الدرس الثالث والعشرون/السبت بتاريخ: 29/03/1445 - 14/10/2023
الحمد لله رب العالمين، أما بعد:
فمعنا اليوم الدرس الثالث والعشرون من دروس شرح صحيح البخاري، نبدأ إن شاء الله بالحديث الثامن والستين.
وقبل ذلك نذكِّر عندما تنزل بالمسلمين نازلة جديدة ومصيبة تتوجه إليها أنظار النَّاس ويهتمُّون بها وينسون ما قبلها، وينشغلون بالجديدة.
مازالت دماء إخواننا السوريين تسيل، والعدوان الأسَدي ومن حالفه لايزال متسلطًا عليهم متجبِّرًا فيهم، فلا تنسَوا الدعاء لهم ولا تنقطعوا عنه فالدعاء فيه خير كثير، والله سبحانه وتعالى يستجيب دعاء من شاء من عباده، فلعل الله يستجيب لأحدنا فيهم فيخفف عنهم ما هم فيه.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصرهم، وأن يثبِّتهم، وأن يصبِّرهم، وأن يردَّهم إلى ديارهم آمنين سالمين بإذنه تعالى، والله أعلم.
"بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَيْ لَا يَنْفِرُوا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ؛ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا"
قال رحمه الله: "باب ما كان النبي ﷺ يتخوَّلهم" أي: يتعهَّد أصحابه "بالموعظة" بالنصح والتذكير بالعواقب "والعلم كي لا ينفروا" أي: لئلا يملوا عنه ويتباعدوا منه، أي: لا يُديم وعظهم؛ بل يتخولهم بها أحيانًا، ينظر حالاتهم التي ينشَطون فيها للموعظة والذكر فيعظهم فيها، ولا يكثر عليهم حتى لا يصيبَهم الملل، يريد والله أعلم تعليم طريقة الوعظ والتذكير وهي عدم المداومة عليه كل يوم؛ بل تحرِّي وقت نشاط النَّاس ورغبتِهم، فيعظهم حتى لا يسأموا وينفروا، وكذلك تعليم العلم لابد فيه من مراعاة أحوال المتعلِّمين كي تحصلَ الفائدة ولا يسأموا منه.
"حدثنا محمد بن يوسف" هو ابن واقدٍ بنِ عُثمانَ الضَّبِّي مولاهم، أبو عبد الله الفريابي، نزيل قَيساريَّة من ساحل الشام، يروي عن أتباع التابعين، ثقة فاضل مات سنة 212 روى له الجماعة.
قال أبو بكر بنُ أبي خَيثَمة: (سمعت يحيى بن مَعين وسُئل عن أصحاب الثوري أيُّهم أثبت؟ فقال: هم خمسة: يحيى القطَّان، ووكيع، وابن المبارك، وابن مَهدي، وأبو نُعَيم الفضلُ بن دُكَين، وأما الفِريابي، وأبو حُذَيفة قبيصةُ بن عقبة، وعبيد الله، وأبو عاصم، وأبو أحمد الزُّبَيري، وعبد الرزَّاق وطبقتُهم فهم كلُّهم في سفيان بعضُهم قريبٌ من بعضٍ، وهم ثقاتٌ كلُّهم دون أولئك في الضبط والمعرفة)
فجعل أصحاب سفيان هنا في هؤلاء الذين ذكرهم جعلهم طبقتين: طبقة عليا، وطبقة أدنى منها، وهذه الطبقة الثانية هي التي وضع فيها محمد بن يوسف الفِريابي الذي معنا.
قال البخاري رحمه الله: (رأيت قومًا دخلوا على محمد بن يوسف الفريابي فقيل لمحمد بن يوسف: يا أبا عبد الله إنَّ هؤلاء مرجئة) أي: الذين دخلوا عليك (فقال: أخرجوهم، فتابوا ورَجَعوا)
هكذا كان السلف يتعاملون مع أهل البدع، لا يقبلون بمجالستهم ولا الدخولَ عليهم.
وقال أحمد العِجْلي: (سألتُ الفريابي: ما تقول؟ أبو بكرٍ أفضل أو لُقمان؟ فقال: ما سمعت هذا إلا منك، أبو بكرٍ أفضل من لقمان) -بناء على أنَّ لقمان ليس نبيًا-
وقال العِجلي أيضًا: قال بعض البغداديين: أخطأ محمد بن يوسُف في خمسينَ ومئةِ حديثٍ من حديث سفيان.
وقال أبو أحمد بن عَدِيٍّ: (له عن الثَّوريِّ إفرادات، وله حديث كثير عن الثوري، وقد تقدَّم الفريابي في سفيانَ الثوري على جماعةٍ مثلِ عبد الرزَّاق ونظرائه، وقالوا: الفريابي أعلم بالثوري منهم، ورحل إليه أحمد بن حنبل فلما قَرُبَ من قَيْسارية نُعِيَ إليه، فعدَل إلى حمص، وكان رحل إليه قاصدًا... والفريابي فيما يتبيَّن صدوقٌ لا بأس به)
قال الفريابي: (قال لي سفيان الثوري يومًا وقد اجتمع الناس عليه: يا محمد ترى هؤلاء ما أكثرهم؟)
الكلام عمَّن؟ عمَّن جاؤوا يطلبون العلم عند سفيان، قال: (ترى هؤلاء ما أكثرهم) كُثُر (ثلثٌ يموتون، وثلثٌ يتركون هذا الذي يسمعونه، ومنَ الثلث الآخِر ما أقلَّ من ينجُب)
هذا حال طلبة العلم، طلبة العلم يطلبون العلم كثير؛ لكنْ الذي ينجُب فيه ويستفيد ويُفيد قِلَّةٌ نَوادِرٌ، حتى إن بعض أهل العلم ذكر أن أمامَه كان آلافٌ فقالوا له: كم ينجُبُ منهم؟ قال: خمسة، قال الراوي: فما نجَب منهم إلا خمسة، هذه سنَّة الله في خلقه.
"قال: أخبرنا سفيان" هو ابن سعيد بن مسروقٍ الثَّوري إمام -تقدم- أبو عبد الله الكوفي.
قال ابن حجر: (قوله: "سفيان" هو الثوري، وقد رواه أحمد في مسنده عن ابن عُيَيْنَة؛ لكنْ محمد بن يوسف الفريابي وإن كان يروي عن السُفيانَين فإنه حين يُطلِق يريد به الثوري، كما أنَّ البخاري حيث يُطلِق محمدَ بنَ يوسُفَ لا يريد به إلا الفريابي، وإن كان يروي عن محمد بن يوسف البيكندي أيضّا وقد وَهِمَ من زعم أنه هنا البيكندي) انتهى.
الخلاف حاصل لكنْ -على كل حال- كيفما دار الإسناد دار على ثقة، وهم مُتابَعون .
"عن الأعمش" سليمانُ بنُ مِهران الأسدي الكاهِلي ثقة حافظ أحد أئمة الحديث مُدلِّس؛ لكنْ روى عنه هنا شعبة ليس في صحيح البخاري هذا الحديث رواه عنه شُعبَة في غير الصحيحين، وصرَّح بالسماع في صحيح البخاري، وهو مُتابَعٌ عند مسلم وغيره، فزال الإشكال تمامًا بحمد الله، هي واحدة من هذه الثلاث تُزِيل إشكال التَّدليس فكيفَ إذا اجتمعت؟!
"عن أبي وائل" شقيق بن سلَمة الأسدي ثقة حجّة عابد عالم -تقدّم-.
"عن ابن مسعود" رضي الله عنه -تقدَّم- "قال: كان النبي ﷺ يتخولنا" يعني يتعاهدنا "بالموعظة في الأيام" فكان يراعي الأوقات في وعظنا، فلا يفعله كل يوم "كراهة السآمة علينا" هذا هو السبب أنه ما كان يداوم على موعظتهم ﷺ، أي يطلب أحوال الصحابة التي ينشَطون فيها للموعظة فيعِظُهم ولا يُكثِر عليهم فيمَلُّوا فيفوت مقصودها.
الحديث متفق عليه.
هذا هو الأصل: أن يُراعيَ الشيخ أحوال الطلبة حتى لا يملوا من الدروس؛ لكنْ هل هذا الذي ذكره هنا في هذا الحديث هو دائمًا ولا يصِحُّ غيرُه؟ لا، فقد جاء في الصحيح أن النبي ﷺ في ذات يوم صلى الفجر ثم قام فيهم خطيبّا حتى أذَّن الظهر، فنزل فصلَّى الظهر، ثم قام خطيبًا حتى أذَّن العصر، فنزل فصلَّى العصر، ثم قام خطيبًا حتى أذَّن المغرب، نهار كامل وهو يخطب فيهم ﷺ قال الراوي: فأخبرنا النبي ﷺ بكل شيء كان وسيكون، وأكثرنا علمًا أحفظنا -وهو حذيفة قائل هذا الكلام- وسيأتي هذا الحديث إن شاء الله.
إذًا هذا ليس على عمومه، يجوز أيضًا الإطالة إذا علم الشيخ من تلاميذه الصبر على الإطالة، وعدم الملل.
قال المؤلف رحمه الله: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَ بشّروا وَلَا تُنَفِّرُوا»"
"حدَّثنا محمَّدُ بنُ بشَّار" هو ابن عُثمانَ العَبْدي، أبو بكر البَصْري بُنْدَار، وإنما قيل له بُندار لأنه كان بُندار الحديث، أي مُكثرًا منه، البندار من يكون مُكثِرًا من الشيء يشتريه منه مَن هو دونه ثم يبيعه؛ قاله أبو سعدٍ السَّمعاني، يروي عن أتباع التابعين، هو ثقة مات سنة 252، روى له الجماعة.
"قال: حدثنا يحيى" وفي روايةٍ "ابنُ سعيد" -هكذا عندي- النسخة التي بين يديَّ يحيى، وفي هامشها في رواية أبي ذر والأصيل ورواية السمعاني عن أبي الواقد زيادةَ: "ابن سعيد" ومثبتة في بعض النسخ، ابن سعيد: هو ابن فُرُّوخ، أبو سعيدٍ القطَّان ثقة حافظ إمام معروف، هو الإمام المعروف العالم في الجرح والتعديل.
"قال: حدثنا شعبة" هو ابن الحجَّاج أبو بِسْطَام الإمام، أمير المؤمنين في الحديث.
"قال: حدثني أبو التيَّاح" يزيد بن حُمَيدٍ الضُّبَعي البَصْري تابعي ثقة ثَبت، مات سنة 128، روى له الجماعة.
"عن أنس" ابن مالكٍ رضي الله عنه -تقدَّم- "عن النبي ﷺ قال: «يَسِّروا" هذا أمرٌ بالتيسير من اليسر نقيض العسر، "ولا تُعسِّروا" ولا تشدِّدوا.
يلزم من قوله ﷺ يسِّروا أن لا تعسِّروا فلماذا ذكرَها؟ قال: يسِّروا ولا تعسِّروا؟ يسِّروا يعني لا تعسروا، الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدِّه كما مرَّ معكم في أصول الفقه، وعرفتم الفرق هناك بين قولنا الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، والأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده، من عرف عرف، من لم يعرف يراجع، إي نعم.
لكنْ الظاهر أنه ذكره ونصَّص عليه تأكيدًا؛ ليؤكِّد هذا.
"و بشّروا" أمر من البِشَارة، وهي الإخبار بالخير، وهي نقيض النِّذارة وهي الإخبار بالشَّر، "ولا تُنفِّروا»" نهي عن التنفير، وهو الهروب والفرار، يعني اسلكوا ما فيه اليسر والسهولة سواءٌ كان مما يتعلق بأعمالكم أو بمعاملاتكم مع غيركم من الناس، ولهذا كان النبي ﷺ من هديه أنه ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه، فاختر الأيسر لك في كل أحوالك، في العبادات، في المعاملات مع الناس، في كل شيء، لأن اليسر هو الذي يريده الله عز وجل منا ويريده بنا ﴿يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بكمُ العُسْرَ﴾
فمثلًا إذا كان لك طريقان إلى المسجد: أحدهما صعب فيه شوك وحصًى وحجارة وأشياء...، والثاني سهل، فالأفضل أن تسلك الأسهل، وكذلك الحج ميسر لك أن تحج بالطائرة وأن تحج بالسيارة، حج بالطائرة لأن هذا أيسر وأسهل لك، فكل ما كان أيسر فهو أفضل ما لم يكن إثمًا، لِما قالته أم المؤمنين رضي الله عنها، أما إذا كان فعل العبادة لا يتأتى إلا بمشقة وهذه المشقة لا تسقطها عنك وفعلتها على مشقة فهذا أجر زائد تأخذه، فالأجر على قدر المشقة، مثل إسباغ الوضوء على المكاره يرفع الدرجات، لكن كون الإنسان يذهب إلى الأصعب مع إمكان الأسهل هذا خلاف الأفضل، فالأفضل اتباع الأسهل في كل شيء، هكذا أراد الله سبحانه وتعالى وهذا أمر النبي ﷺ بهذا.
"ولا تُعَسِّروا" أي لا تسلكوا طرق العسر، لا في عباداتكم، ولا في معاملاتكم مع الناس، ولا في غير ذلك... فإن هذا منهي عنه، فلا تعسر؛ ولهذا لما رأى النبي ﷺ رجلًا واقفًا في الشمس سأل عنه قالوا: يا رسول الله هو صائم، نذر أن يصوم ويقف في الشمس، فنهاه، وقال: لا تقف في الشمس؛ لأن هذا فيه عسر على الإنسان ومشقة والرسول ﷺ قال: «لا تعسروا».
"و بشّروا" يعني اجعلوا طريقكم دائمًا البشارة، بشّروا أنفسكم و بشّروا غيركم، بشّر نفسك وغيرك، بشّر من آمن بالجنة، ومن أطاع بالقبول، ومن دعا بإجابة الدعاء، ومن مرض بالشفاء، ومن خرج مجاهدًا بالنصر أو الشهادة، بشّر نفسك بهذا، وبشّر غيرك أيضًا، فاجعل طريقك هكذا فيما تعامل به نفسك، وفيما تعامل به غيرك، البشارة، أدخل السرور على نفسك، وأدخل السرور على غيرك، فهذا هو الخير.
"ولا تنفِّروا»" يعني لا تنفروا الناس عن الأعمال الصالحة، ولا تنفروهم عن الطرق السليمة؛ بل شجعوهم عليها، حتى في العبادات، لا تنفروهم، ومن ذلك أن يطيل الإمام بالجماعة أكثر من السنة، فإن معاذًا بن جبل رضي الله عنه كان إذا صلى مع النبي ﷺ صلاة العشاء ذهب إلى قومه فصلى بهم وأطال، فدخل يومًا في الصلاة فأطال فيها، فانصرف رجل فصلى وحده وقيل: نافق فلان، فذهب رجل إلى النبي ﷺ ثم إن معاذًا أتى إلى النبي ﷺ فقال له: «أفَتَّانٌ أنت يا معاذ؟» لماذا قال له: «أفتَّانٌ أنت يا معاذ؟» تفتن الرجل هذا عن دينه؟ ترك صلاة الجماعة لأجل إطالتك؛ إذن هذا فيه تنفير، فما فيه تنفير للناس عن دينهم ابتعد عنه، ولا تسلكه.
وقال ﷺ فيمن يطوّل في صلاة الجماعة بالناس: «إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة» فالتنفير لا ينبغي، فلا تنفر الناس؛ بل لِن لهم حتى في الدعوة إلى الله عز وجل، لا تدعهم إلى الله دعوة منفر، لا تقل إذا رأيت إنسانًا على خطأ: يا فلان أنت على خطأ خالفت وفعلت وكذا وأنت عصيت الله سبحانه وتعالى وأنت فيك وفيك وفيك، لا، هذا أسلوب منفر، اجعل أسلوبك سهلًا طيبًا تتقبله النفوس.
الغاية التي تريد أن تصل إليها واحدة أنت والآخر، تسلك فيها مسلك الغلظة والشدة والتنفير، والآخر يسلك فيها مسلك السهولة والليونة والكلمة الطيبة فهذه الثانية هي المطلوبة، الأولى منهي عنها لأن فيها تنفيرًا، وفي الغالب لا يُقبل منك ويُقبل من الآخر.
فهذا مطلوب دائمًا الدعوة بالهُون واللين حتى يألفك الناس ويقبلوا منك، وأنت في الأصل تفعل ذلك طاعة للنبي ﷺ تُبشّر ولا تُنفِّر، هذا الحديث احفظه جيدًا واستحضره في حالاتك، امش على هذه الطريقة.
قال الشُّرَّاح: (والمراد تأليف من قرُب إسلامه، وترك التَّشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزَّجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطُّفٍ ليُقبَل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتداءه سهلًا حُبِّبَ إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط وكانت عاقبته غالبًا الازدياد بخلاف ضده والله تعالى أعلم)
لعل هذا مراد البخاري من ذكر هذا الحديث هنا، إعطاء العلم بيُسر وسهولة.
هذا الحديث يُبيِّن لنا الخطأ الذي يقع فيه كثير من الناس في دعوتهم، فهم يكونون منفرين في أساليبهم، وكلامهم، وعدم إحسانهمُ الحكمة في طرح المسائل، وهذا موجود على مواقع التواصل بكثرة، أساليب غير شرعية، غير صحيحة، وإن كان مقصود المتكلم صحيح، والحُكم الذي يذكره أحيانًا يكون صحيحًا؛ لكنَّ أسلوبه منفر، فهذا يكون قد أصاب من جهة وأخطأ من جهة وخالف قول النبي ﷺ: «ولا تنفِّروا»
لا بد من الأسلوب الحسن، وأفضل ما تفعله يا كاتب الإنترنت؛ بل هو الواجب أن تلتزم ما يفعله العلماء، العلماء يعرفون متى يتكلمون، وكيف يتكلمون، ما الكلمة التي ينبغي أن تُقال، وهل هو الوقت وقتها أم ليس بوقتها، فلا تقتحم المسائل من عندك وتخترع بمفردك فتقع في مخالفات شرعية كثيرة، منها هذا أنك تكون منفِّرًا، وتكون فتَّانًا تُوقِع النَّاس في الفتن.
الناس اليوم كثير منها يعبد الله على حرف، كثير من الناس على هذا، أنت بأُسلوبك تدفعه فتوقعه فتُهلكه أنت بأسلوبك تفعل هذا، وهذا موجود بكثرة، بعض الناس تتألَّفه على أشياء عظيمة من العقائد ويأتي شخص ينفِّره على مسألة أخفِّ من المسائل التي هو على حرْف فيها، هذا أسلوب سيء منفِّر وربَّما تكون سببًا في وقوع هذا في النار، وربما في كفره أيضًا وردَّته عن الإسلام، لا بدَّ أن تكون حكيمًا في تصرُّفك.
آخر شيء في هذا الباب، وهو: «يسِّروا ولا تُعسِّروا» ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ تعلَّقَ بهذه الأدلَّة العامَّة: أصحاب منهج التيسير، منهج التيسير هذا منهج فقهي، مذهب فقهي الآن حديثًا نتج، وهذا المذهب يعتمد على ماذا؟ على انتقاء أسهل الأقوال لأهل العلم في المسألة، يعني إذا جاءت مسألة علميَّة فيها أربعة أقوال ينظرون إلى أسهل هذه الأقوال ويتمسَّكون به ويُفتون به، حتى وإن صادم الدَّليل؟ نعم حتى وإن صادم الدليل، لا يهمُّهم الدَّليل.
هذا الفقه لا يقوم على قال الله، قال رسول الله ﷺ، ولا على إجماع، ولا على قياس، ولا على شيء، الذي يهمُّه ماذا؟ هل وُجِد عالِمٌ قال بهذا القول أم لا؟ هذا هو منهجهم، وهذا المنهج هو قريبٌ جدًّا من المنهج الذي قال فيه السلف رضي الله عنهم: من تتبَّع الرُّخص تزندق، لماذا؟ في النهاية يخرج من الدين.
فإذا قال بقول من أخذ بحِلِّ الموسيقى، قال بقول من أخذ بحِلِّ النَّبيذ، قال بقول من قال بحلِّ نِكاح المـُتعة، سيدخل البار وهو يعتقد بأنه لا يفعل حرامًا، صحيح؟ هذه النتيجة، هذا واقع وهذا موجود من يُطبّق مثل هذا، هذا هو منهج التيسير، حُجَّتهم هذه الأدلة، وأنَّ المشقَّة ليست من شرع الله، إذن لا بدَّ من التيسير على الناس ورفع المشقة.
موضوع المشقة موضوع طويل، لكنْ المشقة باختصار أنواع:
من أنواع المشقة ما هو ملازم للعبادة غالبًا، غالبًا لا ينفكُّ عنها، الجهاد فيه مشقة أم ليس فيه مشقة؟ الوضوء وخاصَّةً في الأجواء الباردة فيه مشقة أم ليس فيه مشقة؟ الخروج إلى المسجد لصلاة الجمعة أو غيرها فيه مشقة أو ليس فيه مشقة؟ فيه، والصيام فيه مشقة أم ليس فيه مشقة؟ الحج فيه مشقة أم لا؟ كلُّه فيه مشقة، إذا أردت أن تأخذ هذه الكلمة رفع المشقة إذن ليس هناك عبادات، ذهب كل الدين، ما هو المقصود بالمشقة؟
المشقة التي هي خارجة عن المـُعتاد، ولها ضوابط ضبطها العلماء عند شرح هذه القاعدة: "المشقة تجلب التيسير" وهي من القواعد الفقهية وشرَحَها العلماء وفصَّلوا فيها، وضبطوا المشقة، متى المشقة يجب أن تُحتَمل ولا تسقُط العبادة بها ومتى تُحتَمل، تفصيلات طويلة موضوعها في شرح هذه القاعدة، لكنْ هذا المنهج منهج فاسد وهو منتشر اليوم، هذا منهج فقهي منتشر، إذا علمت أن صاحبه ينتهج هذا المنهج فابتعد عنه وفرَّ منه فهذا ليس صاحب دين، هذا لا يفتي بقال الله قال رسول الله ﷺ؛ بل يفتي بقال زيد وقال عمرو بناءً على الأيسر الأسهل، حتى المذاهب لا يأخذ بالمذاهب، لا تهمه المذاهب، يهمه هل يوجد قول لعالم من العلماء قال بالقول الذي هو عليه أم لا؟ وهذا القول يجب أن يكون يسيرًا، أسهل الأقوال في المسألة فقط، هؤلاء خطيرون جدًا على دين الله سبحانه وتعالى، ميَّعوا الدين وضيَّعوا النَّاس وكانوا سببًا عظيمًا في هذا.
الحديث متفق عليه، أخرجه الشَّيخان وغيرُهما من طرُقٍ عن شُعبة به.
قال المؤلف رحمه الله: "بَابُ مَنْ جَعَلَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً
قال رحمه الله: "حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا؛ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا"
"بابُ من جعل لأهل العلم أيَّامًا معلومة" يعني من جعل يومًا معلومًا أو أيَّامًا معلوماتٍ لتعليم العلم الشرعي لطلابه، ففعله جائز، له أصل.
قال الشُّرَّاح: (وكأنَّه أخذ هذا من صنيع ابن مسعود في تذكيره كل خميس، أو من استنباط عبد الله ذلك من الحديث الذي أورده) انتهى.
"حدثنا عثمان بن أبي شيبة" هو عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي مولاهم، أبو الحسن ابن أبي شيبة الكوفي، أخو أبو بكر بن أبي شيبة والقاسم بن أبي شيبة وكان أكبر من أبي بكر، أبو بكر بن أبي شيبة صاحب المصنف هذا أخوه.
رحل إلى مكَّةَ والرَّي وكتب الكثير وصنَّف المسند والتفسير ونزل بغداد، يروي عن أتباع التابعين، ثقة حافظ، أنكروا عليه بعض الأحاديث، مات سنة 239 روى له الجماعة سوى التِّرمذي، وسوى النَّسائي روى عنه في "عمل اليوم والليلة"
"قال: حدَّثنا جرير" هو ابنُ عبد الحميد ابن قُرْطٍ الضَّبِّي الكوفي أبو عبد الله الرَّازي القاضي، نزيلُ الرَّي وقاضيها، من أتباع التَّابعين، ثقة، توفي سنةَ 188 وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.
قال أبو القاسم اللالكائي: مُجمَعٌ على ثقته.
"عن منصور" هو المعتمر بن عبد الله بن رُبَيّعةَ وقيل غير ذلك، السُّلَمي أبو عِتاب الكوفي، من أتباع التَّابعين، ثقة حافظ، من أثبتِ الناس في إبراهيم النَّخَعي، وممَّن قيل فيه: لا يروي إلا عن ثقة، وفيه تشيُّع، مات سنة 132 روى له الجماعة.
قال العِجْلي: (ثقةٌ ثبْتٌ في الحديث، كان أثبتَ أهل الكوفة وكأنَّ حديثَه القِدْحُ، لا يختلف فيه أحد، مُتعبِّد رجل صالح، أُكرِه على قضاء الكوفة فقضى عليها شهرين، ولَّاه يزيدُ بن عمرٍو، روى منصور من الحديث أقلَّ من الألفين، وكان فيه تشيُّعٌ قليل، ولم يكن بِغالٍ، وكان قد عَمِشَ من البُكاء، وصام منصور ستِّين سنة وقامها، توفي سنه اثنتين وثلاثين ومئة، وكان يجلس في مجلس القضاء فإذا جلس الخصمان بين يديه فقضى قضيَّتَهما قال: يا هذان، إنَّكما تختصمانِ إليَّ في شيء لا علمَ لي به فانصرِفا وأُعفيَ عن القضاء، وقالت فتاةٌ لأبيها: يا أبتِ، الأُسطُوانة التي كانت في دار منصور ما فعلت؟ قال: يا بُنيَّة ذاك منصور يصلي بالليل فمات) انتهى.
كانت تظنه أسطوانة من كثرة ما كان يقوم الليل رحمه الله.
"عن أبي وائل" هو شقيق ابنُ سَلَمة ثقة عالم -تقدَّم-.
"قال: كان عبد الله" هو ابن مسعود الصحابي رضي الله عنه "يُذكِّر الناس في كل" يوم "خميس" في الأُسبوع، "فقال له رجل"
قال ابن حجر: يُشبِه أن يكون هو يزيد بن عبد الله النَّخَعي، وفي سياق المـُصنِّف في أواخر الدَّعَوات ما يُرشِد إليه.
"يا أبا عبد الرحمن، لودِدت" اللام هذه واقعة في جواب القسم، في جواب قسم محذوف أي والله لوددت أي لأحببت "أنَّك ذكَّرتنا كلَّ يوم، قال ابن مسعود: أمَا" أما هذه تأتي على وجهين: أحدُهما أن يكون حرف استفتاح بمنزلة ألا ويكثُر قبل القسم، والثاني: أن يكون بمعنى حقًا وهي هنا من القسم الأوَّل.
"إنّه يمنعني من ذلك" أي من أن أفعل ما طلبت أن أُذكِّركم في كل يوم "أنِّي أكره أن أمِلَّكم" أي أكره إملالَكم وضجرَكم "وإنِّي أتخوَّلُكم" أي أتعهَّدكم "بالموعظة كما كان النبي ﷺ يتخوَّلنا بها" أي بالموعظة في أوقات النَّشاط والقبول ولا يُكثِر "مخافةَ السآمةِ علينا" مخافةَ أن نَمَلَّ.
قال الشُّرَّاح: (فيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاقتداء بالنبي ﷺ والمحافظةِ على سنَّته على حسب معاينتهم لها منه وتجنُّبِ مخالفته لعلمهم بما في موافقته من عظيم الأجر وما في مخالفته بعكس ذلك) أعاننا الله على ذلك ووفَّقنا إليه نحن وأنتم.
الحديث متفق عليه من حديث أبي وائل عن ابن مسعود.
قال المؤلف رحمه الله: "بَابٌ: مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ
قال رحمه الله: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ»"
"بابٌ: من يرد الله به خيرًا يفقِّهه" أي: يُفَهِّمه "في الدين"
الفقه في الأصل هو الفهم، يُقال: فَقِه الرَّجل يفقَه فِقهًا إذا فَهِم وعَلِم، وفقُه إذا صار فقيهًا عالمـًا، وجعله العُرف خاصّا بعلم الشريعة، يعني فقيه بالشريعة ومُخصَّصًا بعلم الأحكام.
الفقه في الشرع: فهم الشريعة بشكل عام، فهم القرآن، فهم السنَّة بشكل كامل، الشريعة كلها. بالمعنى الاصطلاحي: هو فهم الأحكام الشرعية خاصّة دون العقائد، هذا معنى اصطلاحي؛ لكن المقصود بالفقه هنا فَقِّهْه في الدين يعني علِّمْه الشريعة بشكل كامل.
هذا التبويب هو لفظ الحديث، ومُراده بيانُ فضل التفقُّه في الدِّين، فالمتفقِّه في الدين أراد الله به خيرًا.
"حدَّثنا سعيدُ بن عُفَير" هو سعيد بن كثير بن عفير، عندما تبحث عنه في كتب الرجال لا تجده في ترتيبه سعيد بن عفير، تبحث الآن في كلمة سعيد ثم الأب بحرف العين لا تجده، الأب ليس عُفَيرًا الأب هو كثير، سعيد بن كثير بن عفير.
بعض كتب الرجال تُنبِّه على هذا، يضعه لك في سعيد بن عفير ويُنبِّهك على أنَّه في سعيد بن كثير تجده.
هو سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم الأنصاري مولاهم أبو عثمان المصري، نُسب إلى جدِّه لشُهرته به، يروي عن أتباع التابعين، صدوق، عالم بالأنساب والتاريخ، مات سنة 226، وروى له البخاري ومسلم والنَّسائي وأبو داوود في القدَر.
"قال: حدَّثنا ابن وَهْب" هو عبد الله بن وهب بن مسلم القُرَشي الفِهْري مولاهم أبو محمد المِصري الفقيه، يروي عن أتباع التابعين، ثقة حافظ ُمحدِّث، وفقيه عابد إمام، صاحب سنة، من أثبت الناس في مالك، في حديثه عن ابن جُرَيج شيء، مات سنة 197 روى له الجماعة.
عن يونسَ بن عبد الأعلى: (عُرِضَ على ابن وهب القضاء فجَنَّن نفسه) يعني جعل نفسه مجنونًا (ولزِم بيته، فاطَّلع عليه رِشْدينُ بنُ سعدٍ) وابن سعد أحد العلماء المعروفين من أهل مصر (وهو يتوضَّأ في صحن داره فقال له: يا أبا محمد، لمَ لا تخرُج إلى الناس تقضي بينهم بكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ؟ فرفع إليه رأسه وقال: إلى هاهنا انتهى عقلك؟ أمَا علمت أن العلماء يُحشَرون مع الأنبياء، وأن القضاة يحشرون مع السلاطين؟)
فائدة: قال ابن المـُلَقِّن: (ليس في الصحيحين عبد الله بن وهْب غيرُه فهو من أفرادهما، وفي التِّرمذي وابن ماجه: عبد الله بن وهب الأسدي تابعيٌ، وفي النَّسائي عبد الله بن وهب عن تميمٍ الداري، وصوابه ابن مَوهَب، وفي الصحابة عبد الله بن وهْب خمسة، فاعلم ذلك) انتهى.
يعني باختصار إذا مرَّ بك عبد الله بن وهب في الصحيحين فما في إلا هو هذا، هذا الإمام، إمام فقيه عالم محدِّث.
"عن يونس" هو ابن يزيد العَيلِي ثقة له منكرات من أثبت الناس في الزُّهري -تقدَّم- وهذه روايته عن الزهري.
"عن ابن شهاب" هو محمد بن شهاب الزهري الإمام معروف.
"قال: قال حُمَيد بن عبد الرحمن" هو ابن عوف ثقة -تقدَّم-.
"سمعت معاويةَ" هو ابن أبي سفيان، أول مرة يمر بنا.
وأبو سفيان: صخر بن حرب بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مَناف -تقدم وتقدَّم نسبُه-.
أم معاوية هي هِنْدُ بنت عُتبَة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
يُكْنَى أبا عبد الرحمن.
وليست هي التي أمرت بقتل حمزة، هذا كذب، وردت فيه روايات ضعيفة؛ لكنَّ الرَّافضة استغلوا هذا وقرَّروه؛ لذلك هو الذي اعْتُمد في فيلم الرسالة، هذا الفيلم الفاسد الذي فيه الكثير من الباطل، وكان من ضمن الذين أقرُّوه مجموعة من الرافضة؛ لذلك لابد من الحذر من هذا الفيلم وما فيه من باطل، ومنها قصة سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجوه بشوكة، هذا باطل، هذا الذي له شوكة هكذا هذا هو الخُنْجَر الذي فيه قُتِل عمر رضي الله عنه، هذا ليس سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه. المهِمُّ سيأتي أشياء كثيرة الآن معنا إن شاء الله ونحن مارِّين.
جاء في صحيح البخاري أنَّ الذي أمر بقتل حمزَة ابنُ مُطْعِم؛ وليست هند بنت عتبة رضي الله عنها، إنَّما يريدون بهذا أن يُوغروا الصُّدور على معاوية وأبيه وأمه رضي الله عنهم مع أن هذا لا يضرهم بشيء، حتى لو كان جُبَير بن مطعم -صحابي جليل- حتى لو كانت هند ثم أسلمت، الإسلام يجُبُّ ما قبله ولا ضَير عليهم في ذلك إذا كان إسلام وحشي قُبِل كيف لا يُقْبَل إسلام غيره -على كل حال- هذا سيأتي في موطنه إن شاء الله.
يُكنَى أبا عبد الرحمن، أسلم عام الفتح، كان من الكَتَبة الحَسَبة الفُصَحاء، حليمًا وقورًا، وكان طويلًا أبيضَ أَجْلَح.
أجلح: إذا سقطت مُقدِّمة شعر رأس الرجل يُسمَّى أجلح، انحصر الشعر عن جانبَي رأسه.
وصحِب النبي ﷺ، وكتب له، هو كاتب النبي ﷺ، كاتب الوحي، ولَّاه عمر الشام بعد أخيه يزيد ابن أبي سفيان، وأقرَّه عثمان، ثم استمرّ، ولم يُبايع عليًا، ثم حاربه واستقلَّ بالشام، ثم أضاف إليها مصر، ثم تسمَّى بالخلافة بعد الحَكَمين، ثم استقلَّ لما صالح الحسن، وبايعه الحسن وجماعة ممن معه سنة إحدى وأربعين، واجتمع عليه الناس، فسُمِّيَ ذلك العام عام الجماعة، مات معاوية في رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسعَ عشرة سنة ونصفًا، وقال آخرون توفِّي معاوية بدمشق ودُفِن بها يوم الخميس لثمانٍ بقِينَ من رجب سنة تسع وخمسين.
قال أبو عمر ابن عبد البَرِّ: روى عنه من الصحابة طائفة وجماعة من التابعين بالحجاز والشام والعراق.
معاوية بن أبي سفيان صحابي فاضل جليل، فُتِن به الرافضة وطعنوا فيه لحربه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذه القصة وما حصل فيها وتفصيلاتها كلها ستأتي معنا إن شاء الله، ففي صحيح البخاري من العلم الشيء الكثير سيمر بنا إن شاء الله من تفسير وتاريخ وحِكايات وقصص حصلت في زمن النبي ﷺ وبعده أشياء كثيرة جدًا، هذا الكتاب مليء بالعلم النافع.
قال أبو عمر ابن عبد البر: روى عنه من الصحابة طائفة وجماعة من التابعين بالحجاز والشام والعراق.
قال الأَوزاعي: أدركَتْ خلافة معاوية جماعةً من أصحاب رسول الله ﷺ لم ينزِعوا يدًا من طاعة ولا فارقوا جماعة. انتهى.
أقرُّوا بخلافة معاوية رضي الله عنه، ولو كانت باطلة ما فعلوا.
وفي "صحيح البخاري" عن عِكرِمة: قلتُ لابن عباس: إن معاوية أوتر برَكعة، فقال ابن عباس: إنه فقيه. وفي رواية: "إنه صحب رسول الله ﷺ".
يعني ما يفعل ذلك عبثًا، هو فاهم للذي يعمله وأن هذا سنَّة.
قال محمد بن عبد الله بن عمَّار: (سمعت المـُعافى بن عِمران وسأله رجل وأنا حاضر: أيهما أفضل معاوية بن أبي سفيان أو عمرُ بن عبد العزيز؟ فرأيته كأنه غضب، وقال: يوم من معاوية أفضل من عمرَ بن عبد العزيز، ثم التفت إليه فقال: تجعل رجلًا من أصحاب محمد ﷺ مثل رجل من التابعين؟) يعني ما لك؟ ما لك عقل؟ كيف ساوى هذا بهذا؟ وقال: (لا يُقاس بأصحاب رسول الله ﷺ أحد، معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله عز وجل، وقد قال رسول الله ﷺ: «دَعوا لي أصحابي وأصهاري، فمن سبَّهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين») انتهى كلامه رحمه الله.
هذا الحديث الذي ذكره سيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله.
وقال الربيع بن نافع وغيره من السلف: (معاوية بن أبي سفيان سَتْرُ أصحاب النبي ﷺ، فإذا كَشف الرجل السَّتر اجترأ على ما وراءَه)
ماذا يعني؟ يعني أن معاوية هو البوابة التي يدخلون فيها على هدم الدين، فمن طعن في معاوية طعن في بقية الصحابة، ومن طعن في الصحابة ماذا يحصل في الدين؟ ينتهي، من حمل الدين؟ من الذي بلَّغنا الكتاب والسنة؟ هم أصحاب النبي ﷺ، فإذا طُعِن في أصحاب النبي ﷺ وقيل أكثرهم كفار أو أكثرهم فساق، ما بقيَ دين، وهذا ما تريده الرافضة، الرافضة أرادوا أن يصلوا إلى هنا فبدأوا أولًا بمعاوية لأنه قتل عليًا -زعموا- فممكن أن يُدخِلوا على قلوب الناس ويُغْروها ثم بعد ذلك إذا تمكنوا من ذلك صعدوا وارتقَوا إلى بقية الصحابة رضي الله عنهم فإذا أسقطوهم انتهى الدين ضاع، وهذا ما تقوله الرافضة، يقولون أكثر الصحابة كفَّار؛ لذلك كفَّرهم علماء الإسلام.
هذا قول من الأقوال التي كفروا بها، وكفروا بأقوال كثيرة، جمعتُ الكثير منها في كتاب "الحقيقة الشرعية في بيان كفر الشيعة الإمامية".
وقال عبد الله بن المبارك: (معاوية عندنا مِحنَة، فمن رأيناه ينظر إلى معاوية شَزَرًا اتَّهمناه على القوم أعني على أصحاب محمد ﷺ) محنة نمتحِن بها الناس، فننظر موقفَهم منه (فمن رأيناه ينظر إلى معاوية شزرًا) يعني هكذا ينظر بطرف عينه هكذا نظرة حاقد، فقط هذه القرينة تكفينا فيه في معاوية رضي الله عنه، نعرف عندئذٍ أنه عدو لأصحاب النبي ﷺ؛ لذلك من طعن في معاوية اتَّهمناه على الدين.
وسُئل الإمام أحمد عن رجل انتقص معاويةَ وعمرَو بن العاص أيُقال له رافضي؟ قال: (إنه لم يجترأ عليهما إلا وله خبيئة سوء، وما يُبغِض أحدٌ أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ إلا وله داخِلة سوء). وقال: (إذا رأيت رجلًا يذكُر أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ بسوءٍ فاتَّهمه على الإسلام).
وهذه النتيجة التي يريدها في النهاية، ومِثل هذا كثير عن السلف رضي الله عنهم، فمعاوية عندنا كما يقال اليوم خط أحمر، من جاء فيه اتَّهمناه على دين الله سبحانه وتعالى، ولا نقبل قولًا في أحد من أصحاب النبي ﷺ، هؤلاء قوم قد اصطفاهم الله لصحبة نبيه، ما جاؤوا عبثًا هكذا، ولا صحِبوا النبي ﷺ هكذا بطريقة عبثيَّة فوضويَّة، لا، لحكمة من الله سبحانه وتعالى، انتقاهم ربنا تبارك وتعالى لصحبة نبيه، فهم خير الناس بعد الأنبياء والرسل.
"خطيبًا" حال كونه خطيبًا "يقول: سمعت النبي ﷺ يقول: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خيرًا" هذا لفظ عام يشمَل جميع الخيرات، تعرِفون أنتم العموم أين، صحيح؟ لا داعي لنُفصِّل، «خيرًا» نكرة في سياق الشرط تعُمُّ "يفقِّهه في الدِّين" أي: يجعله فقيهًا في دين الإسلام، والمراد: الفقه النافع الذي يؤدي إلى العمل، وليس مجرد الفقه هكذا.
مفهوم المـُخالفة في هذا الحديث: من لم يرد الله به خيرًا لا يفقهه في الدين، والناس في هذا الفقه في الدين بين مُستَقِلٍّ ومُستكثِر، فانظر نصيبك من هذا الحديث واسعَ للاستزادة، ولا تكتفِ بالقليل فالأمر متعلق بماذا؟ بالخير، والخير هذا يشمل خير الدنيا والآخرة.
قال ابن حجر: (وقد أخرج أبو يَعْلى حديث معاوية من وجه آخَر ضعيف وزاد في آخره: «ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به» والمعنى صحيح؛ لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهًا ولا طالب فقه، ويصِحُّ أن يُوصف بأنه ما أُريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم) انتهى كلامه.
"وإنما أنا قاسم" أي أقْسِم بينكم ما أمرني الله بقسمته كالأموال.
"والله يُعطي" يعطي العلم، ويعطي المال، يعطي كل شيء لمن شاء، وبالقدَر الذي يريد، فأمرُ القِسمة لمن؟ لله، وليست للنبي ﷺ، النبي مأمور أن يُقسِّم فقسَّم، ونحن كذلك، من صارت إليه قسمة شيء يجب عليه أن يُقسِّم كما أمر الله سبحانه وتعالى، فالقسمة ليست إليك، القسمة لله، أنت مأمور أن تُقسِّمها كما أمر الله سبحانه وتعالى.
قال: "ولن تزال هذه الأمة" أي: أمته ﷺ -أمة الإجابة- والمراد: بعضها، كما جاء في رواية: «طائفة من أمتي» أي: جماعة من أمتي.
"قائمةً على أمر الله" أي: متمسكةً بدينه الذي شرعه ثابتة عليه عاملة به.
"لا يضرُّهم من خالفهم" لا يحرِفهم ويُضِلُّهم عن دينهم من خالفهم من الكفار والمبتدعة.
"حتَّى يأتيَ أمرُ الله»" إلى أن يأتي أمر الله وهم على هذا، وأمر الله هذا هي الرِّيح الطيِّبة اللَّيِّنة التي تأتي في آخر الزمان فتقبِض أرواح المؤمنين، وهذا قبل قيام الساعة بقليلٍ، حيث لا يبقى على وجه الأرض إلا الكفار، وعليهم تقوم الساعة، وهذا كله جاءت فيه أحاديثٌ ستأتي إن شاء اللّه.
منها هذا الحديث -حديث أبي هريرة-: «أن اللّه يبعث ريحًا من اليمن ألين من الحرير لا تدع أحدًا في قلبه مثقال حبةِ إيمانٍ» وجاء في الحديث: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق» هذا كله بعد الريح الطيبة، وهذه الطائفة آخرها في وقت الريح الطيّبة.
فإذًا قوله: "«حتى يأتي أمر الله»" يعني حتى تأتي هذه الريح الطيبة.
يريد أنّ هذه الأمة آخر الأمم، وأنّ عليها تقوم السّاعة، أي أنّ هذه الأمٌة لا نبيَّ بعد نبيها، فهي آخر الأمم بهذا المعنى.
وإن ظهرت أشراط الساعة وضعف الدِّين فلا بد أن يبقى من أمته من يقوم به؛ لقوله: «ولا يضرهم من خالفهم».
قال الإمام أحمد عن هذه الطائفة: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم).
أهل الحديث ما المقصود بالحديث؟ الكتاب والسنة، بعض الناس لمـا يسمع كلمة أهل الحديث يظن أنّها السنّة فقط، لا، الكتاب والسنّة، الله سبحانه وتعالى سمى كتابه هذا حديثًا، وحديث رسول اللّه ﷺ هذا حديث، فهم أهل الحديث: أهل الكتاب والسنّة، الذين يفهمون الكتاب والسنّة كما أمرهم الله، وكما أمرهم رسول اللّه ﷺ على فهم السلف الصَّالح رضي اللّه عنهم، هؤلاء هم أهل الحديث، فصّلنا هذا كلّه في شروح كتب المنهج المقررة في المعهد.
وقال القاضي عياض -في شرح كلام الإمام أحمد-: (أهل السنّة ومن يعتقد مذهب الحديث) ليس أهل الحديث الذين يشتغلون بالحديث تصحيح وتضعيف، لا، المقصود بأهل الحديث هم الذين يعتقدون عقيدة أهل الحديث، ويسيرون على طريقة أهل الحديث، هذا تفسير القاضي عياض نفسه.
وجزم البخاري بأنهم: أهل العلم كما سيأتي في موطنه إن شاء اللّه.
لكن أشار في موضعٍ آخر في كتابٍ آخر إلى أنَّهم: أهل الحديث أيضًا.
ولمـّا ذكر أمثلةً عليهم، ذكر أئمة أهل الحديث في الوقت الأول، فيريد المعنى الذي ذكره الإمام أحمد وغيره من السلف.
قد تقدم عن معاذ في البخاري: أنهم في الشام، وقال مطّرف: كانوا يرون أنهم أهل الشام.
حديث: «هم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس» لا يصح.
لكن هذا يدل على أنهم في الشام، وليس المقصود بأنهم في الشام أنّ غير الشام لا يوجد فيها.
المقصود أنهم في الشام: أنّ الشام لا تخلو منهم؛ لكن يوجدون أيضًا في بلادٍ أخرى من بلاد الإسلام وغير بلاد الإسلام، يوجدون في العالم تارةً هنا وتارةً هنا، لكنّ الشام لا تفرغ منهم، هذا المقصود بأنّهم في الشام.
وهذه الطائفة في قوله: «لاتزال طائفةٌ» يعني ماذا لاتزال؟ يعني باستمرارية، هي باقية مستمرة من عهد النبي ﷺ إلى أن تأتي هذه الريح الطيبة، بعد هذا لمـّا تأتي تقول لي الجماعة الفلانية والجماعة الفلانية انظر عمر هذه الجماعة كم؟ عمرها مئة سنة، أو مئة وعشرون، أو مئتان سنة، لا تأت وتقول لي بأنّ هذه هي الطائفة المنصورة، مباشرةً أول ما تفكر فكر في هذه القضية، إذا كانت هذه الجماعة من عهد النبي ﷺ وإلى يومنا هذا وإلى أن تأتي الريح الطيبة تكون هذه الطائفة المنصورة.
أما إذا وجدت أن تاريخها ينتهي بمئة أو مئتين أو ثلاثة فانسَ الموضوع، ولا تفكر أبدًا أنها هي هذه المقصودة.
واحذروا هنا من تخبط الشُّراح في شرح هذه الفقرة، لا تأخذوا شرحها إلا عن أهل السنّة الذين شرحوها على فهم السلف، وبشّرحهم فقط خذوا، فكل من كان من فرقةٍ أراد إدخال فرقته فيها، أو أراد حصر هذه الطائفة في جماعته.
لا، العبرة بتفسير السلف لها، ماذا قالوا؟ كما جاء في كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة، يوضح لنا من هي هذه الطائفة.
- من الفوائد المستنبطة من الحديث:
§ فضل العلماء على سائر الناس وفضل الفقه على سائر العلوم؛ لأنهم الذين يخشونه تعالى من عباده فيجتنبون معاصيه ويديمون طاعته لمعرفتهم بالوعد والوعيد وعِظم النعمة.
§ وأنّ الإسلام لا يذل وإن كثر مطالبوه.
§ وأن الإجماع حجّة؛ لأن هذه الطائفة المنصورة الباقية وهي على حق باقية في كل زمان، فلا يمكن أن تجتمع الأمة في زمن من الأزمان على قولٍ إلا ويكون حقًا، لماذا؟ لأن هذه الجماعة معهم، إذن فالقول حقٌ.
§ وفي هذا الحديث إخباره ﷺ بالمغيبات، وقد وقع ما أخبر به وللّه الحمد، فلم تزل هذه الطائفة من زمنه إلى يومنا هذا وهي باقية إن شاء اللّه إلى أن تخرج هذه الريح.
الحديث متفقٌ عليه وله شواهدٌ، والكلام عن هذه الطائفة وحديثُها سيأتي إن شاء اللّه بطريقةٍ موسعةٍ أكثر من ذلك، نكتفي في هذا اليوم، والحمد للّه.