الاجابة
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، أما بعد ؛
فقال ابن المنذر رحمه الله في الاوسط :
وقالت طائفة : الجمع بين الصلاتين في الحضر مباح وإن لم تكن علة قال : لأن الأخبار قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين بالمدينة ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بينهما في المطر ، ولو كان ذلك في حال المطر لأدي إلينا ذلك كما أدي إلينا جمعه بين الصلاتين ، بل قد ثبت عن ابن عباس الراوي بحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر لما سئل لم فعل ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمته ثم قد روينا مع ذلك عن ابن عباس في العلة التي توهمها بعض الناس حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : ثنا ابن فضيل ، قال : ثنا وكيع ، ثنا الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : « جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر » قلت لابن عباس : لم فعل ذلك ؟ قال : لكي لا يحرج أمته حدثنا علي بن الحسن ، قال أنا عبد الله ، عن سفيان ، عن أبي الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : « جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر بالمدينة في غير سفر ولا خوف » قال : قلت لابن عباس : ولم تراه فعل ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمته قال أبو بكر : فإن تكلم متكلم في حديث حبيب وقال : لا يصح يعني المطر قيل قد ثبت من حديث أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله لما قيل له لم فعل ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمته ، ولو كان ثم مطر من أجله جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكره ابن عباس عن السبب الذي جمع بينهما ، فلما لم يذكره وأخبر بأنه أراد أن لا يحرج أمته دل على أن جمعه كان في غير حال المطر ، وغير جائز دفع يقين ابن عباس مع حضوره بشك مالك ، فإن قال قائل : فإن ابن عمر وغيره ممن ذكرنا قد جمعوا في حال المطر ، قيل : إذا ثبتت الرخصة في الجمع بين الصلاتين جمع بينهما للمطر والريح والظلمة ولغير ذلك من الأمراض وسائر العلل ، وأحق الناس بأن يقبل ما قاله ابن عباس بغير شك من جعل قول ابن عباس لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يقبض فقال ابن عباس : وأحسب كل شيء مثله حجة بني عليها المسائل فمن استعمل شك ابن عباس وبنى عليه المسائل وامتنع أن يقبل يقينه لما خبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يحرج أمته بعيد من الإنصاف ، وقد روينا عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتخذه عادة .
وقال الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنة
: هذا الحديث يدل على جواز الجمع بلا عذر ، لأنه
جعل العلة أن لا تحرج أمته ، وقد قال به قليل من أهل الحديث ،
وحكي عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسا بالجمع بين الصلاتين إذا كانت
حاجة أو شيء ، ما لم يتخذه عادة.
وذهب أكثر العلماء إلى أن الجمع بغير عذر لا يجوز.
وجوز الحسن وعطاء بن أبي رباح الجمع بعذر المرض ، وحملا الحديث
عليه ، وهو قول مالك ، وأحمد ، وإسحاق.
وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في فتح الباري ( 87/3)بعد ان ذكر طرق هذا الحديث ورواياته :
وقد اختلفت مسالك العلماء في حديث ابن عباس هذا ، في الجمع من غير خوف ولا سفر ، ولهم فيه مسالك متعددة :
المسلك الاول : أنه منسوخ بالإجماع على خلافه ، وقد حكى الترمذي في آخر " كتابه " أنه لم يقل به أحد من العلماء .
وهؤلاء لا يقولون : إن الإجماع ينسخ ، كما يحكى عن بعضهم ، وإنما يقولون : هو يدل على وجود نص ناسخ .
المسلك الثاني : معارضته بما يخالفه ، وقد عارضه الإمام أحمد بأحاديث المواقيت ، وقوله : " الوقت ما بين هذين " ، وبحديث أبي ذر في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها ، وأمره بالصلاة في الوقت ، ولو كان الجمع جائزاً من غير عذر لم يحتج إلى ذلك ، فإن أولئك الأمراء كانوا يجمعون لغير عذرٍ ، ولم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل ، ولا صلاة الليل إلى النهار .
وكذلك في حديث أبي قتادة ، عن النبي ( ، أنه قال لما ناموا عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس : " ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الاخرى " .
خرجه مسلم .
وخرجه أبو داود ، وعنده : " إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت صلاة اخرى " .
وقد عارض بعضهم حديث ابن عباس هذا بحديث آخر يروى عنه ، وقد أشار إلى هذه المعارضة الترمذي وابن شاهين ، وهو من رواية حنش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي ( ، قال : " من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من ابواب الكبائر " .
خرجه الترمذي .
وقال : حنش هذا هو أبو علي الرحبي ، وهو حسين بن قيس ، وهو ضعيف
عند أهل الحديث ، ضعفه أحمد وغيره ، والعمل على هذا عند أهل العلم .
يعني : على حديث حنش مع ضعفه .
وخرجه الحاكم وصححه ، ووثق حنشا ، وقال : هو قاعدة في الزجر عن الجمع بلا عذر .
ولم يوافق على تصحيحه .
وقال العقيلي : ليس لهذا الحديث أصل .
ورواه بعضهم ، وشك في رفعه ووقفه .
كذلك خرجه الحارث بن أبي اسامة .
ولعله من قول ابن عباس .
وقد روي مثله عن عمر وأبي موسى :
وروي وكيع ، عن سفيان ، عن هشام ، عن رجل ، عن أبي العالية ، عن عمر بن الخطاب ، قال : الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر .
وعن أبي هلال الراسبي ، عن حنظلة السدوسي ، عن أبي موسى ، قال : الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر .
المسلك الثالث : حمله على أن النبي ( أخر الظهر إلى آخر وقتها ، فوقعت في آخر جزء من الوقت ، وقدم العصر في أول وقتها ، فصلاها في أول جزء من الوقت ، فوقعت الصلاتان مجموعتين في الصورة ، وفي المعنى كل صلاة وقعت في وقتها ، وفعل هذا ليبين جواز تأخير الصلاة [ إلى ] آخر وقتها .
وقد روي من حديث معاذ بن جبل ، أن جمع النبي ( بين الصلاتين بتبوك كان على هذا الوجه - أيضا .
خرجه الطبراني في " أوسطه " بإسناد في ضعف .
وقد سبق عن عمرو بن دينار وأبي الشعثاء ، أنهما حملا الحديث على هذا الوجه ، كما خرجه مسلم ، وأشار اليه الإمام أحمد وغيره .
وعلى مثل ذلك حمل الجمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة والمزدلفة من لا يرى الجمع في السفر ، منهم : سفيان الثوري وغيره من الكوفيين .
والمسلك الرابع : أن ذلك كان جمعا بين الصلاتين لمطر ، وهذا هو الذي حمله عليه ايوب السختياني كما في رواية البخاري ، وهو الذي حمله عليه مالك - أيضا .
ومن ذهب إلى هذا المسلك فإنه يطعن في رواية من روى : " من غير خوف ولا مطر " كما قاله البزار وابن عبد البر وغيرهما .
ومن حمل الحديث على هذا فإنه يلزم من قوله جواز الجمع في الحضر للمطر بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وقد اختلف في ذلك :
فأماالجمع بين العشاءين للمطر ، فقد روي عن ابن عمر .
روى مالك ، عن نافع ، أن ابن عمر كان يجمع في الليلة المطيرة .
وقد رويناه من طريق سفيان بن بشير ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر - مرفوعاً - ، ولا يصح رفعه .
وفيه حديث آخر مرفوع من رواية أولاد سعد القرظ ، عن آبائهم ، عن أجدادهم ، عن سعد القرظ ، أن النبي ( كان يجمع بين المغرب والعشاء في المطر .
خرجه الطبراني .
وإسناده ضعيف .
قال يحيى في أولاد سعد القرظ : كلهم ليسوا بشيء .
وممن رأى الجمع للمطر : مالك في المشهور عنه ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور .
وروي عن عمر بن عبد العزيز ، عن فقهاء المدينة السبعة .
وعن مالك رواية : لا يجوز الجمع للمطر إلا في المدينة في مسجد النبي ( ؛ لفضله ، ولأنه ينتاب من بعد ، فيجمع بينهما بعد مغيب الشفق ، وليس بالمدينة غيره .
والمشهور عنه الأول .
وأصل هذا : أن الأمراء بالمدينة كانوا يجمعون في الليلة المطيرة ، فيؤخرون المغرب ويجمعون بينها وبين العشاء قبل مغيب الشفق ، وكان ابن عمر يجمع معهم ، وقد علم شدة متابعة ابن عمر للسنة ، فلو كان ذلك محدثا لم يوافقهم عليه البتة .
وقد نص على ان جمع المطر يكون على هذا الوجه المذكور قبل مغيب الشفق : مالك وأحمد وإسحاق .
وقيل لأحمد : فيجمع بينهما بعد مغيب الشفق ؟ قال : لا ، إلا قبل ، كما فعل ابن عمر . وقال : يجمع إذا اختلط الظلام .
وأماالجمع بين الظهر والعصر في المطر ، فالأكثرون على أنه غير جائز : وقال أحمد : ما سمعت فيه شيئاً . وأجازه الشافعي إذا كان المطر نازلاً ، وبه قال أبو ثور ، هو رواية عن أحمد .
والعجب من مالك - رحمه الله - كيف حمل حديث ابن عباس على الجمع للمطر ، ولم يقل به في الظهر والعصر ، والحديث صريح في جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء ؟
المسلك الخامس : أن الذي نقله ابن عباس عن النبي ( إنما كان في السفر لا في الحضر ، كما في رواية قرة ، عن أبي الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن ذلك كان في غزوة تبوك ، وقد خرجه مسلم كما تقدم .
وكذلك روى عبد الكريم ، عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس ، أخبروه عن ابن عباس ، أنه أخبرهم ، أن رسول الله ( كان يجمع بين المغرب والعشاء في السفر من غير أن يعجله شيء ، ولا يطلبه عدو ، ولا يخاف شيئا .
ولكن ؛ عبد الكريم هذا ، هو : أبو أمية ، وهو ضعيف جداً .
وأكثر رواة حديث ابن عباس ذكروا أن جمعه كان بالمدينة ، وهم أكثر وأحفظ .
والمسلك السادس : أن جمعه ذلك كان لمرض .
وقد روي عن الإمام أحمد ، أنه قال : هذا عندي رخصة للمريض والمرضع .
وقد اختلف في جمع المريض بين الصلاتين :
فرخص فيه طائفة ، منهم : عطاء والنخعي والليث وأحمد وإسحاق .
وكذلك جوزه مالك للمضطر في [ رمضة ] ، فإن جمع لغير ضرورة أعاد في الوقت عنده ، وعند أبي حنيفة .
والشافعي لا يبيح من المرض الجمع بين الصلاتين بحالٍ .
واستدل من أباح الجمع للمريض ، بأمر النبي ( المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل واحد ؛ لمشقة الغسل عليها لكل صلاة ، وذلك ما روي عن النبي ( من حديث حمنة بنت جحش وعائشة وأسماء بنت عميس ، وفي أسانيدها بعض شيء .
وأمر به : علي وابن عباس ، وهو قول عطاء والنخعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق .
والمسلك السابع : أن جمعه كان لشغل ، وفي رواية حبيب بن أبي حبيب ، عن عمرو بن هرم ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، أنه جمع من شغل ، كما خرجه النسائي وقد سبق .
وكذلك في حديث عبد الرحمن بن علقمة ، أن وفد ثقيف شغلوا النبي ( .
وخرج النسائي من رواية سالم ، عن ابن عمر ، أنه لما استصرخ على امرأته صفية أسرع السير ، وجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ثم قال : قال رسول الله ( ? : " إذا حضر أحدكم أمراً يخشى فوته فيصلي هذه الصلاة " .
وخرجه النسائي ، وفي رواية له : " إذا حضر أحدكم الأمر الذي يخاف فواته ، فليصل هذه الصلاة " .
وقد نص أحمد على جواز الجمع بين الصلاتين للشغل .
قال القاضي وغيره من أصحابنا : مراده : الشغل الذي يباح معه ترك الجمعة والجماعة .
وفي ذلك نظر .
وعن ابن سيرين : لا بأس بالجمع بين الصلاتين للحاجة والشيء مالم يتخذ عادة .
المسلك الثامن : حمل الحديث على ظاهره ، وأنه يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر بالكلية ، وحكي ذلك عن ابن عباس وابن سيرين ، وعن أشهب صاحب مالك .
وروى ابن وهب وغيره ، عن مالك أن آخر وقت الظهر والعصر غروب الشمس .
قال ابن عبد البر : وهذا محمول عند أصحابه على أهل الضرورات كحائض تطهرت ، ومغمى عليه يفيق .
وحكى - أيضا - عن طاوس : امتداد الظهر والعصر إلى غروب الشمس .
وعن عطاء : امتدادهما إلى أن تصفر الشمس .
وكذلك روي عن عطاء وطاوس أن وقت المغرب والعشاء لا يفوت حتى يطلع الفجر .
وحكي معنى ذلك عن ربيعة ، وأن الوقتين مشتركان ، وأن وقت الصلاتين يمتد إلى غروب الشمس .
وحكي عن أهل الحجاز جملة .
وعده الأوزاعي مما يجتنب من أقوالهم ، فروى الحاكم ، عن الأصم : أخبرنا العباس بن الوليد البيروتي : ثنا أبو عبد الله بن بحر ، قال : سمعت الأوزاعي يقول : يجتنب من قول أهل العراق : شرب المسكر ، والأكل عند الفجر في رمضان ، ولا جمعة إلا في سبعة أمصار ، وتأخير صلاة العصر حتى يكون ظل كل شيء أربعة امثاله ، والفرار يوم الزحف . ومن قول أهل الحجاز : استماع الملاهي ، والجمع بين الصلاتين من غير عذر ، والمتعة بالنساء ، والدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين ، وإتيان النساء في أدبارهن .
قال الأثرم في " كتاب العلل " : قلت لأبي عبد الله - يعني : أحمد - أي شيء تقول في حديث ابن عباس ، أن النبي ( صلى ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً ، من غير خوف ولا سفر ؟
فقال : ابن عباس كما ترى قد أثبت هذا - أو صححه - ، وغيره يقول - ابن عمر ومعاذٌ وغير واحدٍ - ، يقولون : إنه في السفر . فقلت : أيفعله الأنسان ؟ فقال : إنما فعله لئلا يحرج أمته .
وذكر الأثرم نحوه في " كتاب مسائله لأحمد " ، وزاد : قال أحمد : أليس قال ابن عباس : أن لا يحرج أمته ، إن قدم رجل أو آخر - نحو هذا .
وهذا الذي زاده في " كتاب المسائل " يبين أن أحمد حمله على تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها ، وتقديم الثانية إلى أول وقتها ، كما حمله على ذلك أبو الشعثاء وعمرو بن دينار وغيرهما كما سبق . والله أعلم .انتهى كلامه . والله أعلم