الاجابة
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
العذر بالجهل ثابت في العقائد والأعمال بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [التوبة: 115].
وقال تبارك وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]
وقال تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء: 115]
وأما السنة ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرّوني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه به أحداً، قال ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك، يا رب - أو قال مخافتك - فغفر له بذلك ".
وأما الإجماع
فقال ابن حزم في المحلى (12/35): ولا خلاف في أن امرأ لو أسلم ولم يعلم شرائع الإسلام، فاعتقد أن الخمر حلال، وأن ليس على الإنسان صلاة، وهو لم يبلغه حكم الله تعالى؛ لم يكن كافراً بلا خلاف يعتد به، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى حينئذٍ بإجماع الأمة فهو كافر. انتهى
وقال ابن تيمية (الفتاوى 11 /407): ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول. انتهى
وأما أقوال الأئمة من السلف فكثيرة منها:
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيّه أُمّته، ولا يَسَع أحدًا من خلق الله قامت عليه الحجة رَدّها، لأن القرآن نزل بها، وصَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول ، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه؛ فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل. هذا كلام الإمام الشافعي وهو واضح وصريح، قال: " لأن علم ذلك لا يُقْدَرُ بالعقل، ولا بالرؤية والقلب والفِكر. ولا نُكَفِّر بالجهل أحدًا إِلا بعد انتهاء الخبر إِليه " انتهى. هذا ذكرَه ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي وإسناده صحيح.
وللطبري في التبصير في معالم الدين (1/132) نحو هذا، وتفصيل في العذر بالجهل.
وقال الإمام أحمد في الواقفة- الواقفة الذين لا يقولون القرآن مخلوق ولا غير مخلوق- قال:" أَمَّا مَنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ، فَإِنَّهُ يُبَصَّرُ، وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَيُبْصِرُ الْكَلَامَ، فَهُوَ مِثْلُهُمْ، أَمَّا مَنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ، فَإِنَّهُ يُبَصَّرُ " يعني من كان لا يفهم هذه المسائل فإنه يُعلَّم. هذا في " السنة " للخلّال.
وسُئل أيضاً قيل له: فمَن وقف؟ قال :" يُقَالَ لَهُ، وَيُكَلَّمُ فِي ذَاكَ، فَإِنْ أَبَى هُجِرَ" كذلك هذا في " السنة " للخلال.
وقال الدارمي في رده على المِرِّيسيّ:" لَقَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ بِكُفْرِكَ قَدِيمًا، وَحُكِيَ لِي بَعْضُهُ عَنْكَ، وَمَا كنت أظن أَنَّكَ تَعْتَقِدُ مِنْ أَنْوَاعِ الكُفْرِ كُلّ َمَا رَوَى عَنْكَ المُعَارِضُ، وَمَا إِخَالُه يَعْقِلُ معَاني كَلَامِكَ، وَمَا يُؤَدِّيكَ إِلَى صَرِيحِ الكُفْرِ فَإِنْ هُوَ عَقِلَهُ وَاعْتَقَدَهُ فَهُوَ مِثْلُكَ، إِذْ يَعْتَقِدُهُ ثُمَّ يَبُثُّهُ وَيَنْشُرُهُ لِلْعَوَامِّ ". انتهى
قلت: ثبت العذر بالجهل عن الصحابة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وابن المنذر والطبري وغيرهم، وهو مجمع عليه كما تقدم.
أما متى يعذر الجاهل بجهله
فقد بينه أهل العلم فليس كل جاهل يعذر بجهله.
وخلاصة كلامهم أنه إذا كان مثله يجهل المسألة الكفرية يعذر بجهله، وإذا كان مثله لا يجهلها لا يعذر.
فمن نشأ ببادية بعيدة عن العلم والعلماء وعن مخالطة المسلمين بحيث يسمع منهم الحلال والحرام، ولا يكون مقصراً في التعلم ولا معرضاً عن الدين؛ فهذا يعذر.
يعني لا يكون جهله ناشئاً عن تقصير منه في التعلم، أو إعراض، بل لأنه لم يبلغه العلم مع اهتمامه بدينه وبتعلمه.
قال ابن قدامة في المغني (2/427) في الزكاة: فصل: فمن أنكر وجوبها جهلاً به، وكان ممن يجهل ذلك؛ إما لحداثة عهده بالإسلام، أو لأنه نشأ ببادية نائية عن الأمصار، عرف وجوبها، ولا يحكم بكفره؛ لأنه معذور، وإن كان مسلماً ناشئاً ببلاد الإسلام بين أهل العلم فهو مرتد، تجري عليه أحكام المرتدين ويستتاب ثلاثاً، فإن تاب وإلا قتل؛ لأن أدلة وجوب الزكاة ظاهرة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا تكاد تخفى على أحد ممن هذه حاله، فإذا جحدها لا يكون إلا لتكذيبه الكتاب والسنة، وكفره بهما.
قال ابن تيمية رحمه الله (7/610): وأما الفرائض الأربع؛ فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها؛ كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك. وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك؛ فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك؛ كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل. انتهى.
وقال في الفتاوى الكبرى (5/535): والمرتد من أشرك بالله تعالى، أو كان مبغضاً للرسول ولما جاء به، أو ترك إنكار منكر بقلبه، أو توهم أن أحداً من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم قاتل مع الكفار، أو أجاز ذلك، أو أنكر مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، ومن شك في صفة من صفات الله تعالى، ومثله لا يجهلها؛ فمرتد وإن كان مثله يجهلها؛ فليس بمرتد، ولهذا لم يكفر النبي الرجل الشاك في قدرة الله، وإعادته؛ لأنه لا يكون إلا بعد الرسالة، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها -: " مهما يكتم الناس يعلمه الله "، قال: «نعم». انتهى
وقال ابن عثيمين في الشرح الممتع ( 6/192): هل تقبل دعوى الجهل من كل أحد؟ الجواب؛ لا، فإن من عاش بين المسلمين، وجحد الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج، وقال: لا أعلم، فلا يقبل قوله؛ لأن هذا معلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ إذ يعرفه العالم والعامي، لكن لو كان حديث عهد بالإسلام، أو كان ناشئاً ببادية بعيدة عن القرى والمدن، فيقبل منه دعوى الجهل ولا يكفر، نعلمه فإذا أصر بعد التَّبيين حكمنا بكفره، وهذه المسألة ـ أعني مسألة العذر بالجهل ـ مسألة عظيمة شائكة، وهي من أعظم المسائل تحقيقاً وتصويراً.
فمن الناس من أطلق وقال: لا يعذر بالجهل في أصول الدين كالتوحيد، فلو وجدنا مسلماً في بعض القرى أو البوادي النائية يعبد قبراً أو ولياً، ويقول: إنه مسلم، وإنه وجد آباءه على هذا ولم يعلم بأنه شرك فلا يعذر.
والصحيح أنه لا يكفر؛ لأن أول شيء جاءت به الرسل هو التوحيد، ومع ذلك قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] فلا بد أن يكون الإنسان ظالماً، وإلا فلا يستحق العذاب.
ولكن قد لا يعذر الإنسان بالجهل، وذلك إذا كان بإمكانه أن يتعلم ولم يفعل، مع قيام الشبهة عنده، كرجل قيل له: هذا محرم، وكان يعتقد الحل، فسوف تكون عنده شبهة على الأقل، فعندئذٍ يلزمه أن يتعلم ليصل إلى الحكم بيقين.
فهذا ربما لا نعذره بجهله؛ لأنه فرط في التعليم، والتفريط يسقط العذر، لكن من كان جاهلاً، ولم يكن عنده أي شبهة، ويعتقد أن ما هو عليه حق، أو يقول هذا على أنه الحق، فهذا لا شك أنه لا يريد المخالفة، ولم يرد المعصية والكفر، فلا يمكن أن نكفره حتى ولو كان جاهلاً بأصل من أصول الدين، فالإيمان بالزكاة وفرضيتها أصل من أصول الدين، ومع ذلك لا يكفر الجاهل. انتهى كلامه رحمه الله. والله أعلم
التعليقات عدد التعليقات (0)
اضافة تعليق