السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لدي شيخنا الفاضل سؤال
هل من جملة الذنوب التي يكفرها صيام يوم عرفة الكبائر؟
وهل على مرتكب الكبيرة رد الحقوق أم لا لأن الصيام كفارة له؟وهل تجب عليه توبة ادا كان الصيام مكفرا له؟
الاجابة
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة
الصادقة ، ومن شروط التوبة رد الحقوق إلى أهلها .
قال ابن عبد البر في
التمهيد : وقال بعض المنتمين الى العلم من أهل عصرنا أن الكبائر والصغائر يكفرها
الصلاة والطهارة واحتج بظاهر حديث الصنابحي هذا وبمثله من الآثار وبقوله صلى الله
عليه و سلم فما ترون ذلك يبقى من ذنوبه وما أشبه ذلك وهذا جهل بين وموافقة للمرجئة
فيما ذهبوا اليه من ذلك وكيف يجوز لذي لب أن يحمل هذه الآثار على عمومها وهو يسمع
قول الله عز و جل { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا }
.؟
وقوله تبارك وتعالى {وتوبوا
إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } .
في آي كثيرة من كتابه ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال
البر مكفرة للكبائر والمتطهر المصلى غير ذاكر لذنبه الموبق ، ولا قاصد اليه ، ولا
حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه ، ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله ؛ لما كان لأمر
الله عز و جل بالتوبة معنى ، ولكان كل من توضأ وصلى يشهد له بالجنة بإثر سلامه من
الصلاة وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر .
وهذا لا يقوله أحد ممن له فهم صحيح
.
وقد أجمع المسلمون أن التوبة
على المذنب فرض ، والفروض لا يصح أداء شيء منها إلا بقصد ونية ، واعتقاد أن لا عودة
.
فأما أن يصلي وهو غير ذاكر لما
ارتكب من الكبائر ولا نادم على ذلك فمحال ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
: " الندم توبة " .
وقال صلى الله
عليه و سلم : " الصلوات الخمس والجمعة الى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت
الكبائر" ...... إلى أن قال : وهذا يبين لك ما ذكرنا ويوضح لك أن الصغائر تكفر
بالصلوات الخمس لمن اجتنب الكبائر ، فيكون على هذا معنى قول الله عز و جل {إن
تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } الصغائر بالصلاة والصوم والحج
وأداء الفرائض وأعمال البر ، وإن لم تجتنبوا الكبائر ولم تتوبوا منها لم تنتفعوا
بتكفير الصغائر إذا واقعتم الموبقات المهلكات . والله أعلم وهذا كله قبل
الموت فإن مات صاحب الكبيرة
فمصيره الى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه فإن عذبه فيجرمه وإن عفا عنه فهو أهل
العفو وأهل المغفرة وان تاب قبل الموت وقبل حضوره ومعاينته وندم واعتقد أن لا يعود
واستغفر ووجل كان كمن لم يذنب وبهذا كله الآثار الصحاح عن السلف قد جاءت وعليه
جماعة علماء المسلمين ولو تدبر هذا القائل الحديث الذي فيه ذكر خروج الخطايا من فمه
وأنفه ويديه ورجليه ورأسه لعلم أنها الصغائر في الاغلب ، ولعلم أنها معفو عنها بترك
الكبائر دليل ذلك قوله صلى الله عليه و سلم " العينان تزنيان واليدان تزنيان والفم
يزني ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه " . يريد والله أعلم أن الفرج بعمله يوجب
المهلكة وما لم يكن ذلك فأعمال البر يغسلن ذلك كله .
وقد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب لولا قول ذلك
القائل وخشيت أن يغتر به جاهل فينهمك في الموبقات اتكالا على أنها تكفرها الصلوات
الخمس دون الندم عليها والاستغفار والتوبة منها والله أعلم ونسأله العصمة والتوفيق
. والله أعلم
وقال ابن رجب
الحنبلي في جامع العلوم :
قلت :
وقد وقع مثل هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه ، ووقع مثله في كلام
ابن المنذر في قيام ليلة القدر ، قال : يرجى لمن قامها أن يغفر له جميع ذنوبه
صغيرها وكبيرها .
فإن كان مرادهم
أن من أتى بفرائض الإسلام وهو مصر على الكبائر تغفر له الكبائر قطعا ، فهذا باطل
قطعا ، يعلم بالضرورة من الدين بطلانه ، وقد سبق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -
: (( من أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر )) يعني : بعمله في الجاهلية والإسلام ،
وهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان .
وإن أراد هذا القائل أن من ترك الإصرار على الكبائر ، وحافظ على
الفرائض من غير توبة ولا ندم على ما سلف منه ، كفرت ذنوبه كلها بذلك ، واستدل بظاهر
قوله: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } .
وقال : السيئات تشمل الكبائر والصغائر ، فكما أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر من
غير قصد ولا نية ، فكذلك الكبائر ، وقد يستدل لذلك بأن الله وعد المؤمنين والمتقين
بالمغفرة وبتكفير السيئات ، وهذا مذكور في غير موضع من القرآن ، وقد صار هذا من
المتقين ، فإنه فعل الفرائض ، واجتنب الكبائر ، واجتناب الكبائر لا يحتاج إلى نية
وقصد ؛ فهذا القول يمكن أن يقال في الجملة .
والصحيح قول الجمهور : إن الكبائر
لا تكفر بدون التوبة ؛ لأن التوبة فرض على العباد ، وقد قال - عز وجل - : { ومن لم
يتب فأولئك هم الظالمون } . وقد فسرت الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود التوبة بالندم ،
ومنهم من فسرها بالعزم على أن لا يعود ، وقد روي ذلك مرفوعا من وجه فيه ضعف ، لكن
لا يعلم مخالف من الصحابة في هذا ، وكذلك التابعون ومن بعدهم ، كعمر بن عبد العزيز
، والحسن وغيرهما .
وأما النصوص
الكثيرة المتضمنة مغفرة الذنوب ، وتكفير السيئات للمتقين ، كقوله تعالى : { إن
تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم } ، وقوله تعالى : { ومن
يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } ،
وقوله : { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا }، فإنه لم يبين في هذه
الآيات خصال التقوى ، ولا العمل الصالح ، ومن جملة ذلك : التوبة النصوح ، فمن لم
يتب ، فهو ظالم ، غير متق .
وقد بين في سورة آل عمران خصال التقوى التي يغفر
لأهلها ويدخلهم الجنة ، فذكر منها الاستغفار ، وعدم الإصرار ، فلم يضمن تكفير
السيئات ومغفرة الذنوب إلا لمن كان على هذه الصفة ، و الله أعلم .
ومما يستدل به
على أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة منها ، أو العقوبة عليها حديث عبادة بن الصامت
، قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( بايعوني على أن لا
تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولاتزنوا )) ، وقرأ عليهم الآية (( فمن وفى منكم
، فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا ، فعوقب به ، فهو كفارة له ، ومن أصاب من
ذلك شيئا ، فستره الله عليه ، فهو إلى الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له ))
خرجاه في " الصحيحين " ، وفي رواية لمسلم : (( من أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو
كفارته )) . وهذا يدل على أن الحدود كفارات .
قال الشافعي : لم أسمع في هذا الباب - أن الحد يكون كفارة لأهله - شيئا
أحسن من حديث عبادة ابن الصامت . انتهى . والله أعلم