للإبل؛ أي الإبل السود، وفي حديث عمر: وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان؛ حفاة معروف، العالة الفقراء، والعراة معروف؛ يعني شديدي الفقر حتى هذا وصفهم، شدة الفقر والحاجة تنقلب الأحوال، هؤلاء يتطاولون في البنيان، تصوَّر هذا الانقلاب! من شدة الفقر على هذا الوصف الذي ذكره إلى التطاول في البنيان؛ يعني كثرة المال بشكل كبير جدا، والرِّعاء ويُقال رُّعاة ومعناه أنَّ أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تُبسط لهم الدنيا إلى أن يتنافسوا في طول البنيان وزخرفتها وإتقانها، هذه العلامة ما تحتاج إلى كلام لأنكم جميعا ترونها.
قال ابن رجب: (والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم حتى يتباهوا بطول البنيان وزخرفته وإتقانه، وفي حديث أبي هريرة ذكر ثلاث علامات -يعني في رواية-، منها أن تكون الحفاة العراة رؤوس الناس، ومنها أن يتطاول رعاة البَهم في البنيان، انتهى). هذه زيادة في صحيح مسلم، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها، رؤوس الناس يعني ملوك الناس.
قال ابن رجب: (ومضمون ما ذكر من أشراط الساعة في هذا الحديث يرجع إلى أنَّ الأمور تُوسَّد إلى غير أهلها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الساعة: ((إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة))، هذه احفظوها لأول درس سيأتي في كتاب العلم، مهمة، ربْط هذا الذي ذُكر هنا في هذه العلامة مع هذا الحديث إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة، سنحتاجها هناك إن شاء الله، إذا نسيت ذكروني، فإنه إذا صار الحفاة العراة رعاءُ الشاة وهم أهل الجهل والجفاء رؤوس الناس وأصحاب الثروة والأموال حتى يتطاولوا في البنيان فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا، فإنه إذا رأس الناس من كان فقيرا عائلا فصار ملكا على الناس، سواء كان ملكه عامًّا أو خاصًّا في بعض الأشياء، فإنه لا يكاد يعطي الناس حقوقهم بل يستأثر عليهم بما استولى عليهم من مال، فقد قال بعض السلف: (لأن تمدَّ يدك إلى فم التنين فيقمضها خير لك من أن تمدَّها إلى يد غني قد عالج الفقر)، وإذا كان مع هذا جاهلا جافيا فسد بذلك الدين لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم، أصلا ولاة الأمور أمور الناس ما وضعوا إلا ليحرصوا على إصلاح دين الناس وتعليم الناس أمور دينهم، قال: (بل همته في جباية المال واكتنازه، ولا يبالي بما فسد من دين الناس ولا بما ضاع ولا بمن ضاع من أهل حاجتهم)، وفي حديث آخر: ((لا تقوم الساعة حتى يَسُود كلَّ قبيلة منافقوها))، وإذا صار ملوك الناس ورؤوسهم على هذه الحال انعكست سائر الأحوال؛ فصُدِّق الكاذب وكُذِّب الصادق واؤتمن الخائن وخُوِّن الأمين وتكلم الجاهل وسكت العالم أو عُدِم بالكلية كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ من أشراط الساعة أن يُرفَع العلم ويظهر الجهل)) وأخبر أنَّه ((يُقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جُهَّالا فسئلوا فأفتَوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا))، وقال الشعبي: (لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلا والجهل علما، وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان وانعكاس الأمور انتهى). وكله حاصل ونعيشه اليوم، لكن قوله في العلماء هذا مخصوص بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرُّهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله)) فلا يمكن أن يُقضى على علماء السنة مطلقا ولا أن يسكتوا تماما، لا بُدَّ أن ييسر الله سبحانه وتعالى لهم فرجا ومخرجا يمكنهم من الكلام بالحق والنطق به وإظهاره،
قال (في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم {إنَّ الله عنده علم الساعة}) أي علم وقت الساعة داخل في جملة خمس لا يعلمهن إلا الله هذا المقصود، وهي المذكورة في (الآية) {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} قال ابن كثير رحمه الله: (هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، لا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، لا يُجلِّيها لوقتها إلا هو، وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ولكن انتبهوا هنا وهذا مهم من كلامي الآن، وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ولكن إذا أمر به؛ لاحظ متى يُعلم، إذا أمر به علمته الملائكة وهذا متى قبل أن يطَّلع عليه أصحاب الأرصاد الجوية وقبل أن تتكون الغيوم وقبل كل هذه الأمور، قال ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء الله من خلقه، بعد ذلك يبدأ ظهوره، إذًا استئثار الله سبحانه وتعالى بعلمه به قبل أن يأمر به، وهذه فائدة مهمة، فما يأتي شخص يقول إذا كان مثلًا الذين يتوقعون نزول المطر في المكان الفلاني والفلاني بسبب ما يرون من أسباب ممكن أن تؤدي إلى هذا أنَّ هذا من علم الغيب هذا خطأ، قال: وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا علم الملائكة الموكلون بذلك، قبل ذلك ما كان أحد يعلمه لكن بعد هذا بعد الأمر به يعلمه من شاء الله سبحانه وتعالى من خلقه، هنا النقطة هذه مهمة جدًّا أيضا حتى تعلم أنك في فترة في مدة من الزمن ظهر بعض الناس يقولون إذا رأى الشخص في هذا التلفزيون تبع الفحص تبع النساء إذا رأى الذي في الجنين هذا ما يجوز هذا من العلم الذي استأثر الله به، هذا خطأ الكلام، ليس هذا المقصود هنا، انظر ماذا قال قال: وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه، وكذا لا تدري نفس ما تكسب غدًا في دنياها وأخراها وما تدري نفس بأي أرض تموت في بلدها أو غيره في أي بلاد الله كان لا علم لأحد بذلك، وهذه شبيهةٌ بقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} الآية، وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب، إلى آخر ما ذكر رحمه الله.
(ثم أدبر ) الرجل أي ولَّى وذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ردُّوه) أرجعوه (فلم يروا شيئا) ذهبوا ليرجعوه ما وجدوا شيئا اختفى، فقال: (هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم)، وفي حديث عمر: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
(قال أبو عبدالله) يعني البخاري: (جعل ذلك كله من الإيمان)، قال ابن رجب:(فمراده بهذا الكلام أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمَّى جميع ما ذكره في هذا السؤال دينا، والدين هو الإسلام كما أخبر الله بذلك، وقد أجاب وفد عبد القيس عن سؤالهم عن الإيمان بما أجاب به جبريل عن سؤاله عن الإسلام، فدلَّ على أنَّ الإيمان هو الإسلام وأنه يدخل في مُسمَّاه ما يدخل في مُسمَّى الإسلام، هذا تقرير ما ذكره البخاري ها هنا)، هذا استدلال البخاري هكذا يكون، ثم ذكر ابن رجب رحمه الله قول المفرقين بينهما، وهذا كله تقدم خلاص، وقال: (وهو حديث عظيم جدا يشتمل على شرح الدين كله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخره: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم))، بعد أن شرح درجة الإسلام ودرجة الإيمان ودرجة الإحسان فجعل ذلك كله دينا)، انتهى كلامه.
قال الشراح: (هذا حديث عظيم جليل، يصلح أن يُقال له أم السنَّة؛ لما تضمَّنه من جمل علم السنة، وقالوا إنه اشتمل على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان فداءً وحالًا ومآلًا، ومن أعمال الجوارح ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلَّها راجعة إليه ومتشعبة منه) انتهى.
وفوائده كثيرة، حتى ألَّف بعض أهل العلم في شرحه رسائل مفردة منها؛ رسالة الشيخ عبد المحسن العباد شرْح حديث جبريل، حديث متفق عليه من حديث أبي هريرة.
من أراد استيعاب الفوائد التي فيه يرجع إلى هذه الرسالة وغيرها من الرسائل، لا نريد أن نطيل، وكثير من الفوائد أو كل الفوائد التي ستُذكر هنا إشارة ستأتي إن شاء الله في الأحاديث الأخرى.
هذا الحديث اختُلِف فيه على أبي زرعة، ذكره الدار قطني في العلل؛ رقم ألف وخمسمائة وخمسة وستين، ورجَّح في النهاية ما فعله الشيخان البخاري ومسلم، قال ابن تيمية: (وهذا الحديث متفق على صحته، مُتلقًى بالقبول أجمع أهل العلم بالنقل على صحته، وقد أخرجه أصحاب الصحيح من غير وجه، فهو من المتفق عليه من حديث أبي هريرة، وفي أفراد مسلم من حديث عمر)، انتهى.
(الطالب) أحسن الله إليكم شيخنا. قال المؤلف رحمه الله: "باب: حدثنا إبراهيم بن حمزة قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبدالله، أنَّ عبدالله بن عباس أخبره قال: أخبرني أبو سفيان أنَّ هرقل قال له: سألتك هل يزيدون أو ينقصون، فزعمت أنَّهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك هل يرتدُّ أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، لا يكرهه أحد".
(الشيخ) (باب) هذا التبويب غير مثبت في بعض نسخ البخاري، وقلنا سابقا: إذا بوَّب البخاري هكذا بلا ترجمة؛ أي بلا أيِّ قول آخر؛ هكذا يقول "باب" فقط فيكون هذا الباب تابعًا للذي قبله بمنزلة الفصل.
(حدثنا إبراهيم بن حمزة) هو ابن محمد من أولاد عبد الله بن الزبير بن العوَّام أبو إسحاق المدني يروي عن أتباع التابعين صدوق، قال البخاري: "مات بالمدينة سنة ثلاثين ومائتين". روى له البخاري وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
(قال: حدثنا إبراهيم بن سعد) هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو إسحاق المدني تقدم ثقة.
(عن صالح) بن كيسان ثقة (عن ابن شهاب) الزهري إمام ثقة، (عن عبيد الله بن عبدالله) بن عتبة بن مسعود إمامٌ أحد الفقهاء السبعة قد تقدم.
(أنَّ عبد الله بن عباس أخبره قال: أخبرني أبو سفيان) وفي نسخة؛ ابنُ حرب ( أنَّ هرقل قال له: سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟) الحديث... هذا الحديث تقدم، سنكتفي بذكر كلام العلماء في بيان مناسبته هنا ووجه استدلال البخاري به فقط.
قال ابن حجر: ("باب" كذا هو بلا ترجمة، وفي رواية كريمة وأبي الوقت، وسقط من رواية أبي ذر والأصيليّ وغيرهما)؛ طبعا هذي كلها المفروض الآن مفهومة عندكم بناءً على ما تقدَّم في المقدمة، ورجَّح النووي الأول قال: (بأنَّ الترجمة يعني سؤال جبريل عن الإيمان لا يتعلق بها هذا الحديث، فلا يصح إدخاله فيه). قلتُ؛ -الكلام للحافظ ابن حجر قال-: (نفي التعلق لا يتم هنا على الحالتين)؛ سواء أُثبت الباب أو لم يُثبت الباب التعلق موجود، له تعلق بالباب، قال: (لأنه إن ثبت لفظ باب بلا ترجمة فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله فلا بُدَّ له من تعلق به وإن لم يثبت فتعلقه به متعين لكنه يتعلق بقوله في الترجمة "جعل ذلك كله دينا"، ووجه التعلق أنه سمَّى الدين إيمانا في حديث هرقل، فيتم مراد المؤلف بكون الدين هو الإيمان.
فإن قيل: لا حجة له فيه لأنه منقول عن هرقل، فالجواب أنه ما قاله من قبيل اجتهاده وإنما أخبر به عن استقرائه من كتب الأنبياء كما قررناه فيما مضى، وأيضا فهرقل قاله بلسانه الرومي وأبو سفيان عبَّر عنه بلسانه العربي وألقاه إلى ابن عباس وهو من علماء اللسان، فرواه عنه ولم ينكره، فدلَّ على أنه صحيح لفظًا ومعنى، وقد اقتصر المؤلف من حديث أبي سفيان الطويل الذي تكلمنا عليه في بدء الوحي على هذه القطعة لتعلقها بغرضه هنا)، هذا واضح لماذا اقتطع البخاري هذه القطعة خاصة؟ لأنه يريد أن يستدل بها هي خاصة وترك بقية الحديث. وساقه في كتاب الجهاد تامَّا بهذا الإسناد الذي أورده هنا والله أعلم قال ابن رجب: (ومقصوده بإيراده هذه الجملة من حديث هرقل أنَّ الإيمان يزيد حتى يتم، وأن الدين هو الإيمان، فإنه سأله هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ ثم أجاب بأن الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، والبشاشة: الفرح والاستبشار)، وقال: (فدلَّ على أنَّ الإسلام والدين واحد، ولكن لم يرد بزيادة الإيمان هنا إلا زيادة أهله، وبتمامه قوةَ أهله وتمكنهم من إظهاره والدعوة إليه، وكلام هرقل وإن كان لا يُحتَجُّ به في مثل هذه المسائل العظيمة من أصول الديانات التي وقع الاضطراب فيها، فإنَّ ابن عباس روى هذا الكلام مُقرِّرا له مُستحسنا، وتلقاه عنه التابعون وعن التابعين أتباعهم؛ كالزهري، فالاستدلال إنما بتداول الصحابة ومن بعدهم لهذا الكلام وروايته واستحسانه والله سبحانه وتعالى أعلم).
تقدم هذا الحديث بطوله، أخرجه البخاري في بدء الوحي برقم ستة، من روايته عن شيخه وهو أبو اليمان الحكم بن نافع، رواه عن شعيب، عن الزهري به، وذكر هناك أنَّ صالح بن كيسان رواه عن الزهري، ووصلها هنا لكن مختصرا وسيأتي إن شاء الله مطولا من طريق صالح بن كيسان أيضا، حديث متفق عليه. تفضل.
(الطالب) أحسن الله إليكم شيخنا
قال المؤلف رحمه الله: (باب فضل من استبرأ لدينه)، قال المؤلف رحمه الله: حدثنا أبو نُعيم حدثنا زكرياء عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مُشبَّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المُشبَّهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يُواقعه، ألا وإنَّ لكل ملك حمى، ألا إنَّ حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صَلَح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))".
(الشيخ) (باب فضل من استبرأ)؛ أي طلب البراءة لدينه من الذم الشرعي؛ يعني طلب البراءة من الإثم لدينه أي لأجل دينه، قال ابن حجر: (كأنه أراد أن يبين؛ يعني البخاري، أن الورع من مكملات الإيمان، فلهذا أورد حديث الباب في أبواب الإيمان)، وقال غيره: (وغرض البخاري من وضْعِ هذا الباب أنَّ الورع أصل عظيم في الإيمان وكمالِه) انتهى.
هذا الحديث أصل في الورع وهو حديث عظيم وسيأتي كلام أهل العلم عنه جعلوه أحد الأحاديث التي يدور عليها الإسلام.
(حدثنا أبو نُعيم) الفضلُ بن دُكَين، ودُكَين لقب، واسمه عمرو بن حماد بن زهير التيمي مولاه، وأبو نُعيم المُلَّائي الكوفي الأحول، وهو أبو نعيم المُلَّائي الكوفي الأحوال، مشهور بكنيته من كبار شيوخ البخاري، من أتباع التابعين ثقة ثبت حافظ، مات سنة ثماني عشرة ومئتين وقيل تسع عشر، روى له الجماعة.
قال يعقوب الفَسَوِيّ: أجمع أصحابنا أنَّ أبا نُعيم كان غاية في الإتقان، وقال أبو عبيد الآجري: قلت لأبي داوود: كان أبو نعيم حافظا؟ قال جدًّا.
قال أحمد بن منصور الرمالي: خرجت مع أحمد ويحيى إلى عبد الرزاق خادما لهما؛ تنبهوا لهذه القصة تُبيِّن لكم صورة من صور الاختبار لامتحان السلف رضي الله عنهم لبعضهم في حفظ الأحاديث، هو من ناحية الديانة ما في إشكال، لكن أرادوا أن يمتحنوا حفظه، فانظروا ماذا فعلوا، قال أحمد بن منصور الرمادي: خرجت مع أحمد يعني أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلى عبد الرزاق خادما لهما، قال: فلما عُدْنا إلى الكوفة قال يحيى بن معين: أريد أن أختبر أبا نُعيم يعني أريد أن أمتحنه، قال أحمد: لا تُرد فالرجل ثقة، خلاص ثقة معروف ما في داعي، قال يحيى لا بُدَّ لي، يريد أن يطمئن، فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثا وجعل على رأس كلِّ عشرة منها حديثا ليس من حديثه، ثلاثين حديث آخر حديث من العشرة الأولى ليس من حديث أبي نُعيم، والعشرة الثانية يعني دخَّل ثلاث أحاديث ليس من حديث أبي نُعيم، يريد أن يعرضها عليه، ثم إنهم جاءوا إلى أبي نعيم، فخرج وجلس على دُكّان طين؛ "الدُّكان يطلق على الدُّكان الذي نعرفه نحن نسميه دكان إلى اليوم اللي هو المحل لبيع المواد الغذائية، ويطلق على المكان المرتفع الذي يُجلس عليه"، وهذا المراد هنا.
قال وأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه، أبو نُعيم استقبلهم في هذا المكان جلَّس أحمد بن حنبل على يمينه ويحيى بن معين عن يساره، قال وجلست أسفل الدكان، ثم أخرج يحيى الطبق الصفحة اللي فيها الأحاديث فقرأ عليه عشرة أحاديث فلما قرأ الحادي عشر قال أبو نُعيم ليس هذا من حديثي اضْربْ عليه، رجل حافظ ما هو سهل، ثم قرأ العشر الثانية وأبو نعيم ساكت فقرأ الحديث الثاني، فقال أبو نعيم ليس هذا من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثالث، ثم قرأ الحديث الثالث، فتغيَّر أبو نعيم وانقلبت عيناه، ثم أقبل على يحيى، يعني ما فيش داعي تكمل.
فقال: أما هذا وذراع أحمد بيده مسك ذراع أحمد أما هذا فأورع من أن يعمل مثل هذه، الحركات هذه مش حركات أحمد، وأما هذا يريدني يعني أحمد اللي يحكي القصة أحمد بن منصور فأقل من أن يفعل ذاك؛ ما زال صغيرا على هذا الفعل، ولكن هذا من فعلك يا فاعل، يخاطب يحيى بن معين، قال: وأخرج رجله فرفس يحيى فرمى به من الدكان، وقام فدخل داره، زعل ما عجبه هذا الشيء، لكن رفس يحيى، فقال أحمد بن حنبل ليحيى، ألم أمنعك؟! يعني اجتك الضربة هذي كويس؟! وأقلْ لك إنه ثبت، قال: والله لرفسته لي أحب إلي من سفرتي، حصل على معلومة وفائدة قيمة.
قال أبو العباس السَّرَّاج عن الكُدَيْني، قال: (لما دخل أبو نُعيم على الوالي ليمتحنه، وثَمَّ يونس وأبو غسان وغيرهما، فأول من امتحن فلان فأجاب -يعني أجاب بخلق القرآن- ثم عطف على أبي نُعيم فقال: قد أجاب هذا فما تقول؟ فقال والله ما زلت أتَّهم جدَّه بالزندقة -تحتج علي بهذا!- ولقد أخبرني يونس بن بُكَير أنَّه سمع جدَّه يقول: لا بأس أن يرمي الجمرة بالقوارير-بدل الحصى يعني؛ طبعا هذا ذُكر هذا الشخص هذا في رواية أخرى-، أدركت الكوفة وبها أكثر من سبعمائة شيخ الأعمش فمن دونه، يقولون: القرآن كلام الله، وعنقي أهون من زري هذا)، يعني لن أتراجع عن هذا الكلام حتى لو قطعتم عنقي، فقام إليه أحمد بن يونس فقبل رأسه وكان بينهما شحناء، وقال: جزاك الله من شيخ خيرا، قال أبو نُعيم: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر.
وقد كان أبو نُعيم ذا دعابة؛ مزَّاح يعني يحب المزاح، وقال الحسين بن عمرو العلقزي: (دقَّ رجل على أبي نُعيم الباب فقال: من ذا؟ قال: أنا، قال: من أنا؟ قال: رجل من ولد آدم، فخرج إليه أبو نعيم فقبَّله، وقال: مرحبا وأهلا، ما ظننت أنه بقي من هذا النسل أحد)، أنا أنا النبي صلى الله عليه وسلم كرهها.
(حدثنا زكريا) أحمد هو ابن أبي زائدة بن ميمون بن فيروز الهمداني الوادعي مولاهم أبو يحيى الكوفي، من أتباع التابعين، ثقة مدلِّس روايته عن أبي إسحاق ضعيفة، سمع منه بأَخَرَة، مات سنة سبع وأربعين ومئة أو بعدها وروى له الجماعة، قال أبو زرعة: "صويلح يدلس كثيرا عن الشعبي"، وهذه الرواية من روايته عن الشعبي، وقال أبو حاتم: "ليِّن الحديث كان يُدلِّس، وإسرائيل أحب إليَّ منه، ويُقال: إنَّ المسائلَ التي يرويها زكريا عن الشعبي لم يسمعها منه، إنما أخذها عن أبي حَريث".
(عن عامر) هو الشعبي الفقيه المشهور تقدم.
ورجال الإسناد هذا كوفيون، وقد دخل النعمان الكوفة وولي إمرتها، كذا قال الحافظ.
قال ابن حجر: (وزكريا موصوف بالتدليس، ولم أره في الصحيحين وغيرهما من روايته عن الشعبي إلا مُعنعنًا، ثم وجدته في فوائد ابن أبي الهيثم من طريق يزيد بن هارون عن زكريا حدثنا الشعبي، فحصل الأمن من تدليسه) انتهى.
تابعه عليه جمع عند البخاري ومسلم وغيرهما هو متابع عليه، فرواه عن الشعبي وتصريحه بالسماع منه كما ذكر الحافظ في فوائد ابن هيثم وكذلك أيضا موجود في مستخرج أبي عوانة، قال: حدثنا إسماعيل القاضي، قال: حدثنا علي ابن المديني، قال حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال حدثنا زكريا ابن أبي زائدة، قال حدثنا عامر، قال: سمعت النعمان يقول: وأومأ النعمان بأصبعه إلى أذنه، وذكر الحديث وقال فيه: ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام، انتهى.
هذا تصريح فيه بالسماع في إسنادٍ أئمة الذين يرونه علي بن المدينيّ ويحيى بن سعيد، هذا الإسناد هذا الخبر في مستخرج أبي عوانة أوقفني عليه أحد الإخوة جزاه الله خيرا، فلا إشكال في صحة هذا الإسناد والحمد لله.
(قال: سمعت النعمان بن بشير) هو ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، له ولأبويه صحبة، قُتِل بحمص سنة خمس وستين وله أربعون سنة، روى له الجماعة، قال ابن عبد البر: (لا يصحح بعض أهل الحديث سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عندي صحيح؛ لأن الشعبي يقول عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثين أو ثلاثة) انتهى. قال ابن حجر: (وزاد مسلم والإسماعيلي من طريق زكريا في: وأهوى النعمان بأصبعه إلى أذنيه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -في تصريح بالسماع، نفس هذه الرواية هذا الحديث- وفي هذا ردٌّ لقول الواقديِّ ومن تبعه إنَّ النعمان لا يصح سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على صحة تحمل الصبي المميز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وللنعمان ثمان سنوات)، وقال أبو الحسن القادسي: (قال أهل المدينة: لا يصح للنعمان سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، وحكاه القاضي عياض عن يحيى بن معين ويُحكى عن الواقدي أيضا، وقال أهل العراق: سماعه صحيح). قال النووي: (المحكي عن قول أهل المدينة باطل أو ضعيف) انتهى. لا يصح عنهم هذا الكلام. على كل حال الصواب ما قاله ابن عبد البر، ففي الصحيحين ثلاثة أحاديث وقفتُ عليها صرَّح فيها بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ما استوعبت البحث اكتفيت بها.
(يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحلال) وهو ضد الحرام، (بيِّن) ظاهر واضح" لا يخفى أمره على مسلم يعيش بين المسلمين (والحرام): الممنوع شرعًا (بيِّن) واضح لا يخفى ولا يُشكل، فالحلال واضح والحرام واضح.
(وبينهما) بين الحلال والحرام (مُشبَّهات)؛ أي مشكلات غير واضحات، هل هنَّ من الحلال أم من الحرام! قال الحافظ ابن حجر: (بوزن مُفعَّلات المُشبَّهات وهي رواية مسلم أي شُبِّهت بغيرها ممَّا لم يتبين به حكمها على التعيين، وفي رواية الأصيلي مشتبهات بوزن مفتعلات وهي رواية ابن ماجه وهو لفظ ابن عون والمعنى أنها موحدة اكتسبت الشبه من وجهين متعارضين، ورواه الدارميُّ عن أبي نُعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: ((وبينهما متشابهات)).) انتهى كلامه رحمه الله.
جاء لفظ مُشبَّهات في الأحاديث على خمس روايات، منها التي ذكرها الحافظ، ذكرها كلَّها العينيُّ في عمدة القاري، وقال: والكلُّ مِن اشْتَبَهَ الأمر إذا لم يتضح، ثم ذكر الفروق بينها، كلها تجتمع في هذا المعنى، ثم بينها فروق دقيقة.
(لا يعلمها كثير من الناس)؛ يشكل على كثير من الناس أمرها هي غير واضحة لهم؛ هل هي حلال ولا هي حرام؟ لكن يعلمها بعض الناس وهم العلماء، قال النووي رحمه الله: (وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحلالُ بيِّن والحرامُ بيِّن))؛ فمعناه أنَّ الأشياء ثلاثة أقسام؛ حلال بيِّن واضح لا يخفى حِلُّه؛ كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن ولبن مأكول اللحم؛ لبن مأكول اللحم؛ لبن الغنم لبن البقر لبن الإبل هذا المأكول لحمه، ولبن مأكول اللحم وبيضه كبَيضِ الدجاج وغير ذلك من المطعومات، كذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات فيها حلال بيِّن واضح لا شك في حِلِّه، وأما الحرام البيِّن فكالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح، وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية وأشباه ذلك، وأما المشتبهات فمعناه أنها ليست بواضحة الحِلِّ والحرمة، ولهذا لا يعرفها كثير من الناس ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك)، إلى آخر ما قال رحمه الله.
(فمن اتقى)؛ فمن كان حذرًا من (المُشَبَّهات) واجتنبهنَّ (استبرأ) طلب البراءة والسلامة من الذم والنقص (لدينه) لأجل دينه فيسلم له دينه، (وعرضه) العرض: هو موضع المدح والذم من الإنسان"، موضع المدح والذم من الإنسان، وقالوا: (إذا ذُكر عرض فلان فمعناه أموره التي يرتفع بها أو يسقط بذكرها ومن جهتها يُمدح ويُذمُّ)، والمعنى؛ قال الشراح: "وصان عرضه عن كلام الناس فيه؛ أي برأ دينه من النقص وعرضه من الطعن فيه؛ لأن من لم يُعرف باجتناب الشُّبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة أيضا"، قال البغوي في شرح السنة: "فيه دليل على جواز الجرح والتعديل، وأنَّ مَن لم يتوقَّ الشُّبَه في كسبه ومعاشه فقد عرَّض دينه وعرضه للطعن"، انتهى الكلام رحمه الله.
(ومن وقع في الشبهات) أي فعل الأمور المشكلة غير الواضحة له في حلها وحرمتها ولم يجتنبها ( كراعٍ)، هذا تشبيه له بالراعي أي مَثَلُه مَثَلُ راعٍ (يرعى) غنمه أو بقره أو إبله (حول الحمى)، الحمى: موضع الرعي، كان عند العرب قديمًا وعند السلاطين أيضا عادة أنَّهم يُشَيِّدون قطعة أرض أو يحددون قطعة أرض تكون هذه القطعة لمواشيهم ترعى في هذا المكان ويمنعون غيرهم من الرعي فيها، ومن رعى فيها يُعرِّض نفسه للعقوبة، هذا أصل الحمى، فمن رعى غنمه حول الحمى (يوشك) يقرب هذا الراعي (أن يُواقعه) يقع فيه فتدخل غنمه الحمى وترعى فيه.
قال الشراح: "هذا مثل ضربه لمحارم الله عز وجل، وأصله أنَّ العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها وتخوِّف وتُهدد بالعقوبة من وقع في الحمى، وكذلك يفعل بعض السلاطين؛ فالخائف من عقوبة السلطان يُبعِد ماشيته عن ذلك الحمى؛ لأنه إن قَرُب منه فالغالب الوقوع فيه؛ لأن القطيع يمشي ويتنقل فربما دخل بعضه الحمى لأنه قريب ولا ينضبط، فالذي ينبغي أن يُفعَل للحذر من ذلك أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة يأمن فيها من الوقوع في ذلك، وهكذا محارم الله عز وجل من القتل والربا والسرقة وشرب الخمر والقذف والغيبة والنميمة ونحو ذلك، لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها" انتهى بتصرف.
قال البغوي: "ونوع من الاشتباه أن يقع للرجل حادثة يشتبه عليه وجه الحكم فيها بين الحِّل والحرمة، فسبيله إن كان عالما أن يجتهد، وإن كان عامِّيًّا أن يسأل أهل العلم، ولا يجوز له سلوك سبيل الاستباحة من غير اجتهاد أو تقليد مجتهد إن كان عاميا" انتهى.
يعني إذا علم حكمها لم تعد من المتشابه، من صور المتشابه التي تحتاج إلى الورع؛ ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التمرة التي وجدها في الطريق، قال عليه الصلاة والسلام: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها"، هي كانت في الطريق احتمال أن تكون من الصدقة واحتمال أن لا تكون من الصدقة، فاشتبهت عليه صلى الله عليه وسلم في كونها من الصدقة التي هي محرمة عليه عليه الصلاة والسلام أو من غير الصدقة فتحل له يأكلها، فلما اشتبهت عليه تركها، هكذا يكون الورع.
قال الحافظ هنا البعض يبالغ في التورع بحيث يقع في الخطر، إذًا الذي يريد أن يبالغ في التورع إذا اختلف أهل العلم في مسألة أهي حلال ولا حرام، ايش يفعل؟ يذهب إلى الحرام مباشرة، ليش؟ يريد أن يتورع! هذا ليس تورُّعًا، في كل خلاف يحصل بين أهل العلم تذهب وتأخذ بالحرام بالأشد! كما أنه كل خلاف يحصل بين أهل العلم تذهب وتأخذ بالأسهل! لا هذا من التورع ولا هذا من الدين، الأصل إذا كنت عالمًا أن تبحث عن المسألة بأدلتها، إن كنت جاهلًا أن تسأل أهل العلم الذين تثق بعلمهم ودينهم وتأخذ بقولهم، نعم ربما يقوى الخلاف وتشتبه الأمور حتى عند أهل العلم، عندئذٍ نقول إذا كان المسألة فيها سعة ممكن أن تتورع فيها تورَّع، لكن هكذا أن تأخذ هذا ميزانًا مستمرًّا في كل خلاف يحصل بين العلماء هذا خطأ، تدخل في الشدة وفي الغلو المذموم، ربما يؤدي هذا إلى انتكاستك وإلى الإضرار بمن حولك.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "قسَم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين، وهذا إنما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه وهو ممن لا يعلمها؛ فأما من كان عالما بها اتَّبع ما دلَّه علمه عليها، فذلك قسم ثالث لم يذكره لظهور حكمه، فإنَّ هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة -من ظهرت له المسألة وعلمها هي حلال أم حرام- قال لأنه علم حكم الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس واتَّبع علمه في ذلك، وأما من لم يعلم حكم الله فيها فهم قسمان؛ أحدهما: من يتقي هذه الشبهات لاشتباهها عليه فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه، وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: فمن تركها استبراءً لدينه وعرضه فقد سلم -سبب تركه لها هو أنه يريد السلامة لدينه وعرضه لا لشيء آخر، فهذا يسلم له دينه- قال والمعنى أنه يتركها لهذا القصد وهو براءة دينه وعرضه من النقص لا لغرض آخر فاسد من رياء ونحوه، وفيه دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين -يعني ربما تترك شيئا تريد أن تفعله حتى الناس لا يتكلمون فيك ولا يطعنون فيك، هذا صحيح؟! نعم صحيح- ولهذا ورد أنَّ ما وقى به المرء عرضه فهو صدقة، وفي رواية في الصحيحين من هذا الحديث "فمن ترك ما يُشتبَه عليه من الإِثم أو ما يَشتبِه عليه من الإثم كان لما استبان أترك" -إذا ترك ما يشتبه عليه، فكيف ما هو بيِّن وواضح له بأنه حرام؟! من باب أولى أن يتركه- يعني أن من ترك الإثم مع اشتباهه عليه وعدم تحققه فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم، وهذا إذا كان تحرُّزًا من الإثم، فأما من يقصد التصنع للناس فإنه لا يترك إلا ما يظنُّ أنه ممدوح عندهم تركُه. القسم الثاني: من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده؛ فأما من أتى شيئا مما يظنه الناس شبهة لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر فلا حرج عليه من الله في ذلك -لكن يعني هذا هو بالنسبة له المسألة واضحة؛ حلال أو حرام، لكنها مشتبة على بعض الناس وعلى كثير من الناس- قال: هذا إذا فعلها لا حرج في ذلك، ولم يدخل في فعل المشتبهات بالنسبة له، قال: لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك -ماذا يفعل؟!- كان تركها حينئذٍ استبراءً لعرضه، فيكون حسنًا".
والأولى بذلك طلبة العلم هذا من عندي ليس كلام ابن رجب، سنرجع لكلام ابن رجب، الأولى بهذا طلبة العلم حتى اذا كانت المسألة أنت تراها جائزة لكنها عند الناس مذمومة أو أنهم يرون أنها حرام أو أنها مما اشتبه عليهم فيها الأمر؛ أنت طالب علم استبراءً لعرضِك لا تفعلها أمام الناس أصلا، ليش؟ هذا لحفظ عرضك أولا من الوقوع فيه وهذا أمر مطلوب، الأمر الثاني: حماية للدعوة التي تدعو إليها، وللدين الذي تريد من الناس أن يتبعوه، فالناس إذا رأتك تفعل أشياء لا يظنُّون بها إلا أنها حرام؛ قال سيسيئون الظنَّ بك وستسقط دعوتك عندهم، كيف يقبلون منك بعد ذلك؟! لا يحسنُ من طالب العلم أن يُظهِر خلاف الناس في أمور دينهم التي يعتقدون أنها دين وأنها حق وتربَّوْا على هذا ولها أصول صحيحة من أقوال بعض أهل العلم، فلذلك لابد من مراعاة هذا الأمر، يعني بعض الناس يقول: أنا أرى أنه يجوز أن تنظر إلى المرأة بغير حجاب، وأن تتربص لها وتتعمد أن تراها بهذه الطريقة عند خطبتها، عند الخطبة يقول هذا ثم يذهب يفعله أمام الناس! ماذا سيقول عنه الناس؟ وماذا سيظنون به؟ هذا باطل الفعل، لا يحق له أن يفعل هذا.
قال ابن رجب رحمه الله: "وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه واقفا مع صفية: ((إنها صفية بنت حييّ)) متفق عليه. هكذا يكون الذبُّ عن عرض نفسك عن عرضك، حتى وإن كان أمرا مباحا، لذلك النبي صلى الله إيش قال لهؤلاء؟ قالوا يا رسول الله سبحان الله يعني نشك فيك أنت؟! قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدَّم، هذا في الشيء هو مباح له، لكن إغلاق الطريق على الشيطان. وقال: (وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال؛ إما باجتهاد سائغ أو تقليد سائغ وكان مخطئا في اعتقاده فحكمه حكم الذي قبله، فإن كان الاجتهاد ضعيفًا أو التقليد غير سائغ، وإنما حمله عليه مجرد اتباع الهوى فحكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه، والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه فقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في الحرام وهذا يُفسَّر بمعنيين"، الآن انتقلنا إلى مسألة أخرى، هذه المتشابهات إذا فعلها الشخص هل فعل حرامًا؟ هذه مسألتنا الآن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يوشك أن يواقعه" ما قال وقع فيه، ولذلك قال ابن رجب رحمه الله: (هذا يُفسَّر بمعنيين؛ أحدهما أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعةً إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح) شيء فشيء يتساهل في الأمور وشوي شوي يقع في الحرام، (وفي رواية في الصحيحين في هذا الحديث ((ومن اجترأ على ما يُشَكُّ فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان)) -يعني هذه المشتبهات ايش بتكون؟ بتكون طريق إلى الوقوع في الحرام فهي من باب سد الذرائع؛ تقطع الطريق على الوصول إلى الحرام بترك المشتبهات- وفي رواية ((ومن يخالط الريبة يوشك أن يَجسُر)) أي يقرُب أن يُقدم على الحرام المحض، "الجَسور: المقدام الذي لا يهاب شيئا ولا يراقب أحدا" -هذا المعنى الأول- المعنى الثاني أنَّ من أقدم على ما هو مشتبه عنده لا يدري أهو حلال أو حرام، فإنَّه لا يأمن أن يكون حرامًا في نفس الأمر، فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام)، يعني مثلا يكون عنده كأس ثانٍ من الماء؛ كأس وقعت فيه نجاسة فنجَّسته، وكأس لم تقع فيه نجاسة، اشتبه عليه الأمر؛ يشرب من هذا أم من هذا؟ هنا إذا اشتبه عليه الأمر وشرب من واحدة منهما احتمال أن يكون شرب حرامًا، أو يكون الكأس هذا فيه خمر مثلا يشبه العصير أو ما شابه، فشرب منه حينئذٍ يكون احتمال أن يكون قد وقع في الحرام، هذا مقصوده هنا. قال: (وقد روي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات، فمن اتقاها كان أنزه لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام؛ كالمُرتِع حول الحمى يوشك أن يُواقع الحمى وهو لا يشعر)) أخرجه الطبراني وغيره باختصار).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ومن وقع في الشبهات أي فعلها وقع في الحرام هذه الجملة تحتمل معنيين؛ الأول: أن ممارسة المشتبهات حرام، الثاني: أنه ذريعة إلى الوقوع في المحرم، وبالنظر في المثال الذي ضربه صلى الله عليه وسلم يتضح لنا أي يتضح لنا أي المعنيين أصح، والمثال المضروب كالراعي ثم فسَّر الشيخ الراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، قال: أي يقرب أن يقع فيه؛ لأن البهائم إذا رأت هذه الأرض المحمية مُخضرَّة مملوءة من العشب فسوف تدخل هذه القطعة المحمية ويصعب منعها، كذلك المشتبهات إذا حام حولها العبد فإنه يصعب عليه أن يمنع نفسه عنها، وبهذا المثل يَقرُب أنَّ معنى قوله: "من وقع في الشبهات وقع في الحرام" أوشك أن يقع في الحرام؛ لأن المثال يوضِّح المعنى" انتهى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا): أداة استفتاح فائدتها التنبيه على ما سيأتي.
(وإنَّ لكل مِلك حِمى) كل ملك له حمى يمنع غيره من دخوله، ويتوعد من قَرُب منه بالعقوبة، (ألا إنَّ حِمى الله في أرضه محارمه) أي معاصيه التي حرمها؛ كالقتل والسرقة والزنا، فمن دخل حماه بارتكاب شيء منها استحقَّ العقوبة، ومن قارب يوشك أن يقع فيه، فالمحطاط لدينه لا يقرب هذا الحمى.
(ألا وإن في الجسد مضغة) يعني قطعة من اللحم سُمِّيت بذلك لأنها تُمضَغ في الفم لصغرها، (إذا صلحت) شرحها الله بالهداية (صلح الجسد كله) بالانقياد والطاعة، (وإذا فسدت) وأظلمت بالضلالة (فسد الجسد كله)، فلم ينقد عَمِل بالمعاصي، (ألا وهي القلب)، هذه هي المضغة هي الأصل والجوارح تبع لها.
قال ابن رجب: "فيه إشارة إلى أنَّ صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلُّها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلِّها، وتُوُقِّي للشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع هواه وطلب ما يحبه ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلُّها، وانبعثت إلى كلِّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتباعها والقلب، ولهذا يُقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملك صالحا كانت هذه الجنود صالحة وإن كان فاسدا كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم" انتهى.
خلاصة الأمر أنَّ القلب هو المحرك الذي يحرك الإنسان إما إلى الخير أو إلى الشر، فإن كان هذا القلب صالحا حرَّكك إلى الخير ومن هذا الخير هو الابتعاد عن المتشابهات، وإذا كان فاسدًا حرَّكك إلى الشر والباطل، فلذلك يقول العلماء بأنَّ القلب هو الملك، والجوارح جنود لكن يوجد تلازم، إذا أمر الملك انقاد الجنود خيرا أو شرا، وإذا تحرَّك الجنود فمعنى ذلك أنَّ الملك قد أمر، إذًا التلازم موجود بين الظاهر والباطن، الإيمان الظاهر والإيمان الباطن مرتبطان مع بعضهما إذا لم يُؤثِّر عليهما شيء خارجيّ، كالإكراه أو غيره، فإذًا الظاهر علامة صلاح الباطن والباطن علامة صلاح الظاهر والظاهر علامة فساد الباطن والباطن علامة فساد الظاهر، إذًا هما مرتبطان مع بعضهما صلاحًا وفسادًا كما يدل عليه هذا الحديث، لا يفترقان عن بعضهما إلا إذا وُجدت مؤثرات خارجية؛ كأنْ يُظهر الإنسان العمل الفاسد في حال أن يكون مكرها عليه وهو لا يريده، هنا صار في عندي إكراه في شيء خارجي، تأثير خارجي عليه، لكن بدون هذه المؤثرات الخارجية ما في قلبك يظهر على الجوارح؛ صلاحًا وفسادًا.
قال النووي رحمه الله: "أجمع العلماء على عظم وَقْعِ هذا الحديث وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة: هو ثلث الإسلام وأنَّ الإسلام يدور عليه وعلى حديث الأعمال بالنية، وحديث مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وقال أبو داوود السجستاني: يدور على أربعة أحاديث، هذه الثلاثة وحديث: لا يُؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه.
وقيل: حديث: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس.
قال العلماء: "وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبَّه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه، وحذَّر من مواقعة الشبهات وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، ثم بيَّن أهم الأمور وهو مراعاة القلب، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإنَّ في الجسد مضغة)) إلى آخره، فبيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّ صلاح القلب يُصلح باقي الجسد، وفسادُه يُفسد باقيه) انتهى.
وقال البغوي في شرح السنة: (وهذا الحديث أصل في الورع، وهو أنَّ ما شَكَّ في إباحته يتوقَّاه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن)).) انتهى.
وقال ابن رجب: (ويستدل بهذا الحديث من يذهب إلى سدِّ الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها) طبعا مسألة سدِّ الذرائع مسألة خلافية بين العلماء، قال بها الكثير منهم وبعضهم منعها ينسبون هذا القول للإمام مالك رحمه الله، وردَّ هذا القول الشيخ الشنقيطي رحمه الله في المذكرة، قال: (ويدلُّ على ذلك أيضا من قواعد الشريعة تحريم قليل ما يسكر كثيره، وتحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر سدًّا لذريعة الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، ومنع الصائم من المباشرة إذا كانت تُحرِّك شهوته، ومنعَ كثير من العلماء مباشرة الحائض فيما بين سُرَّتها وركبتها إلا من وراء حائل؛ كما كان صلى الله عليه وسلم يأمر امرأته إذا كانت حائضا أن تَتَّزر فيباشرها من فوق الإزار، ومن أمثلة ذلك وهو شبيه بالمثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مَن سيَّب دابته ترعى بقرب زرع غيره فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع، ولو كان ذلك نهارا وهذا هو الصحيح؛ لأنه مفرط بإرسالها في هذه الحالة) انتهى.
والكلام طويل اختصرنا منه هذا، وأحسن شرح لهذا الحديث هو شرح ابن رجب في جامع العلوم والحكم راجعوه مفيد جدا، وأيضا شرح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ذكر في آخر هذا الحديث مجموعة من الفوائد التي تُستفاد من هذا الحديث بشرحه على الأربعين النووية، تركتُ ذكرها اختصارا.
رجال الإسناد كلهم كوفيُّون، والنعمان بن بشير دخل الكوفة وولي إمرتها. قال ابن رجب: (هو حديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص والمعنى واحد أو متقارب، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وعمار بن ياسر وجابر وابن مسعود وابن عباس وحديث النعمان، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب).
قال ابن حجر: (فائدة: ادَّعى أبو عمرو الدَّاني أنَّ هذا الحديث لم يروِه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير النعمان بن بشير، فإن أراد من وجه صحيح فمُسَلَّم، وإلا فقد رُوِّيناه من حديث ابن عمر وعمار في الأوسط للطبراني، ومن حديث ابن عباس في الكبير له، ومن حديث واثلة في الترغيب للأصبهاني، وفي أسانيدها مقال، وادَّعى أيضا أنه لم يروه عن النعمان غير الشعبي وليس كما قال، قد رواه عن النعمان أيضا خيثمة بن عبد الرحمن عند أحمد وغيره، وعبد الملك بن عُمير عند أبي عُوانة وغيره. وسِمَاك بن حرب عند الطبراني لكنَّه مشهور عن الشعبي، رواه عنه جمع جمٌّ من الكوفيين، ورواه عنه من البصريين عبدالله بن عون، وقد ساق البخاري إسناده في البيوع ولم يَسُق لفظه، وساقه أبو داود. انتهى. والله أعلم