الاجابة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد ؛
فقال القاضي عياض : كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب :
أحدها : يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء ، وهذا القسم بطل من حين بعث الله تعالى نبينا - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني : أن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد .
الثالث : المنجمون ، وقد أكذبهم كلهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم .
قلت : الذهاب إلى الكهان فيه تفصيل:
القسم الأول : الذهاب إلى الكاهن للإنكار عليه وإظهار حقيقته للذين لا يعرفونه ؛ وهذا جائز وربما يكون واجبا
بدليل ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد
أخرج الشيخان في صحيحيهما عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر رضي الله عنهما أخبره أن عمر انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط قبل ابن صياد حتى وجدوه يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة ، وقد قارب ابن صياد الحلم ، فلم يشعر حتى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال لابن صياد : " تشهد أني رسول الله " ، فنظر إليه ابن صياد فقال : أشهد أنك رسول الأميين ، فقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم ك أتشهد أني رسول الله .
فرفضه وقال " آمنت بالله وبرسله " فقال له : " ماذا ترى " ، قال ابن صياد : يأتيني صادق وكاذب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خلط عليك الأمر " ،ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إني قد خبأت لك خبيئا " فقال ابن صياد : هو الدخ ، فقال : "اخسأ فلن تعدو قدرك " ، فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنقه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن يكنه فلن تسلط عليه ، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله " .
قال الخطابي : وكان ابن صياد منهم - أي من اليهود - أو دخيلاً في جملتهم وكان يبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبره وما يدعيه من الكهانة ويتعاطاه من الغيب فامتحنه بذلك ليزور به أمره ويخبر شأنه فلما كلمه علم أنه مبطل وأنه من جملة السحرة أو الكهنة أو ممن يأتيه رؤى من الجن أو يتعاهده شيطان فيلقي على لسانه بعض ما يتكلم به فلما سمع منه قول الدخ زبره فقال اخس فلن تعدو قدرك.....إلخ .
وقال القاضي عياض : وأصح الأقوال أنه لم يهتد من الآية التي أضمر النبي صلى الله عليه و سلم إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب ويدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم :" اخسأ فلن تعدو قدرك " ، أي القدر الذى يدرك الكهان من الاهتداء إلى بعض الشيء وما لايبين من تحقيقه ولا يصل به إلى بيان وتحقيق أمور الغيب . والله أعلم
القسم الثاني : الذهاب إلى الكاهن لسماع كلامه فقط دون تصديقه ؛ وهذا لا تقبل له صلاة أربعين يوما.
بدليل ما أخرجه مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ".
قال النووي رحمه الله : أما العراف فقد سبق بيانه وأنه من جملة أنواع الكهان . قال الخطابى وغيره : العراف هو الذى يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة ونحوهما .
وأما عدم قبول صلاته فمعناه أنه لاثواب له فيها وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه ولايحتاج معها إلى
إعادة ، ونظير هذه الصلاة فى الأرض المغصوبة ؛ مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لاثواب فيها كذا قاله جمهور أصحابنا ؛ قالوا : فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتى بها على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان : سقوط الفرض عنه وحصول الثواب فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني ولابد من هذا التأويل في هذا الحديث ؛ فإن العلماء متفقون على أنه لايلزم من أتى العراف إعادة صلوات أربعين ليلة فوجب تأويله . والله أعلم
قلت : ويدخل في ذلك جلوس الناس أمام التلفاز والاستماع للكهان عن طريقه وقراءة الأبراج التي في الجرائد أو المجلات أو الفضائيات ؛ فإن المقصود من النهي عن إتيان الكهان هو عدم الاستماع إليهم خشية تصديقهم .
قال الشيخ محمد أمين الشنقيطي : لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين، وبعض منها يكون كفراً.
ولذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" ، ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة والكهانة والعرافة، والطرق والزجر، والنجوم وكل ذلك يدخل في الكهانة، لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الإطلاع على علم الغيب. والله أعلم
القسم الثالث : تصديق الكهان سواء ذهبت إليه وسمعت كلامه أو قرأت كلامه قراءة أو سمعته عن طريق التلفاز أو أخبرك بكلامه مخبر ؛ وهذا كفر .
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول ؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"
قلت وذلك لأن مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } فمن ادعى أن أحدا يعلم الغيب مع الله فقد كذب بهذه الآية ومن كذب بحرف واحد مجمع عليه من القرآن فقد كفر بالإجماع .
قال الشوكاني : قوله : " فقد كفر " ظاهره أنه الكفر الحقيقي ، وقيل هو الكفر المجازي ، وقيل من اعتقد أن الكاهن والعراف يعرفان الغيب ويطلعان على الأسرار الألهية كان كافرا كفرا حقيقيا كمن اعتقد تأثير الكواكب وإلا فلا
قال محمد أمين الشنقيطي : ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الاطلاع على الغيب أنه ادعى لنفسه ما استأثر الله تعالى به دون خلقه، وكذب القرآن الوارد بذلك كقوله: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} ، وقوله هنا: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } ، ونحو ذلك . والله أعلم