السبت 21 جمادة الاخرة 1446 هـ
21 ديسمبر 2024 م
جديد الموقع   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-79 أول كتاب الصلاة، الحديث 349و350   الصوتيات: شرح العقيدة الشامية-15 الأخير   الصوتيات: شرح العقيدة الشامية-14   الصوتيات: شرح العقيدة الشامية-13   تفسير القرآن: تفسير سورة يونس 93- 109 آخر السورة   تفسير القرآن: تفسير سورة يونس 71-92   تفسير القرآن: تفسير سورة يونس 62-70   تفسير القرآن: تفسير سورة يونس 53-61   تفسير القرآن: تفسير سورة يونس 37-52   الصوتيات: شرح صحيح البخاري-78 آخر كتاب التيمم، الحديث 345و346و347و348      

تفريغ شرح صحيح البخاري-28، كتاب العلم، الحديث 94و95و96و97و98

الدرس الثامن والعشرون/الأربعاء/بتاريخ: 24/04/1445-08/11/2023

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد:

درسنا اليوم هو الدرس الثامن والعشرون، من دروس شرح صحيح البخاري، وهو تتمة كتاب العلم، وصلنا عند الحديث الرابع والتسعين.

"‌‌بَابُ مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلَاثًا لِيُفْهَمَ عَنْهُ فَقَالَ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ : «هَلْ بَلَّغْتُ؟» ثَلَاثًا"

94- "حَدَّثَنَا عَبْدَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا"

95- "حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا"

96- "حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «َخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلَاةَ، صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا"

"‌‌بَابُ مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلَاثًا" أي: أعاده ثلاث مرات، "ليُفهم عنه" تعليم، بيان لسبب إعادة الحديث.

قال الشرّاح: (أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان ‌من ‌أعَاد ‌كَلَامه فِي أُمُور الدّين ثَلَاث مَرَّات لأجل أَن يُفهم عَنهُ، وَفِي بعض النّسخ: ليفهِم، بِكَسْر الْهَاء بِدُونِ لَفْظَة: عَنهُ. أَي: ليفهم غَيره.

قَالَ الْخطابِيّ: إِعَادَة الْكَلَام ثَلَاثًا إِمَّا لِأَن من الْحَاضِرين من يقصر فهمه عَن وعيه فيكرره ليَفهم) أي: لا يتمكنُ بعض الحاضرينَ من فهم الكلام، من فهم معنى الكلام، فلذلك يكرر ليفهموا.

(وَإِمَّا أَن يكون القَوْل فِيهِ بعض الْإِشْكَال فيتظاهر بِالْبَيَانِ) أي: يظهر، ويتضح بالتكرار، ويزول الإشكال الذي فيه، فيكون التكرار لإزالة الإشكال.

(وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد: أَو أَرَادَ الإبلاغ فِي التَّعْلِيم والزجر فِي الموعظة) أي: إذا كان التكرار للتعليم فهو يريد الإبلاغ، أي إيصال المعلومة مع تفهيمها له، وإن كان التكرار في الموعظة فهو للزجر، أي النهي بشدة مع التخويف.

والبخاري يريد أن التكرار للإفهام مشروع، وهذا التكرار منه ما هو مستحب، ومنه ما هو واجب، كأن يكون بيانًا لواجب لم يحصل هذا الواجب بالمرة الواحدة، عندئذٍ يصير التكرار واجبًا.

"فقال" النبي عندي زيادة: "النبي "، لما قرأ أخونا الشيخ: فقال: "«ألاَ وقولُ الزور»"، بدون قوله: "النبي ﷺ"، وهي رواية، في رواية من نسخ صحيح البخاري بهذه الطريقة، ليس فيها ذكر النبي ، لكن في اليونينية مثبتة.

"فَقَالَ" النبي "«أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ»" أي شهادة الزور، شهادة الكذب، جاءت شهادة الزور في بعض الروايات هكذا، بزيادة شهادة، بلفظ: "وشهادة الزور".

"فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا" أي الكلمة الأخيرة الواردة في الحديث، وهي قوله: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ» مازال يكررها في مجلسه ذاك.

هذا التعليق، هذا حديث معلّق، وطرف من حديث أبي بَكرة رضي الله عنه، وقد وصله البخاري في كتاب الشهادات، في باب "ما قيل في شهادة الزور" 2654.

قال النبي : «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» ثَلَاثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ» قَالَ: فَمَازَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.

قال أبو العبّاس القُرطُبي: (وشَهَادَةُ الزُّورِ ‌الشهادةُ ‌بالكذب ‌والباطل، وإنما كانت مِن أكبر الكبائر؛ لأنها يُتوصَّلُ بها إلى إتلاف النفوسِ والأموال، وتحليلِ ما حرَّم الله، وتحريمِ ما حَلل الله، فلا شيءَ من الكبائر أعظَمُ ضررًا، ولا أكثَرُ فسادًا منها بعد الشرك، والله أعلم) انتهى.

وسيأتي شرحه في موضعه، إن شاء الله.

قوله: «ألاَ أُنَبّئكُمْ بأكبرِ الكبائر» ثلاثًا، يُحتجّ به أيضًا للترجمة التي ذكرها المؤلف، والشاهد منه عند المؤلف في قوله: "أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا" أي في مجلسه، لا في مدة عُمُره كما قال بعضهم.

والتكرار هنا للتأكيد، لتأكيد التّحريم، وعِظمِ قبح هذا الذنب، وليُفهمَ عنه هذا المعنى.

"وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَلْ بَلَّغْتُ» ثَلَاثًا" أي ثلاث مرات.

وهذا التعليق طرفٌ من حديث ابن عمر، وصله البخاري في أكثر من موضع، منها كتاب الحدود، "باب ظهر المؤمن حِمىً إلا في حدٍّ أو حقٍّ" الحديث برقم 6758.

وفيه: "«ألاَ هل بلغتُ» ثلاثا" ثلاث مرات، الشاهد منه واضح، والتكرار هنا لتأكيد إقرارهم، وإفهامهم، وسيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله.

"حَدَّثَنَا عَبْدَةُ" هو ابن عبد الله، ابن عبدة، الخزاعي، الصفّار، أبو سهل، البصري، كوفي الأصل، يروي عن أتباع التابعين، ثقة.

ماتَ سنة 258، أو سنة 257، روى له الجماعة سوى مسلم.

قال ابن حجر: (‌وَلَمْ ‌يُخَرِّجِ ‌الْبُخَارِيُّ ‌عَنْ ‌عَبْدَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ مِنْ طَبَقَةِ عَبْدَةَ الصَّفَّارِ).

"قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ" هو ابن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان التميمي العنبري مولاهم، أبو سهل البصري، يروي عن أتباع التابعين، صدوق، ثبتٌ في شعبة.

لم يكن قدريًّا كأبيه، مات سنة 207، روى له الجماعة.

"قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُثَنَّى" هو ابن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، أبو مثنى الأنصاري، البصري، من أتباع التابعين، ضعيف، روى له البخاري والترمذي وابن ماجه.

حاول ابن حجر الدفاع عنه، ولكنه لم يفعل شيئًا، فالجرح فيه مفسّرٌ وقادح، وضعفه من قبل حفظه، فهو يروي مناكير، وهذا الحديث من أفراده.

"قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ" ابن أنس، هو ابن أنس بن مالك الأنصاري، البصري قاضيها.

"عَنْ أَنَسٍ" هو ابن مالك، خادم رسول الله، تقدم.

"عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:"أَنَّهُ كَانَ" أي أنه من عادته "إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا" بكلمة: أي بجملة.

الثابت السلام مرة واحدة، وهذا ثابت في أحاديث كثيرة عن النبي ، وكذلك كلامه ﷺ الأصل فيه أنه لما كان يتكلم ما كان يكرر.

كان يكرر بعض الجُمل؛ للمعاني التي تقدّمت معنا، هذا صحيح، لكن هذا لم يكن منه دائمًا، بشكل مستمر، فلذلك احتاج أهل العلم على تأويل هذا الحديث.

قال أبو بكر الإسماعيلي: (يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: "إِذَا سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ سَلَّمَ ثَلَاثًا" سَلَامَ اسْتِئْذَانٍ لِلدُّخُولِ) هذا التفسير الأول، "إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا"، يعني عند الاستئذان.

فيقول: السلام عليكم، كي يرد عليه ويأذن له بالدخول، هكذا قال أبو بكر الإسماعيلي، أوّله على هذا المعنى.

(‌عَلَى ‌مَا ‌رَوَاهُ ‌أَبُو ‌مُوسَى وَأَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَمَّا أَنْ يَمُرَّ الْمَارُّ مُسَلِّمًا عَلَى رَجُلٍ أَوْ قَوْمٍ فَسُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ) الكلام لأبي بكر الإسماعيلي (فَأَمَّا أَنْ يَمُرَّ الْمَارُّ مُسَلِّمًا عَلَى رَجُلٍ أَوْ قَوْمٍ فَسُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْجَارِيَةُ عَنْهُمْ يُسَلِّمُ مَرَّةً وَاحِدَةً) إذًا هذا هو الأصل.

لذلك احتاج أن يؤول، لأن الثابت في الأحاديث عن النبي ، وعن الصحابة والمعمول به عند المسلم، هو أن السلام مرة واحدة ليس أكثر.

هذا رواه البيهقي في "المدخل"، عن أبي عمرو الأديب، قال: (أنبأنا أبو بكر الإسماعيلي، فذكره)

فإذاً معنى هذا الحديث هذا التأويل لأبي بكر الإسماعيلي، حملَ السلام على الاستئذان.

قال الحافظ ابن حجر: (وَقَدْ فَهِمَ الْمُصَنِّفُ) يعني البخاري (هَذَا بِعَيْنِهِ) نفس الكلام الذي ذكره أبو بكر الإسماعيلي، وفهمه البخاري أيضًا (فَأَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ مَقْرُونًا بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي قِصَّتِهِ مَعَ عُمَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الِاسْتِئْذَانِ) إذًا هذا التأويل الأول (لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ يَقَعُ أَيْضًا مِنْهُ إِذَا خَشِيَ أَنَّهُ ‌لَا ‌يُسْمَعُ ‌سَلَامُهُ) يعني إذا ظن أنه لا يُسمع سلامه، وخشي من ذلك، عاد وكرر.

لاحظ يؤولون جميعًا، ما أحد يحمله على ظاهره بأنك دائمًا تسلم ثلاثًا على طول (وَمَا ادَّعَاهُ الْكِرْمَانِيُّ مِنْ أَنَّ الصِّيغَةَ الْمَذْكُورَةَ تُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ مِمَّا يُنَازَعُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ). انتهى.

طبعًا كلامه عن الصيغة.

وقال البغوي: (تَسْلِيمُهُ ثَلاثًا عِنْدَ الاسْتِئْذَانِ إِذَا لَمْ يُؤْذَنْ بِمَرَّةٍ) هذا أمر آخر، يعني هل عندما يريد أن يستأذن لا بد أنه يسلم ثلاثًا أيضًا؟ قال لك: لا، هذا إذا لم يؤذن له المرة الأولى، (أَوْ مَرَّتَيْنِ) أو لم يؤذن له في المرة الثانية (يُسَلِّمُ ثَلاثًا، ثُمَّ ‌يَنْصَرِفُ ‌كَمَا ‌جَاءَ ‌فِي ‌الْحَدِيثِ: «الاسْتِئْذَانُ ثَلاثٌ»). انتهى.

قَالَ الْخطابِيّ: (إِعَادَة الْكَلَام ثَلَاثًا) هذا موضوع إعادة الكلام (إِعَادَة الْكَلَام ثَلَاثًا إِمَّا لِأَن من الْحَاضِرين من يقصر فهمه) الكلام للبغوي هو الذي نقل كلام الخطابي، ذكرنا كلام الخطابي هذا سابقًا، (إِمَّا لِأَن من الْحَاضِرين من يقصر فهمه عَن وعيه فيكرره ليفهم، وَإِمَّا أَن يكون القَوْل فِيهِ بعض الْإِشْكَال فيتظاهر بِالْبَيَانِ) نفس الكلام الذي ذكرناه سابقًا.

وقال ابن الملَقّن: (كرر الكلام ثلاثاً؛ ليُفهمَ عنه كما سلف ويحفظَ أيضاً، فيُنقَل عنه، قال أبو الزناد: إنما كان يكرر الكلام والسلام، إذا خشيَ أن لا يفهم عنه، أو لا يُسمع كلامه، أو أراد الإبلاغ في التعليم، أو الزجرَ في الموعظة، وفي الحديث دلالة على أن الثلاث غاية ما يقع به البيان) يعني أكثر ما تحتاج أن تبين فيه، تكرر ثلاث مرات، قال: (إذ لم يتعدّه) ما زاد النبي عن ثلاث، قال:(وقد جاء في حديث أبي موسى في الاستئذان، "إذا استأذنَ أحدُكم ثلاثًا" الحديث، واختلف فيما إذا ظن أنه لم يَسمَع، هل يزيد على الثلاث؟) يعني شخص يريد أن يستأذن على شخص، فطرق عليه المرة الأولى، والثانية، والثالثة.

إذا غلب على ظنه أن الذي في الداخل لم يسمع، هل يزيد على الثلاث؟ أم خلاص هي ثلاث، تبقى على ثلاث؟

قال: (واختُلف فيما إذا ظن أنه لم يَسمَع، هل يزيد على الثلاث؟ فقيل: لا، عملًا بظاهر الحديث، وقيل: نعم). انتهى.

وهذه المسألة ستأتي بموضعها إن شاء الله.

وأصل الموضوع، السلام ثلاث ليس على ظاهره، إما يحمل على استئذان، كما حمله عليه من حمله، أو -وهو الأقرب- أنه في حال غلبة الظن أن المسلَّم عليه لم يسمع، فيكرر مرة ثانية، إذا لم يسمعه يكرر مرة ثالثة، هذا أحسن ما يُحمل عليه الحديث، والله أعلم.

هذا بالنظر إلى أحاديث النبي الأخرى، حتى في الاستئذان، في طريقة الاستئذان التي وردت عن النبي ، وعن الصحابة، ما كان الاستئذان بطريقة: السلام عليكم، هكذا يستأذن بهذا الأسلوب يعني، لكن على كل حال، ممكن يُحمل على هذا الذي ذكروه، وسيأتي إن شاء الله موضوع السلام في موضعه.

وكذلك تكرار الكلام، تكرار الجملة، هذا إنما يحصل عندما ترد المعاني التي قدمناها، إما للتأكيد، أو للإفهام، أو لغير ذلك مما ذكرنا.

أما ليس هو الأصل في الكلام.

الحديث تفرّد به البخاري، ولم يخرجه مسلم.

قال الترمذيّ: (حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ ‌مِنْ ‌حَدِيثِ ‌عَبْدِ ‌اللَّهِ ‌بْنِ ‌الْمُثَنَّى). انتهى.

وقال الذهبي: (هَذَا مِنْ غَرَائِبِ "صَحِيْحِ البُخَارِيِّ" رَوَاهُ عَنْ ثِقَةٍ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث).

ومع أن عبدالله بن المثَنّى ضعيف، وتفرّد به، إلا أنني لم أجد أحدًا من العلماء أعلّه، ولشطره الثاني شاهد ذكره الإمام الألباني رحمه الله في الصحيح برقم 3473، راجعوه هناك.

"حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ" نفس الإسناد، ونفس الحديث أيضًا، لكن فيه، قال: "إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ" وهذه الزيادة غير موجودة في الذي قبله، وهي تبيّن سبب التكرار، ولذلك بوّبَ البخاري بها.

"وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ" أي وكان إذا جاءهم "فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا" أي ثلاثَ مرّات.

نفس الحديث السابق، بزيادة في متنه، ثم ذكر الحديث الذي بعده.

قال: "حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ" هو ابن مصرهد، ابن مسربل، أبو الحسن البصري.

"قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ" وضّاح اليشكري.

"عَنْ أَبِي بِشْرٍ" جعفر بن إياس، أبو بشر، ابن أبي وحشيّة.

"عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ" هو ابن بُهزاد.

"عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو" رجال الإسناد كلهم ثقات، وكلهم تقدمت تراجمهم.

"قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ" أي تأخر خلفنا رسول الله "فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ" وهو من مكّة، إلى المدينة، كما في صحيح مسلم "فَأَدْرَكَنَا" النبي ، أي لحقَ بنا "وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلَاةَ" أي تعجّلنا بسبب الصلاة؛ لضيق الوقت، صلاة العصر.

في شرح الحديث سابقًا عزوت بيان الصلاة إلى صحيح مسلم، قلت: جاء تقييدها بصلاة العصر، في صحيح مسلم، وهو متفق عليه، أي هنا في البخاري أيضًا، والصواب أن يقال: كما في رواية، متفقٌ عليها.

"وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ" أي وحالنا أننا نتوضأ، وفي صحيح مسلم: "حتى إذا كنا بماء بالطريق، تعجّل قوم عند العصر، فتوضؤوا وهم عجال".

"فَجَعَلْنَا" أي: شرعنا، وصرنا "نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا" نمسح على أرجلنا، من غير غسلها "فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «وَيْلٌ" كلمة عذابٍ وهلاك "لِلْأَعْقَابِ" جمع: عَقِبْ، وهو عضم مؤخر القدم، والمراد: كل عَقِبٍ لَم يَعُمُّهُ الماء "مِنَ النَّارِ»" أي: ويل لأصحاب الأعقاب، المقصّرين في غسل الواجب غسلهُ من القدم قالها "مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا"

قال الحافظ ابن حجر: (قوله: "مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا: هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ‌الثَّلَاثَ ‌لَيْسَتْ ‌شَرْطًا، بَلِ الْمُرَادُ التَّفْهِيمُ، فَإِذَا حَصَلَ بِدُونِهَا أَجْزَأَ).

الحديث تقدّم، برقم 60، في باب "من رفع صوته بالعلم" أخرجه هناك عن أبي النعمان عارم بن الفضل، عن أبي عوانة به، ولم يذكر هناك صلاة العصر.

"بَابُ تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ"

"حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -هُوَ ابْنُ سَلَامٍ- قَالَ: أَنَا الْمُحَارِبِيُّ، نَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: حدثني أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّه وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَأَدَّبَهَا، فَأَحْسَنَ تَأدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ» ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ: أَعْطَينَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ".

"‌‌بَابُ تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ" الأمَة: خلاف الحرّة، أي جاريته، مَمْلوكتَهُ.

"وَأَهْلَهُ" الأهل: تطلق على الأقارب، وتطلق أحيانًا ويرادُ بها الزوجة الحرّة، وهنا قوله: "وَأَهْلَهُ" بعض العلماء فسّرها: بزوجاته الحرائر، والبعض قال: (المقصود بالأهل هنا، أهل البيت عمومًا، أقاربه). فأدخلوا فيه الأمَة، الأمة من أهل البيت أيضًا، لكن قالوا: هو من عطف العام على الخاص، هذا قول.

القول الثاني، قالوا: (المراد بالأهل هنا هي الزوجة)، يعني يعلّمُ أمَتَهُ، وزوجته.

الرجل مأمورٌ بتعليم أهلِ بيته، المسؤول عنهم، لقوله : «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته».

ولما كان في الحديث الذي سيذكره المؤلف ويخرّجه، فيه تعليم الأمَة، فيه صراحة هذا، لكن ليس فيه تعليم الأهل والزوجة.

زاد المؤلف رحمه الله، في الترجمة: "الأهل" تنبيهًا على أن الحكم يشمَلُ الأهل من باب أولى.

هل الأهل المقصود الحرائر؟ أم الأهل المقصود الأقرباء؟

البعض ذهب إلى هذا، والبعض ذهب إلى ذاك، فالحرائر يدخلن من باب أولى.

"أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ -هُوَ ابْنُ سَلَامٍ-" بتخفيف اللام على الصحيح، البيكندي، ثقة، تقدم.

في رواية ابن حجر، من طريق أبي ذر، قال: (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ بْنُ سَلَامٍ) ما في "هُوَ".

قال ابن حجر: (كذا في روايتنا من طريق أبي ذر، وفي رواية كريمة: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هو ابْنُ سَلَامٍ"، وللأصيل: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ" حسب) يعني فقط، محمد فقط، لا يوجد ابن سلام ولا شيء، لا هو ولا غير هو.

قال: (واعتمده المزّيّ في الأطراف، فقال: رواه البخاريُّ عن مُحَمَّدٌ قيلَ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ). انتهى.

"حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ" هو عبد الرحمن بن محمد بن زياد، المحاربي، أبو محمد الكوفي، صدوق، مدَلِّس، لم يسمع من مَعمَر، روايته هنا ليست عن مَعْمَر، وصرّح بالتحديث فيها، وهو أيضًا مُتَابَع، فلا إشكال.

مات سنة 195، روى له الجماعة.

قال ابن حجر في الفتح: (وليس له عند البخاري سوى هذا الحديث، وحديث آخر في العيدين)

وقال في الهدي: (ليس له في البخاري سوى حديثين متابعةً) انتهى.

"قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ" هو صالح بن صالح بن حيّ، وحيّ اسمه حيّان، وقيل: اسمه صالح بن صالح بن مسلم بن حيّان، يُسمّى.

في الرواية، يمُرّ عليك اسمه صالح بن حيّ، وصالح بن حيّان، هكذا يسمونه، الثوري، الهَمْداني، الكوفي، من أتباع التابعين، ثقة.

قال العجيلي: (كان ثقة، روى عن الشعبيّ أحاديث يسيرة، وما نعرف عنه في المذهب إلا خيرًا) يعني في العقيدة، روى له الجماعة.

"قَالَ: قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ" هو ابن شراحيل الشعبي، ثقة، حافظ، فقيه، تقدم.

"حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ" هو ابن أبي موسى الأشعري.

"عَنْ أَبِيهِ" هو عبد الله بن قيس، أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، هؤلاء الثلاثة تقدموا.

"قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ" أي ثلاثة رجال "لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ" وكذا المرأة تدخل في هذا "مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ" الكتاب: هو التوراة والإنجيل، والمقصود هنا اليهود والنصارى.

قال أهل العلم: (لفظ الكتاب عام، ومعناه خاص) هو لفظ عام، لكن يراد به الخصوص.

(أي المنزّل من عند الله، والمراد به التوراة والإنجيل، كما تظاهرت به نصوص كتاب والسنة، حيث يُطلق أهل الكتاب). انتهى.

"آمَنَ بِنَبِيِّهِ" موسى أو عيسى، عليهما الصلاة والسلام، "وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ " مع إيمانه بنبيه آمن بمحمد أيضًا.

الحديث يبقى على عمومه، والأجران لأنه آمن بنبيه، وهذه حسنة، وآمن بنبينا ، أجر على هذا وأجر على هذا، حتى لو كذّبَ سابقًا ببعض الأنبياء، هو أُجِرَ على إيمانه بمن آمن به، وهذا إيمانه حسَن، وتفضّل الله سبحانه وتعالى عليه بأن كتبَ أجره عليه.

بمَا أنه لما آمن بالجميع، تفضّل الله سبحانه وتعالى عليه بهذا الفضل، فأعطاه أجرَ ما أحسنَ فيه، وهو كقوله ، لحكيم بن حزام: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير».

وهذا الحكم باقٍ إلى يوم القيامة، بكلّ من اتصفَ بهذا الوصف، والله أعلم.

التقييد والتخصيص بعد هذا لا بد من أدلّة صحيحة، وقوية، تدلّ عليه، ولا يوجد، فإذًا يبقى الأمر على عمومه.

وثانيهما "وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللهِ" أدّى: ما افترضَ الله عليه من حقٍّ له عز وجلّ، من توحيد، وصلاة، وصيام، وغير ذلك "وَحَقَّ مَوَالِيهِ" عبد مملوك، إذًا له سادة، أسياد، هو أدى حق الله الذي أمره به، وحق مواليه، أي حق أسياده، ومالكيه.

موالي: جمع مولى، والمولى في لغة العرب من الألفاظ المشتركة، عرفتم الألفاظ المشتركة في دراستكم لأصول الفقه، كل واحد منكم يسمّع في نفسه الآن، وغير الحافظ يرجع يراجع.

من الألفاظ المشتركة، يطلق على: المعتِق، والمعتَق، وابن العم، والناصر، والجار، والحليف، وعلى كل من وليَ أمر أحد.

والمراد هنا الأخير، أي السيّد: وهو المتولّي لأمر العبد، وهذا دلّ عليه قوله: "وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ" لأن اللفظ المشتَرك مشكِل، عندما تقول المقصود به هذا المعنى، أو ذاك المعنى، يجب عليك أن تأتي بدليل، يدلُّ على أن المقصود هو واحد من هذه المعاني دون غيرها.

حقهم هؤلاء طاعتهم في غير معصية الله، وخدمتهم، وعدم الفرار منهم.

قال ابن بطّال: (والعبد المملوك له أجر عبادته لله تعالى، وأجر طاعته لسيده) لماذا؟ قال: (وتَحمُّلِهِ مضَضَ العبودية، والإذعان لحقوق الرِّقْ) فهو يأخذ الأجرين، على هذا وعلى هذا.

وثالثهما "وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ" في بعض النُسخ «يَطَأُهَا» يجامعها يعني "فَأَدَّبَهَا" لتتخلّقَ بالأخلاق الحميدة "فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا" بلطف، ورفق، من غير عنف "وَعَلَّمَهَا" من أحكام الشريعة، ما يجب عليها أن تتعلمه "فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا" حرّرها من الرّقْ "فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ" أي لكلٍّ من الثلاثة "أَجْرَانِ"

"فَتَزَوَّجَهَا" هنا يظهر لك أن الشرع يُحبُّ التحرير من الرّق، ويحثُّ على ذلك في صور كثيرة ستأتي معنا، هذه منها، وقد ذكرنا نحن الرّق، وأحكام الرّق، ولماذا شرَعَ الله سبحانه وتعالى الرق، وبقي في الإسلام جواز الرق، وفصّلنا القول فيها في شرحنا على الدرر، وفي فتوى موجودة على معهد الدين القيّم.

قال ابن بطّال رحمه الله: (والذي يعتِقُ أمَتَهُ، فيتَزوّجها، فله أجرُ العِقِّ والتزويج) هذا واحد، (وأجر التأديب والتعليم) اثنان، (ومن فعل هذا، فهو مفارقٌ للكبر، آخذ بحظ وافرٍ من التواضع، وتاركٌ للمُبَاهاة، بنكاح ذات شرف ومنصب) انتهى.

الآن لماذا خصّ الله سبحانه وتعالى، وذكر النبي ، خصوص هؤلاء الثلاثة في الأجرين مع أنه يوجد الكثير من الأمّة بصور كثيرة يحصلون على الأجرين، وأكثر أيضًا؟

فقال أهل العلم: (وخصّ هؤلاء الثلاثة، مع أن غيرهم ممن صامَ أو صلى، أو أدّى حق الله، وحق والده مثلًا له أجران، فللصلاة أجر، وللصوم أجر، ولأداء حق الله أجر، ولمن أدّى حق والده أجر) إذًا ما وجه خصوص هؤلاء الثلاثة؟

قال: (لأن الفرق بين هذه الثلاث وغيرها، أن الفاعل في كلّ منهما، جامع بين أمرين بينهما مخالفة عظيمة، فكان الفاعل لهما فاعلًا للضدّين، عاملًا بالمتنافيين، بخلاف غيره).

تصوّر يعني من أمَة مملوكة، إلى أن تصبح زوجة، وهكذا.

قال ابن حجر: (مطابقةُ الحديث للترجمة في الأمَة بالنص) يعني نصُّ الحديث على ما ترجم به الإمام البخاري رحمه الله، "تعليم الأمَة".

قال: (وفي الأهل) ما في بالحديث ذكر الأهل، قال: (وفي الأهل بالقياس، إذ: الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليمِ فرائض الله، وسنن رسوله آكدُ من الاعتناء بالإماء). انتهى.

"ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ" الشعبي "أَعْطَيْنَاكَهَا" أي: أعطيناكَ هذه المعلومة، أو هذه المسألة "بغير شيء" الشعبي يخاطب الخُراساني، قال هذا الكلام للخُراساني، الذي سأله عن زواج الرجل أمَتَهُ بعد عتقها.

ففي رواية، في الصحيح، في أولها "عن صالح بن صالحٍ الهَمْدانيُّ، عن الشَّعْبيِّ قال: رأيت رجلًا من أهل خراسان سأل الشعبي، فقال: يا أبا عَمرٍو، إنَّ مَن قِبَلَنا من أهلِ خُراسانَ يقولونَ: في الرجل إذا أعتَقَ أَمَتَه ثم تزوَّجَها فهو كالراكبِ بَدَنتَه؟"

فروى الشعبيُّ له هذا الحديث، ليردّ قول من هم في خراسان يقولون هذا الكلام.

وفي آخر الحديث، قال: "ثم قال الشَّعْبيُّ للخُراسانيِّ: خُذْ هذا الحديثَ بغيرِ شَيءٍ، فقد كان الرَّجُلُ يرحَلُ إلى المدينةِ فيما هو أَدْنى منه." انتهى.

فبيّن هنا إذًا المخاطَب هو الخراساني، وليس صالحًا.

"بِغَيْرِ شَيْءٍ" أي بغير أجر دنيوي، وإلا الأجر الأخروي حاصل له إن شاء الله.

"قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا" يعني: يُرحل لأجل تحصيل هذه الفائدة ما هو أهون من هذه المسألة.

"قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا" فيما هو أهون من هذه المسألة، كانوا يركبون، ويرحلون من أجل أن يتحصّلوا عليه "إِلَى الْمَدِينَةِ" المدينة النبوية.

قال ابن حجر: (وإنما قال الشعبي ذلك تحريضًا للسامع ليكون ذلك أدعَى لحفظه، وأجلبَ لحرصه، والله سبحانه وتعالى أعلم).

وقال: (وكان ذلك في زمن النبي ، والخلفاء الراشدين، ثم تفرّق الصحابة في البلاد بعد فُتُوحِ الأمصار، وسكنوها، فاكتفى أهل كلّ بلد بعلمائه، إلا من طلب التوسع في العلم، فرحل). انتهى.

قال ابن بطّال، رحمه الله: (وقول الشعبي: "أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ" فيه أن للعالم أن يُعرّف المتعلّمَ منهُ قدرَ ما أفادهُ من العلم، وما خصّهُ به؛ ليكون ذلك أدعى لحفظه، وأجلبَ لحرصه، وقوله: "وقَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ" فيه: إثبات فضل المدينة، وأنها معدن العلم، وموطنه، وإليها كان يُرحلُ في طلبه، ويُقصدُ في التماسه) ثم ذكر مسألة في عتقِ الأمَة، إذا أُعتِقت هل لها مَهْر إذا أراد أن يتزوجها أم يكتفي بعتقها؟

وهذه المسألة ستأتي بموضعها إن شاء الله.

الحديث متفق عليه.

"‌‌بَابُ عِظَةِ الْإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ"

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أَوْ قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ، وَبِلَالٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَقَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ".

"‌‌بَابُ عِظَةِ الْإِمَامِ النِّسَاءَ" العِظَة: الوعظ، أي باب مشروعية وعظ الإمام للنساء، أو من ينوب عن الإمام، كأئمة المساجد اليوم مثلًا "النِّسَاءَ" وهو التذكير بالعواقب، والتخويف من مخالفة أمر رسول الله ، هذا معنى العظَة "وتَعْلِيمِهِنَّ" وتعليم النساء من الأمور الدينية، الشرعية.

"حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ" الأزدي، الواشحي، إمام، ممن قيل فيه لا يروي إلا عن ثقة، تقدم.

"حَدَّثَنَا شُعْبَةُ" ابن الحجاج، أبو بسطام، أمير المؤمنين في الحديث، إمام.

"عَنْ أَيُّوبَ" هو ابن أبي تميمة، السّختياني، مثلثة تصح بثلاث، السَّخْتياني، السِّختْياني، السُّختاني، إمام، تقدم.

"قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً" هو ابن أبي رباح، واسم أبي رباح: أَسْلَم، القرشي مولاهم، أبو محمدٍ المكّي، تابعي، مفتي الحرم، ثقة، حافظ، فقيه، إمام من أئمة المسلمين، كبير القدر، لكنه كان كثير الإرسال.

مات سنة 114، تابعي، روى له الجماعة.

قال أبو داود: (أبوه نوبيٌّ) يعني من بلاد النوبة، في السُداد (وكان يعمي المكاتِلْ) زنبيل، يقال له قُفّة.

(وكان عطاءٌ أعور، أشَلّ، أفطَس، أعرج، أسود) هذه صفاته، أعور، أشل، أعرج، هؤلاء ماذا يسمونهم اليوم؟

من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويحاولون أن يرققوا قلوب الناس عليهم، وأن يعاملوهم في المجتمعات معاملة جيّدة، طيبة، لماذا؟ لأنهم ربّوا مجتمعاتهم على الأنانية، حبُّ النفس، ونزعوا منهم الأخلاق، والآداب، والدين، فأدى ذلك إلى احتقار أمثال هؤلاء، وعدم احترامهم، وعدم تسهيل معيشتهم مع الناس.

فصاروا يريدون أن يعالجوا هذه القضية، هذا الحمد لله ليس عندنا، هذا واحد ممن يسمونهم هكذا، هذا إمام من أئمتنا، وكبير من كبارنا.

إمام في وقته وبعد وقته رحمه الله، كان مفتيَ الحرم، ومن أعلم أهل زمانه رحمه الله، وكان معظَّمًا عند الناس، وأما اللون فكان أسود، وكان أصلع تقريبًا، ومع هذا كان إمامًا في المسلمين؛ لأن أهل الإسلام لا ينظرون إلى هذه الأشياء.

والعبرة عندهم بالتقوى والصلاح، هي التي ترفع الإنسان وهي التي تخفضه، بس، لا شيء آخر.

وهذا نوبي، وليس عربيًا، لا ينظرون إلى الأنساب، ينظرون إلى التقوى.

هذا بلال أسود وحبشي، وفاق كل العرب الذين جاؤوا من بعده، من عهد التابعين فما بعد، وسلمان الفارسي، وهكذا كذلك مثله، هذه هي أخلاق الإسلام.

وقال جرير بن حازم: (رأيتُ يدَ عطاء شلّاء، ضربت أيّام ابن الزبير) يعني القتال مع ابن الزبير.

وعن ابن مَعين، قال: (كان عطاءٌ معلّم كُتّاب) معلم كتّاب: يعلم القرآن وغيره.

قال أبو عاصم الثقفي: (سمعت أبا جعفر الباقر يقول للناس وقد اجتمعوا: عليكم بعطاء) وهذا هاشمي، ويوصي بعطاء النّوبي، ومولى أيضًا، ومع ذلك يقول: (عليكم بعطاء، هو والله خير لكم منّي).

وقال أبو جعفر: (خذوا من عطاءٍ ما استطعتم).

وروى أسلَم المنقري، عن أبي جعفر، قال: (ما بقيَ على ظهر الأرض أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء).

وعن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، قال: (ما أدركت أحدًا أعلمَ بالحج من عطاءِ ابن أبي رباح).

وروى إبراهيمُ بن عمر بن كيسان، قال: (أذكرهم في زمان بني أميّة، يأمرون في الحج مناديًا يصيح: لا يُفتي الناس إلا عطاءُ ابن أبي رباح، فإن لم يكن عطاءٌ فعبد الله ابن أبي نجيح).

وقال أبو حازم الأعرج: (فاقَ عطاءٌ أهل مكّةَ في الفتوى).

وقال ابن سعد: (انتهت إليه فتوى أهلِ مكة، وإلى مجاهدٍ في زمنهما، وأكثر ذلك إلى عطاء). انتهى.

وعن عثمان ابن عطاءٍ قال: (كان عطاءٌ أسود، شديد السّواد، ليس في رأسه شعرٌ، إلا شعرَات، فصيحٌ إذا تكلّم، فما قال بالحجاز قُبِلَ منه).

وقال ابن عُيينة، عن إسماعيل ابن أُميّة، قال: (كان عطاءٌ يُطيلُ الصَّمتَ، فإذا تكلّم يُخيّلُ لنا أنه يؤيّد).

وعن الأوزاعي: (مات عطاءُ ابن أبي رباح يوم مات، وهو أرضى أهل الأرض عند الناس، وما كان يشهدُ مجلِسهُ إلا تسعةٌ أو ثمانية).

هذا هو، مكانتهُ معروفة، لكن انظر المجلس كم واحد يجلس فيه؟ وانظر إلى زمننا هذا!

وقال إسماعيل ابن عيّاشٍ: (قلت لعبد الله بن عثمان بن خُثَيم: ما كان معاشُ عطاء؟) من أين كان يصرف على نفسه وأولاده؟ (قال: صلة الإخوان، ونيلُ السلطان) انتهى.

يُعطى من السلطان، وصلةُ الإخوان.

صلة الإخوان، هذه ينبغي أن نتفطّن لها، وأن نركّز عليها، أوصي بطلب العلم خيرًا، طلبةُ العلمِ اليوم لا مُنفِقَ عليهم، وطالبُ العلم محتاج إلى أن يفرّغ من وقته أكثر ما يُمكن، ولو تفرّغَ تمامًا لكان أفضَل، ولا يوجد من يلتفت إليهم اليوم، إلا من رحم الله.

فإذا رأى الرجل منكم طالبَ علمٍ نجيب يرجو أن ينفعَ الله به، وله في الدّعوة، فلا يُفرّط في صلته؛ لأن هذا يشاركه في أجر هذا الجهاد.

هذا طالبُ العلم يقوم بجهاد اليوم، ويُؤدي فريضة من فرائض الكفاية، فهو يُغلقَ بابًا، والمنفقُ عليه شريكٌ له في هذا الخير، فلذلك لا تنسوا طلبةَ العلم من النفقة.

بعض الأخوة، أصلحهم الله، يكون عندهم من أموال الزكاة، يذهب يخرجها يمنةً ويسرة، وأمامه طلبة علم، هم بحاجة ماسّة إلى هذه الأموال، حتى يستَمرّوا في الطلب ولا ينقطعوا، أعرف الكثير من طلبة العلم انقطعوا بسبب طلبِ الرزق، بسبب المعاش.

فأنت ينبغي أن تحرصَ أن تكون سببًا في استمرار طلبة العلم في طلب العلم، وفي دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى، كي تكونَ شريكًا لهم في هذا الخير.

هؤلاء أئمة، هذا عطاء إمام، كان يعيش من صلة الإخوان، مراكز لأهل السّنة قامت على صلة الإخوان.

قال ابن حبّان: (وكان) أي عطاء (من سادات التابعين، فقهًا وعلمًا، وورعًا، وفضلًا، لم يكن له فراشٌ إلا المسجدَ الحرام، إلى أن مات سنة 114، وقد قيلَ: إنه مات سنة 115، وكان مولده سنة سبعٍ وعشرين). انتهى.

وسُئلَ عطاء عن شيء، فقالَ: (لا أدري) فقيلَ له: (ألاَ تقول برأيك؟) ألاَ تقول فيها برأيك؟ قال: (إني لأستحي من الله أن يُدانَ في الأرض برأيي) هكذا كان السلف رضي الله عنهم عندهم ورع في الإفتاءٌ بالرأي باجتهاد من دون أن يكون عنده نصٌّ من كتاب أوسنة.

اليوم كثير من الناس عنده نصوص من الكتاب والسنة ويتركها ويذهب إلى الرأي، وهذا ما كان يذُمّه أهل السلف رضي الله عنهم في بعض أهل الرأي.

وعن يَعلى بن عبيد قال: (دخلت على ابن سوقَةَ، فقال: يا ابن أخي، أحَدّثكم بحديث لعلّه ينفعكم، فقد نفعني، قال لنا عطاء ابن أبي رباح: إنّ من قبلكم، كانوا يعدّون فضولَ الكلامِ) يعني الزائد من الكلام الذي لا فائدة منه، ما هو؟ قال: (ما عدا كتاب الله، أو أمرٍ بمعروف، أو نهيٍ عن منكر، أو أن تنطق في معيشتكَ التي لا بدّ لكَ منها) هذه ما زاد على هذا يعدّونه من فضول الكلام.

قال: (أَتُنكِرونَ أنّ عليكم ﴿حافظين . كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾ ﴿عن اليمين وعن الشمال قعيد . مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾؟) يعني كلُّ هذا فضول الكلام معرّض للخطر.

قال: (أمَا يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره وليس فيها شيء من أمر آخرته؟) انتهى.

موعظة نفيسة، خصوصًا لكُتّاب الإنترنت، ينبغي أن يتأملوا فيها جيدًا، كلّ كلمة تكتبها هي مسجّلة عليك، وأنت تكتب وتخربش وتمضي، لكن ما تدري هل كُتبت حسنة أم كتبت سيّئة.

الكلام سواء كان باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة خطيرٌ جدًّا.

جاء في الحديث: «إنَّ الرجلَ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ لا يلقي لها بالًا تهوي به في نار جهنم سبعين خريفًا».

لا يُلقي لها بالًا: كلمة كتبها ومشى، لكنها تهوي به في نار جهنم سبعين خريفًا، سبعين سنة.

الكلام ما هو سهل، لذلك كان السلف رضي الله عنهم يوصون بالصمت، وأُلّفتْ فيه كُتب؛ لأن السكوتَ سلامة، إلا مما ذكر الإمام عطاء ابن أبي رباح.

وقال ابن جُريج عن عطاء: (إنّ الرجل ليُحدّثني بالحديث، فأُنصِتُ له كأني لم أسمعه، وقد سمعته قبلَ أن يولد) يتكلم معه بكلام، هو أعلم منه بهذا الكلام الذي يكلمه به، لكن يسكت ويستمع له إلى آخر حديثه.

اليوم ماذا يفعلون؟ قديمة، قديمة هات غيرها، هذا ليس من الأدب، منَ الأدب أن تُنصت، تسكت، حتى لو كنت تعلمها.

وقال: (عن ابن جريجٍ قال: لزمتُ عطاءً ثماني عشرة سنة، وكان بعد ما كبُرَ وضعُفَ يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مئتي آية من البقرة، وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك) هذا بعد ما كبُر وصار ضعيف، مئتي آية، هذا يدُلّك على الفرق الكبير بيننا وبينهم في العبادة.

فهم ما فاقونا فقط في العلم، فاقونا في العلم وفي الزهد وفي الطاعة وفي كلّ شيء، لذلك قال ﷺ: «خَيْرُ الناس قَرْني، ثمَّ الذين يَلُونهم، ثمَّ الذين يَلُونهم».

وعن عطاء قال: (لو اؤتمنتُ على بيت مالٍ لكنت أمينًا، ولا آمنُ نفسي على أمَة شوهاء) يعني قبيحة، وهذا تحذير من الوقوع في فتنة النساء، لعلمهم بخطر هذا الأمر.

"قال" عطاء "سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ" هو من تلاميذ ابن عباس، رضي الله عنهما.

هذا الإسناد مسلسل بالأئمة الحفاظ.

قال ابن عباس: "أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أَوْ قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ"

تردّدَ الراوي، بين أن يكون ابن عبّاس هو الذي قال: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، أو عطاء هو الذي قال: أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، من الذي قال أشهد على؟

قال ابن حجر: (معناه أن الراوي تردد هل لفظ أشهد من قول ابن عباس، أو من قول عطاء، وقد رواه أيضًا حمّادُ ابن زيدٍ عن أيوب، أخرجه أبو نعيم في المستخرج، وأخرجه أحمد ابن حنبل، عن غُندَر، عن شعبة، جازمًا بلفظ: أشهدُ عن كل منهما).

ابن عباس قال: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وعطاء قال: أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (وإنما عبّر بلفظ الشهادة تأكيدًا لتحققهِ، ووثوقًا بوقعه) انتهى.

"أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ" من بين صفوف الرجال إلى صف النساء، يعني النبي تكلم بموعظة وعظَ فيها المصلّين، الرجال من الأمام والنساء من الخلف، فلمّا وعظَ ﷺ وانتهى، ظنّ أنه لم يُسمع النساء، فخرج إليهن.

"وَمَعَهُ بِلَالٌ" هو ابن رباح، الحبشي، مؤذن رسول الله ، ومولى أبي بكر رضي الله عنه، أمه حمامة، وهو من السابقين الأولين، الذين عذبوا في الله.

كان من المستضعفين من المؤمنين، وكانَ يُعذب حين أسلم، يُعذَّب ليرجع عن دينه، فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون.

كان الذي يعذبه أُميّة بن خلف، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، شهد بدرًا والمشاهد مع النبي ، وشهدَ له النبي على التعيين بالجنة، فهو من أهل الجنة.

ماتَ بالشام، سنة 17، وقيل بعد ذلك، وله بضعٌ وستون سنة، روى له الجماعة.

"فَظَنَّ" أي النبي "أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ" النّساءْ، هكذا جاءت رواية في بعض الروايات ذِكر "النساء"، أي أنه وعظ الرجال والنساء، لكنه ظن أنه لم يُسمع النساء.

"فَوَعَظَهُنَّ" ﷺ، بقوله: «إني أُرِيتُكُنَّ أكثر أهْل النار» وهذا تقدم الحديث، وسيأتي إن شاء الله في موضعه "وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ" أمر النبي النساء بعد الموعظة بالصدقة.

لما رآهن أكثر أهل النار أَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ لأنها مكفرة لكثير من الذنوب المدخلة للنار.

فلما أمرهن بالصدقة "فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ"، القُرطَ: يلبس في شحمة الأذن، ذهبًا كان أو غيره، يسمونه اليوم الناس عندنا في الشام، وفي مصر، وفي كثير من البلاد العربية (حَلَق)، وحتى من الأمثلة عندهم، يقولون: ضعه في أذنك كالحلقَ، أو ضعه حلقًا في أُذنك.

وفي شرق ليبيا يقولون: دناديل، واحدة دندولة، وفي الغرب يسمونها: خراصات، وفي بعض بلاد الخليج والعراق وسوريا في بعض سوريا أيضًا، ترتشي، ما أدري أصح النطق أو لم يصح، لكن هكذا وصلتني، أرسلنا عن طريق مجموعة النساء، طبعًا هنّ أهل الخبرة في هذا، فأرسلنَ هذه الكلمات، عشان يتصورها كل أهل بلد.

وفي المغرب: الطوانق، بالجزائر: مناقيش، في اليمن: قطب، وأقراط، وزغ، وأخراص.

"وَالْخَاتَمَ" هذا معروف، مش محتاجين، حتى الذي يسميه بغير اسمه يعرفه.

"وَبِلَالٌ يَأْخُذُ ما يلقينه من صدقاتهن فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ" ليصرفه النبي في مصارفه، وهو لا يأخذ الصدقة ﷺ لأنها محرمة عليه.

في حديث جابر في الصحيحين، قال ابن جُريج: (قلت لعطاء: زكاة يوم الفطر؟، قال: لا، ولكن صدَقةً يتصدّقن حينئذ، تلقي فتَخَها، ويلقينَ، قلت: أترى حقًا على الإمام ذلك؟ ويذَكّرُهنّ؟ قال: إنها لحقٌّ عليهم، ومالهم لا يفعلونه).

الفَتَخ: خواتيم من عظام، كنَّ يُلبسنَ في الجاهلية، هكذا جاء تفسيرها في رواية.

وفي رواية ابن عساكر لصحيح البخاري، زيادة: "قال أبو عبد الله" أي البخاري "وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ" هو ابن عُليّة، ثقة، فقيه، تقدم.

"عَنْ أَيُّوبَ" السَّختياني.

"عَنْ عَطَاءٍ، وَقَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ" فجزم إسماعيل في روايته هنا للحديث عن أيوب أن الشهادة من كلام ابن عباس، هذا من تعاليق البخاري، لأنه لم يدرك إسماعيل ابن عُليَّة، ووصله في كتاب الزكاة، فرواه عن مؤمّل، عن إسماعيل به.

قال ابن حجر: (وأراد) أي البخاري (بهذا التعليق، أنه جزمَ عن أيوب بأن لفظ: "أشهد"، من كلام ابن عباس فقط، وكذا جزمَ به أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة، وكذا قال وهيب عن أيوب، ذكره الإسماعيلي، وأغرَبَ الكِرمَانيّ، فقال: يحتملُ أن يكون قوله، وقال إسماعيل، عطفًا على حدّثنا شعبة) يعني يكون متصلًا هكذا الحديث.

(فيكون المراد به حدثنا سليمان بن حرب عن إسماعيل فلا يكون تعليقًا) انتهى.

ورد هذا الكلام ابن حجر، فقال: (وهو مردود، لأن سليمان بن حرب لا رواية له عن إسماعيل أصلًا، لا لهذا الحديث ولا لغيره، وقد أخرجه المصنف في كتاب الزكاة موصولًا، عن مؤمّل بن هشام، عن إسماعيل كما سيأتي، وقد قلنا غير مرة إن الاحتمالات العقلية لا مدخل لها في الأمور النّقلية، ولو استرسل فيها مسترسل، لقال يحتمل أن يكون إسماعيل هنا آخر، غير ابن عليَّة، وأن أيوب آخر غير السّختياني، وهكذا في أكثر رواة، فيخرج بذلك إلى ما ليس بمرضي) يعني فتح باب الاحتمالات هنا غلط، سيؤدي إلى ما لا يُرضى في هذا العلم.

قال: (وفي هذا الحديث:

§ جواز المعاطاة في الصدقة) يعني لا يجب فيها الإيجاب والقبول، مجرد أعطيتها خلص، تحصل الصدقة.

§ (وصدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها) يعني يجوز هذا، يدل على ذلك أن النساء لما أمرنَ بالصدقة تصدّقنَ مباشرة ولم يرجعنَ إلى أزواجهنْ، وهذا هو الصحيح في هذه المسألة.

§ (وأن الصدقة تمحو الكثير من الذنوب التي تدخل النار) انتهى.

وهذا الحديث أصل في حضور النساء مجالس الوعظ ونحوه بشرط أمن الفتنة.

الحديث متفق عليه، وله شواهد ستأتي إن شاء الله.

نكتفي بهذا القدر، والحمد لله.

قائمة الخيارات
0 [0 %]
الخميس 26 جمادة الاولى 1445
عدد المشاهدات 736
جميع الحقوق محفوظة لشبكة الدين القيم © 2008-2014 برمجة وتصميم طريق الآفاق