الدرس الثلاثون/الأربعاء/بتاريخ:01/05/1445-15/11/2023
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد: مجلسنا اليوم هو المجلس الثلاثون من مجالس شرح صحيح البخاري.
وصلنا عند حديث المئة وواحد.
"بَابٌ: هَلْ يُجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ فِي الْعِلْمِ"
"حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: «وَاثْنَتَيْنِ»"
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِهَذَا.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ."
"بَابٌ: هَلْ يُجْعَلُ" أي: هل يجعَلُ الإمام للنساء "يومٌ" يأتيهن به "على حدة" أي على ناحية، أو منفردات وحدهن "فِي الْعِلْمِ" أي: لتعليمهن العلم الشرعي.
"حَدَّثَنَا آدَمُ" هو ابن أبي إياس العسقلاني، ثقة، كان مكينًا بشعبة.
"قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ" هو ابن الحجاج، أبو بسطام، الإمام.
"قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ" هو عبد الرحمن، ابن أبي عبد الله، ابن الأصبهاني، الكوفي، الجهني، ويقال الجَدَلي، مولى جديلةَ قيسٍ، تابعي، ثقة.
مات في إمارة خالد القسري على العراق، وخالد قُتلَ عام 126، روى له الجماعة.
"قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ" هو السمان، ثقة، يحدث عن أبي سعيد الخدري، الصحابي، الجليل، رضي الله عنه.
رواة هذا الحديث كلهم ثقات، وكلهم تقدموا، إلا ابن الأصبهاني، وهو ثقة.
"عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «قَالَتِ النِّسَاءُ" في بعض روايات الحديث، "قال النساء" وكلاهما جائز، كما هو معروف ومقرر في كتب النحو.
أي قالت واحدة منهن، بالنيابة عنهن، ففي رواية عند مسلم: "جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ، فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك".
"قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ" بملازمتهم للنبي ﷺ كل الأيام، يتعلمون منه ﷺ.
"فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ" تعلمنا فيه، من نفسك: أي من اختيارك، لا من اختيارنا.
"فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ" لتعليمهن، فوفّى ﷺ ما وعدهن، ولقيهن في اليوم الذي وعد.
"فَوَعَظَهُنَّ" بمواعظ "وَأَمَرَهُنَّ" بأمور دينية.
"فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ»" وفي رواية: "إلا كانوا لها" يعني الأولاد.
"فَقَالَتِ امْرَأَةٌ" اختلف في المرأة السائلة، فقيل: هي أم سُلَيم، وقيل هي أم أيمن، وقيل أم مُبَشِّر.
وقالت سائلةً: "وَ" من قدم "اثْنَتَيْنِ" هنا جاء بلفظ التأنيث، مع أن النبي ﷺ قال: «من وَلَدِهَا» على معنى النّسَمَة والنفس، أي: ومن قدّمَ نسَمَتَينِ أو نفسين.
"فَقَالَ: «وَاثْنَتَيْنِ»" يعني سألت: من قدمت ثلاثًا فلها هذا الأجر، طيب من قدمت اثنين فقط من الولد؟ يعني ماتوا قبل أن يبلغوا، فصبرت واحتسبت، فقال: حتى اثنتين.
أي يكون تقديمها لهم، والصبر، والاحتساب على ذلك حجابًا لها من النار.
فيعني هنا بقوله: «وَاثْنَتَيْنِ» يعني حكم الاثنين كحكم الثلاثة.
قال الشرّاح: (لا يشترطُ أن يكون الولدُ الميّتُ ذكرًا، حتى يحصل لها الحجاب؛ لأن تذكيره بالنظر إلى لفظ الولد، والولد يقعُ على الذكر والأنثى) في لغة العرب، إذا ذكر الولد فهو يعني الذكر والأنثى، المولود: سواءٌ كان هذا المولود ذكراً أو أنثى، يطلق على الولد، بخلاف العُرف المـُتعارف عليه اليوم، اليوم يقولون الولد على الذكر، لكن هذا لا تحمل عليه الألفاظ الشرعية؛ لأن في لغة العرب التي نزل فيها القرآن، وجاءت بها السنة النبوية: الولد فيها يُطلقُ على الذكر والأنثى.
فإذا قدّمتِ المرأة، يعني إذا ماتَ لها ولدٌ، سواءٌ كان ذكرًا أو أنثى، وصبرت واحتسبت، ويكون هذا الولد لم يبلغ، قبل البلوغ، يعني كان صغيرًا قبل البلوغ، مادام قبل البلوغ فهو يشمله هذا الحديث.
من ماتَ لها ولدٌ، ذكرًا كان أو أنثى، قبل سن البلوغ، اثنين أو أكثر، وصبرت واحتسبت، كان ذلك لها حجابًا من النار.
كما ذكرنا، الأولاد هنا مقيدون هنا بقبل البلوغ، سيأتي دليل هذا التقييد في حديث أبي هريرة.
وفي هذا الحديث:
§ سؤال النساء عن أمر دينهن، وهذا وردَ في أحاديث كثيرة.
كانت النساء يسألنَ النبي ﷺ، عما احتجنَهُ من أمور دينهن، وهكذا ينبغي أن يكون حال المسلم، الذكور والإناث، الصغار والكبار، الكل يسألُ عن دينه؛ حتى يعبدَ الله على علم، وهو ما خُلِقَ في هذه الدنيا إلا لعبادة الله، والله سبحانه وتعالى لا يقبل عبادة إلا أن تكون كما شرع؛ وكذلك حتى يعلم ما الذي يجتنبه مما حرمه الله سبحانه وتعالى عليه.
§ وفيه جواز كلام النساء مع الرجال، فيما لهنَّ حاجةٌ فيه، فلا بأس أن تكلمَ المرأةُ الرجلَ بأدب، ومن غير أن يخضَعنَ بالقول، وفي حدود الحاجة، من غير توسّع، وسهوكة وضحك، كما تفعل نساء اليوم، إلا ما رحم ربي.
تدخل عند صاحب المحل، فتبدأ تضحك هي وإياه، ومزاح، هذا شرٌ عظيم، بابُ شرٍ عظيم يُفتح على الطرفين، تدخل إلى المحل:
1- تطلبُ حاجتها بأدبٍ واحترام، ودون تجاوز حد فلا بأس بذلك.
2- إذا لم يكون خلوة بهذا المحل، هذا مهم أيضًا.
فإذا احتاجت المرأة أن تكلم الرجل فلا بأس بذلك، لكن كما ذكرنا بالضوابط هذه.
§ وفيه ما كان عليه نساء الصحابة، من الحرص على تعلم أمور الدين.
§ وفيه أن أطفال المسلمينَ في الجنة.
§ وأن من مات له ولدان حجباه من النار، لكن إذا صبرَ واحتسب، ولا اختصاص لذلك بالنساء، ففي حديث أنس، وحديث أبي هريرة، ما يدل على العموم، للرجال والنساء، حديث أنس: «ما من الناس من مسلم» وهذا عام يشمل الذكر والأنثى «يُتَوفّى له ثلاثٌ، لم يبلغوا الحِنثَ» سيأتي تفسير الحنث، والمقصود من ذلك أنهم لم يبلغوا، «إلا أدخله الله الجنةَ؛ بفضلِ رحمته إياهم».
عادةً تكون الشفقة والرحمة على الصغير أعظم منها على الكبير، لذلك يكون الألم أشد؛ فلهذا رتّب الله سبحانه وتعالى هذا الفضل، وهذا الجزاء على الصبرِ على ذلك.
وفي حديث أبي حسّان، قال: قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان، فما أنت محدثي عن رسول الله ﷺ بحديث تطيّبُ به أنفسنا عن موتانا، قال: قال: نعم، «صغارهم دعاميصُ الجنة» دعاميص: جمع دُعمُوص، وهي في الأصل دويبة صغيرة، تكون في مستنقع الماء، وأيضًا الدخول في الأمور، تطلق على الدخول في الأمور، أي أنهم يسيحون في الجنة، يمشون فيها، يدخلون في منازلها، لا يُمنعون من موضعٍ منها، كما أن الصبيان في الدنيا يدخلون البيوت، ويدخلون عند النساء، ولا يُمنعون من ذلك، ولا يحتجبن النساء منهن، كذلك هذا، هذا المقصود بالدعاميص.
«يتلقّى أحدهم أباه» يعني الولد الصغير هذا يتلقى أباه، «أو قال أبويه» أبوه وأمه «فيأخُذُ بثوبه، أو قال بيده، كما آخذُ أنا بصَنِفةِ ثوبك هذا، فلا يتناهى، أو قال فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة»
هذا فضل من الله سبحانه وتعالى، لمن أصابه هذه البلاء، قال: الفضل لمن احتسب، الاحتساب: ادّخار الأجر عند الله سبحانه وتعالى، فيحتسبُ الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
قال ابن الجوزي رحمه الله -وهو من الوعّاظ-: (كان النساء في ذلك الزمن) زمن النبي ﷺ، (يطلبن الخير، ويقصدنَ الأجر، ويصلينَ مع الرسول ﷺ جماعةً، وكان مثلُ الرسول واعظُهُنّ) يعني الذي يعظُهنّ مثلَ النبي ﷺ، (فَصَلُحَ أن يجعل لهنَّ يوماً، فأمّا ما أحدثَ القُصّاص من جمع النساء والرجال، فإنه من البدع التي تجري فيها العجائب من اختلاط النساء بالرجال، ورفعِ النساء أصواتهن بالصياح والنواح إلى غير ذلك، فأما إذا حضرت امرأةٌ مجلسَ خيرٍ في خُفية، غير متزيّنة، وخرجت بإذن زوجها، وتباعدت عن الرجال، وقصدت العمل بما يُقال، لا التّنَزُّه) ما ذهبت للمسجد من أجل أن تتنزه وتلتقي بالنساء، ويقلبن حكوات، وسواليف في المجلس، ومزح وضحك ولعب، ويأتين بالأكل والشرب، يعني حالة التي تحصل عند النساء اليوم، إلا ما رحم الله.
(وخرجت بإذن زوجها، وتباعدت عن الرجال، وقصدت العمل بما يُقال، لا التّنَزُّه) ذهبت لتستفيد وتعمل، (كان الأمر قريباً مع الخطر) يعني يجوز لها ذلك، وتذهب، ومع ذلك في خطر عليها، (وإنما أجزنا مثل هذا؛ لأن البعد عن سماع التذكير يقوي الغفلة، فينسي الآخرة بمرة، ويبنغي للمذكر أن يحثّ على الواجبات، وينهى عن المحظورات، ويذكرَ ما ينفع العوام، وما يحتاج إليه الجهال في دينهم، وهيهات) يعني بعيد أن يفعلوا هذا، هؤلاء القصاص حقيقة لا يهتمون بمثل هذه الأشياء التي هي الأهم، والأفضل والأحسن، والواجب أن يفعلوا، لا يهتمون به.
قال: (وهيهات، ما أقلّ هذا اليوم) هذا في زمنه، زمن ابن الجوزي يتكلم، ويقول لك ما أقل هذا الذي يتكلم بما ينفعُ الناس حقيقة، ويبين لهم الحلال والحرام، طيب بأيش يشتغلون إذاً؟
قال: (وإنما شغل القصاص اليومَ، ذكر زليخة ويوسف) زليخة التي هي امرأة العزيز، يعنون بزليخة امرأة العزيز لكن لا أعرف دليلًا يصح فيه بتسميتها بهذا الاسم، لكن بغض النظر، الآن هم شُغلُ القصاص هو الحكوات، حكواتي، ومؤخرًا يسميه ببعض البلاد حكواتي، حكايات وقصص مسلية، ممتعة، هذا المقصود.
(وموسى والجبل) قصة موسى والجبل، وما الذي حصل فيها (وإنشاد الغزل، فيكون الضرر في ذلك أقوى من النفع) انتهى.
اليوم حال الناس هذا، قٌصّاص، حكواتيَّ، يخرجون يحكون لهم القصص والحوادث، والقصص المكذوبة حتى، ويضعون من أجل أن يجمّعوا الناس، ويكتّلوهم حولهم، هذا الموجود، والناس تقبل على أمثال هؤلاء، يقبلون عليهم، ويسمعون لهم، ونادر وقليل جدًا من المسلمين الذين يهتمون بالعلماء، وبكلام العلماء الذين يعلمونهم الحلال والحرام، والعقيدة الصحيحة التي يجب أن يتبعوها ويعتقدوها، قلّة جدًا من الناس من يهتم اليوم بهذا.
شغلهم الشاغل واهتماهم هي القصص والحكايات، التي يستمتعون بها ويتسلون، هذا الواقع، وهذا في زمن ابن الجوزي، يتحدث عن هذه الحادثة، والله المستعان.
وهذا الحديث متفق عليه من حديث عبد الرحمن ابن الأصبهاني به.
وهذا الحديث أنصح بنشره اليوم، فنساء المسلمين اليوم في فلسطين وفي سوريا بحاجة إلى العلم به، لعله أن يكون تسليةً لهنّ بفقدهنّ لأبنائهن، فالموت هناك كثير، والبلية عليهم عظيمة.
فأسأل الله أن يهوّن عنهم، ويخفف ويرفع البلاء عنهم، لا نملك إلا الدعاء والله المستعان.
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ" بُندَار، ثقة.
"قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ" محمد ابن جعفر، ثقة، من أثبت الناس في شعبة، تقدما.
"حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِهَذَا" أي بهذا الحديث المتقدّم.
هذه مُتابعةَ لآدم، في روايته عن شعبة، فغندر وآدم يرويانه عن شعبة، أفادت هذه المتابعة تسمية ابن الأصبهاني، في الطريق الأولى ما فيها تسمية، هنا سماه بعبد الرحمن.
وبنفس الإسناد السابق أيضًا،: مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ عن غُنْدَرٌ عن شُعْبَةُ "عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ" هو سلمان الأشجعي، مولاهم أبو حازم الكوفي، تابعي، ثقة، مات على رأس المئة، روى له الجماعة.
قال ابن عبد البَر: (أجمعوا على أنه ثقة)
قال الشراح: (وقد يشتبهُ أبو حازمٍ الأشجعيّ بأبي حازم سلَمَةَ ابن دينار، فإنهما تابعيان، ثقتان، ويفرق بينهما بأمور، منها: أن الأشجَعيَّ لم يرو في الصحيحين إلا عن أبي هريرة، والثاني لم يرو عن الصحابة إلا عن سهل ابن سعد) لذلك كان شيخنا الوادعي رحمه الله، يقول لنا وحفظته منه: (أبو حازم عن أبي هريرة هو سلمان الأشجعي، وأبو حازم عن سهل بن سعد هو سلمَةُ بن دينار)
"عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ" الحنث: أي الإثم، المعنى أنهم ماتوا قبل بلوغهم التكليف، فلم تكتب عليهم الآثام.
ووجه اعتبار ذلك، أن الأطفال أعلقُ بالقلوب، والمصيبة عند النساء أشدُّ؛ لأن وقتَ الحضانة قائم.
قال الشراح: (وإنما اشترط الصِّغر؛ لأن الرحمة للصغار أكثر، والمحبةَ لهم أوفر، وشفقة الأمّ أوفى من شفقةِ الأب، فذكر للنساء ما هو أخصُّ بهنّ من فراق المحبوب) انتهى.
لماذا وعظَ النبي ﷺ النساء خاصة بهذا الحديث؟ لهذا السبب الذي ذكره هنا، شفقتهنّ أعظم من شفقة الرجال، ورحمتهنّ أعظم، لذلك خصهنّ بهذا الحديث، وإلا الحكم ليس خاصّا بهنّ، وهذا الفضل ليس لهنّ لوحدهنّ، كـما سلف.
وأفاد ابن حجر، أن حديث أبي هريرة مرفوع، وأن الواو في قوله: " وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ" للعطف على قوله أولا "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ" والحاصل إذًا أن شعبةَ يرويه عن عبد الرحمن بإسنادين، فهو موصول، ووهم من زعم أنه معلق.
قال ابن حجر: (أفاد بهذا الإسناد فائدتين، إحداهما: تسمية ابن الأصبهاني المبهم في الرواية الأولى)
قال بعض الشراح: (وإنما لم يصرّح هناك باسمه؛ محافظة على لفظ الشيوخ) يعني لماذا ما قال من الأول عبد الرحمن الأصبهاني بدل ما قال ابن الأصبهاني؛ قال هذا لفظ أخذه من شيخه فلا يغيره من عنده، وقالوا: (وهو من غاية احتياطه، حيث وضعه كما سمعه عن شيخه)
وقال ابن حجر: (والثانية: زيادة طريق أبي هريرة، التي زاد فيها التقييد، بعدم بلوغ الحنث) يعني الإثم، والمعنى أنهم ماتوا قبل أن يبلغوا؛ لأن الإثم إنما يكتب بعد البلوغ، وكأن السر فيه أنه لا ينسب إليهم، إذ ذاك عقوق، فيكون الحزن عليهم أشد) انتهى.
يعني لا يكون منهم عقوق قبل التكليف، فلذلك يكون الحزن عليهم أعظم.
وحديث أبي هريرة متفق عليه.
"باب من سمع شيئًا فراجع حتى يعرفه"
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ» قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ قَالَتْ فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ»"
هذا "باب" في بيان "من سمع شيئًا" في رواية أبي ذر زيادة "فلم يفهمه"
"فراجع" في رواية زيادة فيه "فراجع فيه"، وفي أخرى "فراجعه" أي فراجع فيه الذي سمعه منه.
"حتى يعرفه" أي يسأل ويستفهم، إلى أن يعرف ما سمعه معرفة صحيحة.
"حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ" هو سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم، الجُمَحي مولاهم، أبو محمد المصري، ثقة، حجة، فقيه، مات سنة أربع وعشرين ومئتين، روى له الجماعة.
قال الحفاظ: (ابن أبي مريم بصري، وشاميٌّ، وحمصيٌّ، ومصريّ، ومدني) هؤلاء من مجموعة، يقال لكن واحد منهم ابن أبي مريم.
بصري، وشامي، وحمصي، ومصري، ومدني.
الحمصي شامي، الشام أعم، لكنهم خصوه ليميزوه، حمص من الشام، فالشام كانت في عهد الخلفاء الراشدين تقسم إلى خمسة أجناد، والجند هو المجتمع، ويعنون به ما يسمى اليوم عندنا محافظات، المحافظة: يعني المدينة الكبيرة وما حولها.
جُند فلسطين، وهذا يكون في جنوب الشام، من الجهة التي في الجنوب، تشمل بيت المقدس، والرملة، وعسقلان، وغزّة، ونابلس، وأريحا، وعمّان البلقاء، ويافا، وغيرها من مدن الجنوب.
ثم تأتي بعدها شمالاً الأردن، وتشمل الغور، وتضرية؟؟؟، والصور، وعكة، وما بين ذلك.
وبعدها أعلى منها دمشق، وتشمل دمشق وبيروت، وطرابلس، وصيدا، وبصرى، وبعلبك.
ثم جند حمص، وتشمل حمص، وحماة، وتدمر.
ثم أعلى شيء يأتي جند قِنَّسْرين، وبعضهم يقول قِنِّسرين، هي مدينة موجودة في سوريا، بقرب حلب، بجانب حلب، كانت هي العاصمة، عاصمة هذا الجند، من الجهة الشمالية من الشام من فوق، ثم بعد ذلك صارت حلب هي عاصمة هذا الجند، وهذه تشمل حلب، ومنبج، وغيرها من المدن تلك المناطق في الشمال، وهي كبيرة.
هذه أجناد الشام، وهذه القسمة هي التي كانت على عهد سلفنا الصالح رضي الله عنهم.
قالوا: (ابن أبي مريم، بصري، وشامي، وحمصي، ومصري، ومدني:
فالبصري بُريد ابن أبي مريم، بالموحدة يعني بالباء.
والشامي يزيدُ بالزاي، يزيد ابن أبي مريم.
والحمصي أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم
والمصري سعيد بن الحكم بن أبي مريم
والمدني عبد الله بن أبي مريم مولى بني ساعدة) انتهى.
"أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ" هو عبد الله بن جميل، الجمحي، المكي، ثقة، من أثبت الناس، مات سنة تسع وستين ومئة، روى له الجماعة.
"حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ" عبد الله بن عبيد الله ابن أبي مليكة، ثقة، إمام، فقيه، تقدم.
"أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ" راجعت فيه النبي ﷺ، إلى أن تعرفه.
"وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ» قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}؟" أي سهلا، لا يناقش فيه.
وقع عندها تعارض رضي الله عنها، بين قوله ﷺ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ» وبين قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ فاستفسرت حتى تعرف ما لم تكن تعرفه، رضي الله عنها وأرضاها. كانت طالبة علم، تتعلم، فأرادت أن تعرف كيف الجمع بين الآية، وبين قول النبي ﷺ.
من الأخطاء التي يقع فيها طلبة العلم، يأتي ويقول لك: كيف نجمع قول العالم الفلاني والآية؟ أو بين العالم الفلاني والحديث؟
هذا خطأ، ما يجمع بين قول البشر وبين القول المعصوم، لا يجمع بين قول العالم والآية، أو بين قول العالم والحديث، هذا لا يقال كيف نجمع؟ بل يقال كيف نفهم هذا الكلام؟
هذا لا بأس، لكي أفهم كلام العالم هذا مع هذه الآية، أو مع هذا الحديث، هل أخطأ؟ أم أصاب وكان له مراد غير الذي فهمناه عنه؟
هذا الذي تستفهم عنه وتسأل عنه، أما الجمع يكون بين الأدلة المعصومة، هذا دليل.
كلام النبي ﷺ وحي من الله، والآية وحي من الله، إذاً لا يتعارضان، إذًا نحن بحاجة إلى الجمع بينهما، ها هنا نطلب الجمع.
فأرادت عائشةُ رضي الله عنها هنا، الجمعَ بين الآية والحديث.
"قَالَتْ فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكِ" هذا عند خطاب المؤنّثة، ﴿كذَلِكِ قالَ ربُّكِ﴾.
"إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ" يعني تعرض عليه أعماله فقط، فيقال له: عملت كذا يوم كذا، وكذا.
تعرض عليه أعماله، فيقول نعم، بس.
قال أهل العلم: (معنى قوله: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ» أن الحساب المذكورَ في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه؛ حتى يعرف منةَ الله تعالى عليه، في سترها عليه في الدنيا، وفي عفوهِ عنها في الآخرة، كما في حديث ابن عمر: «يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول: أعملتَ كذا وكذا، فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك في الآخرة» هذا الحساب اليسير، وهو العرض.
قال ابن القيم رحمه الله: (الحساب اليسير هو العرض، الذي لا بدّ أن يبين الله فيه لكلّ عامل عمله، كما قال تعالى: ﴿یَوۡمَىِٕذࣲ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِیَةࣱ﴾ حتى إذا ظنّ العبد أنه لن ينجوَ نجاه الله سبحانه وتعالى لله، بعفوه ومغفرته ورحمته) انتهى.
طيب النقاش، كيف النقاش؟ ثم قال لها ﷺ: "وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ" من المناقشة، وأصلها الاستخراج، والمراد هنا: المبالغة في المطالبة بالحق الذي عليه.
المطالبة بالجليل والحقير، وترك المسامحة، ما في مسامحة، كل شيء تُطالب به، صغير قبل الكبير، والكبير قبل الصغير كله، وما في مسامحة فيها.
"وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ" أي مَنْ ناقشهُ الله الحساب، أي من استقصى حسابه "يهلك" وفي نسخة "عُذّب" أي أن تحرير الحساب يفضي إلى استحقاق العذاب.
قال قِوام السنة الأصبهاني في "شرح مسلم": (في هذه الأحاديث دلالةٌ أن من نوقشَ الحساب لم يسلم من العذاب؛ لتقصير أكثر العباد فيما كُلّفوه، وتفريطهم فيما أمروا به، ومن تلافاه الله عز وجل برحمته) أي تداركه الله برحمته، (فازَ ونجى، والمناقشة: الاستقصاء في الحساب) انتهى.
قال ابن حجر: (هذا الحديث ظاهر أوله الإرسال؛ لأن بن أبي مليكة تابعي، ولم يدرك مراجعة عائشة النبيَ ﷺ) لاحظوا، ماذا قال ابن أبي مليكة؟ "أن عائشة زوج النبي ﷺ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ» قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى" إلى آخره.
يعني هذا ربما يُفهمُ منه أن ابن أبي مليكة ما كان حاضرًا عندما راجعت عائشة النبيَ ﷺ في هذه الحادثة، من أين سمع هذه الحادثة؟
قال ابن حجر: (ظاهر أوله الإرسال) في بدايته لما تنظر تظن أنه مرسل، ابن أبي مليكة لم يسمعه من عائشة رضي الله عنها؛ لأنه يحكي قصة حادثة حصلت بين عائشة وبين النبي ﷺ، ما قال قالت لي عائشة كذا وكذا.
قال: (لأن ابن أبي مليكة تابعي، لم يدرك مراجعة عائشة النبي ﷺ، لكن تبين وصله بعدُ في قوله: "قَالَتْ عَائِشَةُ") في آخر المحادثة لما قال: "قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى" كأنها تحدث أحدًا، فهي تخبره بهذا، انتهى كلامه.
وسيأتي الحديث عند البخاري برقم أربعة آلاف وستمئة وخمس وخمسين (4655)، وفيه تصريح سماع ابن أبي مليكة له من عائشة، قال البخاري هناك: "حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ" زال الإشكال تمامًا
وقال أيضًا: "حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حداد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي ﷺ"
"حدثنا مسدد، عن يحيى، عن أبي يونس، حاتم ابن أبي صغيرة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «ليس أحد يحاسب إلا هلك، قالت: قلت: يا رسول الله، جعلني الله فداءك، أليس يقول الله عز وجل: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ قال: «ذاك العرض، يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك»
لاحظ هنا، في الإسناد ماذا قال في أوله؟ فيه تصريح ابن أبي مليكة سمعت عائشة، في الإسناد الثاني فيه ابن أبي مليكة عن عائشة، في الإسناد الثالث، وركزوا هنا، قال: عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة.
يعني في واسطة بين ابن أبي مليكة وعائشة، وها هنا صارَ إشكالا، وانتقد الدارقطني رحمه الله الإسناد الأول الذي هو من رواية ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها في كتابه "التتبع" لكن الحديث لابن أبي مليكة من عائشة، ومن القاسم عن عائشة كما أشار إليه البخاري.
البخاري أخرج الطريقين؛ حتى يبين لك أن هذا الحديث سمعه ابن أبي مليكة من عائشة، وسمعه من القاسم عن عائشة، فسمعه من الطريقين، من الوجهين، فصحح البخاري كلا الإسنادين، وكذلك فعل مسلم في صحيحه.
قال الشراح في فوائد الحديث:
§ (وفي الحديث، ما كان عند عائشة من الحرص على تفّهم معاني الحديث، وأن النبي ﷺ لم يكن يتضجّرُ من المراجعة في العلم) عندما يُراجِعك طالبُ العلم لكي يفهم منك، لأنه لم يفهم، فلا تتضجر من ذلك، فهذا النبي ﷺ كان يُرَاجْع ويصبر، ويُعلِّم ﷺ.
هذا ثابت في عدة أحاديث، راجعوه في أشياء ولم ينههم، ولم يغضب من أصل المراجعة ﷺ.
§ وفي الحديث جواز المناظرة للوصول إلى الحق إذا خفي، هذه المناظرة للوصول إلى الحق، وليست أي مناظرة، وليست مع أهل البدع، ذاك شيء آخر تقدم الكلام فيه، في الدروس التي ذكرناه في المعهد، وسيأتي إن شاء الله في هذا مباحث خاصة في هذا لكتاب.
§ وفي الحديث مقابلة السنة بالكتاب؛ لأنه لا تعارض بين القرآن والسنة، ومن توَهمَ تعارضاً فلعدم فهمه الفهم صحيح، فيجب أن يبحث عن إزالة التعارض بسؤال أهل العلم.
القرآن والسنة لا يتعارضان، القرآن والسنة وحي من الله، والوحي من الله لا يتعارض، إذا حصلَ عندك تعارض ففي فهمك، فيجب أن تزيل هذا التعارض.
§ وفيه تفاوت الناس في الحساب.
§ وفيه بيان أن السؤال عن مثل هذا لم يدخل فيما نُهي الصحابةُ رضي الله عنهم عنه من الأسئلة، وقد تقدّم التفصيل في هذا.
الحديث متفقٌ عليه، من حديث عبدالله ابن أبي مليكة عن عائشة، ومن حديث عبد الله ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة، وكما ذكرنا انتقده الدارَقطني في كتابه "التتبع"، ورجح في "العلل" له الرواية التي فيها القاسم، وأشار على خطأ رواية ابن أبي مليكة عن عائشة مباشرة في "التتبع" وفي "العلل".
قال ابن حجر: (وتعقبه النووي، وغيره بأنه محمول على أنه سمع من عائشة وسمعه من القاسم عن عائشة، فحدّث به على الوجهين)
(قلت:) وهذا الكلام للحافظ بعد أن ذكر كلام النووي، (وهذا مجرد احتمال، وقد وقع التصريح بسماع ابن أبي مليكة له عن عائشة في بعض طرقه كما في السند الثاني من هذا الباب) يشرح في ذاك الموضع الحافظ.
(فانتفى التعليل بإسقاط رجل من السند)؛ لأنه صار في تصريح بالسماع، ابن أبي مليكة قال سمعت عائشة، (وتعين الحمل على أنه سمعَ من القاسم عن عائشة، ثم سمعه من عائشة بغير واسطة أو بالعكس) المهم في الموضوع أنه سُمع، مسموع لابن أبي مليكة من طريقين، من طريق أخذه من عائشة مباشرة، ومن طريق أخذه من القاسم، إما من هذا أولًا أو من هذا أولًا.
(والسر فيه، أن في روايته بالواسطة ما ليس في روايته بغير وساطة، وإن كان مؤداهما واحدًا، وهذا المعتمد بحمد الله) انتهى
والكلام الذي ذكره الحافظ جيد هنا، لهذا الموضع.
بالنسبة للنووي هذه طريقته على طول، وهذا سيأتي إن شاء الله الكلام عليه، إن يسر الله لنا وأكملنا هذا الكتاب، وشرحنا كتاب صحيح مسلم، سيمر معنا مثل هذه الصور كثيرة.
النووي رحمه الله يقبل الزيادة على طول، فلذلك أي سند أو متن حصل فيه زيادة، وحصل فيه خلاف، هل الزيادة ثابتة أو غير ثابتة؟ على طول يقول لك هو صحيح بالوجهين، وهذه الطريقة غير سليمة عند علماء العلل.
لكن الحافظ ابن حجر هنا استدل، واستدلاله صحيح، وفي محله على صحة كلا الطريقين، على طريقة أهل الحديث، وأنت إذا نظرت في الإسناد الذي أشار الدارقطني إلى أنه خطأ، الذي فيه ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنه تجده قد رواه عن ابن أبي مليكة جمع من العلماء، ومنهم حفاظ، هو محفوظ إذاً، لا إشكال فيه، مع تصريح ابن أبي مليكة فيه بالسماع من عائشة؛ لأن هذه قرائن تجعل هذه الطريق محفوظة، وليست خطأ، كما أن طريق القاسم أيضا محفوظ.
ذكر الدارقطني، كما في "العلل" في الحديث، بأنه رواه جمع ذكرهم بالأسماء عن ابن أبي مليكة عن عائشة مرفوعًا، وقال: (وكذلك قال مروان الفَزاري، عن حاتم ابن أبي صغير عن ابن أبي مليكة) أيضًا، قال: (وخالفه يحيى القطّان وعبد الله ابن المبارك، فروياه عن حاتم ابن أبي صغيرة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم ابن محمد عن عائشة مرفوعًا، وخالفهم عمر ابن قيس المكي، فرواه عن ابن أبي مليكة عن عبد الله ابن الزبير عن عائشة ورفعه، ولم يُتابع على ذلك) يعني ذكر عبد الله بن الزبير هنا خطأ، لا شك في ذلك، كل الذين رووه عن ابن أبي مليكة لم يذكروا هذا.
(والصحيح حديث يحيى القطّان وابن المبارك) أي الذي فيه زيادة القاسم (وقيل عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة موقوفًا) يعني ليس مرفوعًا، (ورُوي عن يحيى ابن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد عن عائشة موقوفًا) انتهى.
يعني الصواب الذي صوبه الدارقطني هي الطريق التي فيها ذكر القاسم وأشار إلى ضعف الأخرى.
إذًا فالخلاصة والصواب أنه ما فعله الشيخان، فالحديث رواه جمع بلا واسطة، وصرح ابن أبي مليكة فيه بالسماع عن عائشة، فهو الصحيح.
على كل حال، الانتقاد هنا ليس من في صحة المـتن، الانتقاد في طريق من الطرق، هل هو صحيح بالطريقين؟ أم أن إحدى الطريقين معلولة والثانية صحيحة؟
ها هنا الخلاف حاصل، وشيخنا الوادعي رحمه الله اكتفى بإجابة النووي وابن حجر في تعليقه على "التتبع".
طيب نكتفي بهذا القدر.