الاجابة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد ؛
فالغلو هو: التعمق في الشيء والتكلف فيه . وقد نهي عنه ؛ قال الله تعالى { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } ، وقال عليه الصلاة والسلام : « إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين » رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وغيرههم بإسناد صحيح
ويجتنب الغلو بالتقيد بالكتاب والسنة وعدم الخروج عنهما وبلزوم طريق السلف الصالح ، والعلماء الراسخين في العلم الذين عرفوا بملازمة الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في الجرح والتعديل وأمور الدين كلها .
ويجب الحذر من الغلو الحاصل في هذه الأيام في الجرح والتعديل ؛ غلو في الجرح من قبل المتشدديين الذين لا يرون أحدا على الجادة إلا أنفسهم ومن شاكلهم ، والذين خروجوا عن طريق العلماء الراسخين ، وغلو في التعديل من قبل الذين يريدون التعاون مع كل أحد والمحاماة عن كل أحد ولو على حساب دين الله ، ويريدون هدم منهج الجرح والتعديل الذي كان ولا يزال السد المنيع الذي حفظ الله به دينه صافيا نقيا ؛ و ذلك لتحقيق مصالحهم الشخصية ، أو للدفاع عن أنفسهم .
قال ابن القيم رحمه الله :
فصل والفرق بين الاقتصاد والتقصير ؛ أن الاقتصاد هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط .
وله طرفان هما ضدان ؛ له تقصير ومجاوزة ؛ فالمقتصد قد أخذ بالوسط وعدل عن الطرفين .
قال تعالى { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما }
وقال تعالى { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط }
وقال تعالى { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا }
والدين كله بين هذين الطرفين ؛ بل الإسلام قصد بين الملل ، والسنة قصد بين البدع ، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه .
وكذلك الاجتهاد هو بذل الجهد في موافقة الأمر ، والغلو مجاوزته وتعديه .
وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان ؛ فإما إلى غلو ومجاوزة وإما إلى تفريط وتقصير ؛ وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل ؛ إلا من مشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به ؛ لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم .
وهذان المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم ، ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير وخوفوا من بُلي بأحدهما بالهلاك .
وقد يجتمعان في الشخص الواحد كما هو حال أكثر الخلق ، يكون مقصرا مفرطا في بعض دينه، غالبا متجاوزا في بعضه . والمهدي من هداه الله .
وقال رحمه الله : وقد ظهر بهذا أن التعمق والتنطع والتشديد الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخالف لهديه وهدي أصحابه وما كانوا عليه ، وأن موافقته فيما فعله هو وخلفاؤه من بعده هو محض المتابعة ، وإن أباها من أباها وجهلها من جهلها ، فالتعمق والتنطع : مخالفة ما جاء به وتجاوزه والغلو فيه ، ومقابله : إضاعته والتفريط فيه والتقصير عنه ؛ وهما خطأ وضلالة وانحراف عن الصراط المستقيم والمنهج القويم ، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه.
وقد قال علي بن أبي طالب : خير الناس النمط الأوسط : الذين يرجع إليهم الغالي ، ويلحق بهم التالي . ذكره ابن المبارك عن محمد بن طلحة عن علي.
وقال ابن عائشة: ما أمر الله عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان ، فإما إلى غلو وإما إلى تقصير.
وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه .
وقد مدح تعالى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير موضع من كتابه ؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}.
وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} وقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}.
فمَنْع ذِي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم ؛ انحراف في جانب الإمساك ، والتبذير ؛ انحراف في جانب البذل ، ورضاء الله فيما بينهما .
ولهذا كانت هذه الأمة أوسط الأمم ، وقبلتها أوسط القبل بين القبلتين المنحرفتين ، والوسط دائما محمي بالأطراف ، أما الأطراف فالخلل إليها أسرع ؛ كما قال الشاعر:
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
فقد اتفق شرع الرب تعالى وقدره على أن خيار الأمور أوساطها . والله أعلم