السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فضيلة الشيخ حفظكم الله : قرأت في أحد ردودكم على أحد الأخوة الكلام التالي :
وقال الإمام أحمد : إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء .
نريد توضيح بارك الله فيكم عن الفتن التي يعتزل منها الإنسان خاصة المرأة . أنا أعتزل خوفا على نفسي وعلى حسناتي من جلسات الغيبة والنميمة ولغو الكلام وجلسات الدخان بل ومؤخرا امتنعت عن مجالسة من يدعون السلفية بهتانا وزورا ، ولا أجالس أحداً بل أهرب هروبا من الناس خاصة وأنه لا ينفع معهم لا نصح ولا غيره فهم أقوياء على باطلهم . هل هذا هو الإعتزال وهل إذا ابتعد الإنسان عن أرحامه بدون قطيعة خوفاً على نفسه مما ذكرت يأثم ؟؟
الاجابة
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، أما بعد ؛
فيعتزل المسلم كل ما يضره في دينه ويجتنبه ، ولا يخالط الناس إلا فيما هو مباح ، وأما إذا حملوه على المعاصي فيجب عليه أن يجتنبهم بقدر ما يدفع شرهم عنه .
ولا إثم عليك في تجنب أرحامك إذا كانوا يضرونك في دينك وحافظي على صلتهم دون أن يكون في ذلك ضررا عليك .
وأما الإمام أحمد فيعني الفتنة العامة ،لا الخاصة . وإليك التفصيل في موضوع الفتنة من كلام الحافظ ابن رجب في فتح الباري قال رحمه الله :
أصل الفتنة : الابتلاء والامتحان والاختبار ، ويكون تارةً بما يسوء ، وتارة بما يسر ، كما قال تعالى : { ونبلوكم بالشر والْخيرِ فتنة } ، وقال : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } .
وغلب في العرف استعمال الفتنة في الوقوع فيما يسوء .
والفتنة نوعان : أحدهما : خاصة ، تختص بالرجل في نفسه .
والثانية : عامة ، تعم الناس .
فالفتنة الخاصة : ابتلاء الرجل في خاصة نفسه بأهله وماله وولده وجاره ، وقد قال تعالى { إنما أَموالكم وأَولادكم فتنة } ؛ فإن ذلك غالباً يلهي عن طلب الآخرة والاستعداد لها ، ويشغل عن ذلك .
ولما كان النبي يخطب على المنبر ، ورأى الحسن والحسين يمشيان ويعثران
وهما صغيران ، نزل فحملهما ، ثم قال : " صدق الله ورسوله { إنما أَموالكم وأَولادكم فتنة } ، إني رأيت هذين الغلامين يمشيان ويعثران فلم أصبر " .
وقد ذم الله تعالى من ألهاه ماله وولده عن ذكره ، فقال : {لا تلهكم أَموالكم ولا أَولادكم عن ذكرِ اللَّه ومن يفعل ذلك فأُولئك هم الخاسرون } .
فظهر بهذا : أن الأنسان يبتلى بماله وولده وأهله وبجاره المجاور له ، ويفتتن بذلك ، فتارةً يلهيه الاشتغال به عما ينفعه في آخرته ، وتارةً تحمله محبته على أن يفعل لأجله بعض ما لا يحبه الله ، وتارةً يقصر في حقه الواجب عليه ، وتارةً يظلمه ويأتي إليه ما يكرهه الله من قول أو فعل ، فيسأل عنه ويطالب به .
فإذا حصل للأنسان شيء من هذه الفتن الخاصة ، ثم صلى أو صام أو تصدق أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر كان ذلك كفارةً له ، وإذا كان الأنسان تسوؤه سيئته ، ويعمل لأجلها عملاً صالحاً كان ذلك دليلاً على إيمانه .
وفي " مسند بقي بن مخلد " ، عن رجل سأل النبي ما الإيمان يا رسول الله ؟ قال :" أن تؤمن بالله ورسوله " ، فأعادها ثلاثا ، فقال له في الثالثة : " أتحب أن أخبرك ما صريح الإيمان ؟ " فقال : ذلك الذي أردت . فقال : " إن صريح الإيمان إذا أسأت أو ظلمت أحداً : عبدك أو أمتك ، أو واحداً من الناس ، صمت أو تصدقت وإذا أحسنت استبشرت .
وأما الفتن العامة : فهي التي تموج موج البحر ، وتضطرب ، ويتبع بعضها بعضاً كأمواج البحر ، فكان أولهما فتنة قتل عثمان - رضي الله عنه - ، وما نشأ منها من افتراق قلوب المسلمين ، وتشعب أهوائهم وتكفير بعضهم بعضاً ، وسفك بعضهم دماء بعض ، وكان الباب المغلق الذي بين الناس وبين الفتن عمر - رضي الله عنه - ، وكان قتل عمر كسراً لذلك الباب ، فلذلك لم يغلق ذلك الباب بعده أبداً .
وكان حذيفة أكثر الناس سؤالاً للنبي صلى الله عليه وسلم عن الفتن ، وأكثر الناس علماً بها ، فكان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم علم بالفتن العامة والخاصة ، وهو حدث عمر تفاصيل الفتن العامة ، وبالباب الذي بين الناس وبينها ، وأنه هو عمر ، ولهذا قال : إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط ، والأغاليط : جمع أغلوطة ، وهي التي يغالط بها ، واحدها : أغلوطة ومغلطة ، والمعنى : أنه حدثه حديثاً حقاً ، ليس فيه مرية ، ولا إيهام .
وهذا مما يستدل به على أن رواية مثل حذيفة يحصل بها لمن سمعها العلم اليقيني الذي لا شك فيه ؛ فإن حذيفة ذكر أن عمر علم ذلك وتيقنه كما تيقن أن دون غد الليلة لما حدثه به من الحديث الذي لا يحتمل غير الحق والصدق .
وقد كانت الصحابة تعرف في زمان عمر أن بقاء عمر أمان للناس من الفتن .
وفي " مسند الإمام أحمد " أن خالد بن الوليد لما عزله عمر ، قال له رجل : اصبر أيها الأمير ، فإن الفتن قد ظهرت . فقال خالد : وابن الخطاب حي إنما يكون بعده - رضي الله عنهما - .
وقد روي من حديث عثمان بن مظعون ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى عمر : غلق الفتنة ، وقال : " لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش هذا بين أظهركم " .
خرجه البزار .
وروي نحوه من حديث أبي ذر .
وروى كعب ، أنه قال لعمر : أجدك مصراع الفتنة ، فإذا فتح لم يغلق أبداً .والله أعلم