تفسير سورة البقرة من الآية 54- 57
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
ذكر الله تعالى نعمة أخرى أيضاً على بني إسرائيل فقال: {وإذ قال موسى لقومه} أي واذكروا إذ قال موسى لقومه {يا قوم} أي يا أصحابي؛ وناداهم بوصف القومية تحبباً، وتودداً، وإظهاراً بأنه ناصح لهم؛ لأن الإنسان ينصح لقومه بمقتضى العادة شفقة عليهم.
قوله تعالى: {إنكم ظلمتم أنفسكم} بمعنى نقصتم أنفسكم حقها.
قوله تعالى: {باتخاذكم العجل} أي بسبب اتخاذكم {العجل} إلهاً، والمعنى: ظلمتم أنفسكم بسبب اتخاذكم العجل إلهاً تعبدونه من دون الله، والذي فتن الناس به رجل يقال له: السامري. فعبدوه مع الله.
ولماذا كانت عبادتهم للعجل ظلما لأنفسهم؟ لأن النفس أمانة عندك؛ فيجب عليك أن ترعاها بأحسن رعاية، وأن تجنبها سوء الرعاية؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: "إن لنفسك عليك حقا" فمن حقها أن تجنبها ما فيه سخط الله وأن لا تعرضها لعذابه، فإذا لم تفعل ذلك فقد ظلمتها.
قوله تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم} أي ارجعوا إلى خالقكم من معصيته إلى طاعته؛ و "البارئ": الخالق ، وهذا تنبيه على عظم ذنبهم، أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره، وهو خالقكم.
قوله تعالى: {فاقتلوا أنفسكم} أي: فتوبوا بهذا الفعل. وهو أن تقتلوا أنفسكم؛ أي ليقتل بعضكم بعضاً؛ وليس المعنى أن كل رجل يقتل نفسه، فهذا غير المراد بالإجماع؛ فلم يقل أحد من المفسرين: إن معنى قوله تعالى: {فاقتلوا أنفسكم} أي يقتل كل رجل نفسه؛ وإنما المعنى: ليقتل بعضكم بعضاً: يقتل الإنسان ولده، أو والده، أو أخاه أو أي شخص آخر منكم
وهذا كقوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ...} إلى أن قال {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} وذلك لأن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة.
قوله تعالى: {ذلكم} توبتكم بقتل أنفسكم {خير لكم عند بارئكم} يعني توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم خير لكم عند خالقكم؛ لأنكم تنجون بذلك من عقاب الله في الآخرة على ذنبكم، وتستحقون به الثواب منه.
{فتاب عليكم} أي بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا، فمعنى الكلام: فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتبتم فتاب عليكم أي قبل توبتكم وعفا عنكم.
قوله تعالى: {إنه هو التواب الرحيم} أي كثير التوبة {الرحيم} أي ذو الرحمة.
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}
{وإذ قلتم يا موسى} أي: واذكروا أيضاً يا بني إسرائيل إذ قلتم والخطاب لمن كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن إنعامه على أول الأمة إنعام على آخرها؛ فصح توجيه الخطاب إلى المتأخرين مع أن هذه النعمة على من سبقهم.
قوله تعالى: {لن نؤمن لك} أي لن ننقاد، ولن نصدق، ولن نعترف لك بما جئت به {حتى نرى الله جهرة} : {نرى} بمعنى نبصر أي حتى نراه بأعيننا، وكان هذا لما رجع موسى من ميقات الله، وأنزل الله عليه التوراة، وجاء بها قالوا: "ليست من الله {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}.
{فأخذتكم الصاعقة} يعني الموت الذي صعقوا به قيل صعقوا بنار وقيل بصوت{وأنتم تنظرون} أي ينظر بعضكم إلى بعض حين تتساقطون.
قوله تعالى: {ثم بعثناكم من بعد موتكم} أي أحييناكم {من بعد موتكم} ؛ وهو موت حقيقي، أحياهم بعد موتهم وهذه نعمة كبيرة أنعم الله بها عليهم: أخذهم بهذه العقوبة، ثم بعثهم ليرتدعوا؛ ويكون كفارة لهم؛ ولهذا قال تعالى: {لعلكم تشكرون} أي لتشكروا الله سبحانه وتعالى.
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}
{وظللنا عليكم الغمام} أي جعلناه ظِلاً عليكم؛ وكان ذلك في التيه حين تاهوا؛ وقد بقوا في التيه بين مصر والشام أربعين سنة يتيهون في الأرض؛ وما كان عندهم ماء، ولا مأوى؛ ولكن الله تعالى رحمهم، فظلل عليه الغمام، أي جعل السحاب ظلا لهم يقيهم من حر الشمس و {الغمام} هو السحاب الأبيض.
{وأنزلنا عليكم المن} : يقولون: المن شيء يشبه العسل؛ يخلطونه بالماء ثم يشربونه {والسلوى} : طائر يشبه "السُّمَانَى"، وهو من أحسن ما يكون من الطيور، وألذه لحماً.
{كلوا من طيبات ما رزقناكم} الأمر هنا للإباحة والامتنان؛ يعني أننا أبحنا لكم هذا الذي أنزلنا عليكم من المن والسلوى ولنا عليكم المنة والفضل .
{وما ظلمونا} أي ما نقصونا شيئاً؛ لأن الله لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة الطائعين.
{ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي لا يظلمون بهذا إلا أنفسهم؛ أما الله تبارك وتعالى؛ فإنهم لا يظلمونه؛ لأنه سبحانه وبحمده لا يتضرر بمعصيتهم، كما لا ينتفع بطاعتهم.