تفسير سورة البقرة 99-105
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}
سبق وذكرت وأعيد وأنبه هذا التفسير هو للتيسير من أجل الإعانة على الحفظ فقط، هو مجموع من كلام سلفنا وعلمائنا، وليس من عندي، إلا بعض التنبيهات والفوائد الجانبية، ولا أعزو غالباً لأنني أدخل كلام بعضهم في بعض والعزو سيطيل التفسير كثيراً.
قال ابن عثيمين: الإنزال إنما يكون من الأعلى إلى الأسفل؛ وذلك؛ لأن القرآن كلام الله؛ والله تعالى فوق عباده، وهذا فيه إثبات علو الله على خلقه، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة.
وقال: {آيات} جمع آية؛ والآية في اللغة: العلامة، لكنها في الحقيقة أدق من مجرد العلامة؛ لأنها تتضمن العلامة، والدليل؛ فكل آية علامة ولا عكس؛ لكن العلماء-رحمهم الله- قد يفسرون الشيء بما يقاربه، أو يلازمه. وإن كان بينهما فرق، كتفسيرهم "الريب" بالشك في قوله تعالى: {لا ريب فيه} مع أن "الريب" أخص من مطلق الشك؛ لأنه شك مع قلق؛ وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "أصول التفسير". انتهى
{بينات} جمع بينة؛ وهن الواضحات، أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم، التي كانت في التوراة، فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر ولا أخذ شيء منه عن آدمي.
{وما يكفر بها} أي بهذه الآيات البينات {إلا الفاسقون} أي الخارجون عن شريعة الله؛ لأن أصل الفسق: الخروج عن الشيء إلى غيره، فالمراد بـ "الفسق" هنا الفسق الأكبر، كقوله تعالى في سورة السجدة: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} لأن الفسق في الشرع فسقان فسق أكبر وهو بمعنى الكفر المخرج من الملة، وفسق أصغر لا يخرج من الملة ولكنه ينافي العدالة، أي الفاسق لا يكون عدلاً، وسيأتي تعريفه وتوضيحه إن شاء الله في موضعه.
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}
{أوَ كلما} الهمزة هنا للاستفهام وهو استفهام إنكار كما تقدم ذلك، و{كلما} تفيد التكرار، فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض.
{عاهدوا} أي اليهود {نبذه فريق منهم} أصل النبذ الطرح والإلقاء، ألقوا أي ترك هذا العهد جماعة منهم. أي من اليهود. فطرحوه، ولم يفوا به؛ وهذا هو حال بني إسرائيل مع الله سبحانه وتعالى، ومع عباد الله؛ فالله تعالى أخذ عليهم العهد، ومع ذلك نبذوا العهد.
{بل أكثرهم لا يؤمنون} أي السبب في نقضهم العهود أن أكثرهم لا يؤمنون، فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود، ولو صدق إيمانهم، لكانوا مثل من قال الله فيهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} .
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
{ولما جاءهم رسول من عند الله} أي وحين جاءهم رسول مرسل من عند الله، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
{مصدق لما معهم} أي التوراة. فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصديق ما في أيديهم من التوراة أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي الله {نبذ} أي طرح بشدة {فريق} أي جماعة {من الذين أوتوا} أي أُعطوا {الكتاب} التوراة، وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها، رفضوا {كتاب الله} يجوز أن يكون المراد به: القرآن، ويجوز أن يكون المراد: التوراة؛ لأن الذين كفروا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبذوا التوراة التي فيها الأمر باتباعه، والنبذ: الطرح، ويقال لكل من استخف بشيء ولم يعمل به: نبذه وراء ظهره {وراء ظهورهم} أي ألقوه بشدة وراء الظهر ورفضوه، وهذا أسلوب عربي، يقولون لكل من رفض أمراً: جعل فلان هذا الأمر منه بظهر، وجعله وراء ظهره، يعني به أعرض عنه وصد وانصرف.
{كأنهم لا يعلمون} يعني كأنهم في نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم لا يعلمون أنه حق، وهم يعلمون ذلك.
{وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
{واتبعوا} أي اليهود الذين أتوا الكتاب أعرضوا عن كتاب الله ونبذوه وأخذوا بالسحر {ما تتلوا الشياطين} أي ما ترويه وتخبر به الشياطين {على ملك سليمان} أي في ملكه؛ أي في عهده؛ وسليمان هو نبي الله جمع الله له بين النبوة، والملك، ووهبه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده: فسخر له الرياح، والجن، والشياطين؛ فإن سليمان عليه السلام كان ملكاً نبياً رسولاً؛ وعند اليهود قاتلهم الله أن سليمان مَلِك فقط؛ وهو لا ريب ملك، ونبي، ورسول؛ وسليمان كان بعد موسى عليه السلام؛ لقوله تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ... ) إلى قوله تعالى: (وقتل داود جالوت) وسليمان هو ابن داود عليهما السلام {وما كفر سليمان} أي بتعلم السحر؛ أو تعليمِه {ولكنَّ الشياطينَ كفروا يعلمون الناس السحر} ولكنَّ الشياطين هم الذين كفروا بالله حين علَّموا الناس السحر؛ إفسادًا لدينهم. "السحر": عُقَد، ورُقى ينفث فيها الساحر، فيؤثر في بدن المسحور، وعقله؛ وهو أنواع: منه ما يقتل؛ ومنه ما يُمرِض؛ ومنه ما يزيل العقل، ويخدر الإنسان؛ ومنه ما يغير حواس المرء، بحيث يسمع ما لم يكن، أو يشاهد الساكن متحركاً، أو المتحرك ساكناً؛ ومنه ما يجلب المودة؛ ومنه ما يوجب البغضاء؛ المهم أن السحر أنواع.
{وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} يعني واتبعوا أيضاً ما أنزل على الملكين، و "بابل" اسم لبلد في العراق {هاروت وماروت} اسما الملكين، واحد اسمه هاروت والثاني ماروت؛ وهما اسمان أعجميان؛ والمنزَّل عليهما شيء من أنواع السحر{وما يعلِّمان} أي الملكان هاروت، وماروت {من أحد} أي وما يعلمان أحداً{حتى} ينصحاه{ يقولا} الملكان للذي يريد تعلم السحر{ إنما نحن فتنة} أي اختبار للناس؛ ليتبين من يريد السحر ممن لا يريده {فلا تكفر} أي بتعلم السحر {فيتعلمون} أي الناس {ما يفرقون به} أي سحراً يفرقون به {بين المرء وزوجه} ويسمى هذا النوع من السحر "الصرف"؛ ويقابله سحر "العطف"؛ وهو من أشد أنواع السحر{وما هم بضارين به من أحد} أي ما هؤلاء المتعلمون للسحر بضارين به أحداً {إلا بإذن الله} أي إلا بقضاء الله ومشيئته{ويتعلمون} أي الناس من الملكين {ما يضرهم ولا ينفعهم} أي يضرهم في دينهم ولا ينفعهم {ولقد علموا لمن اشتراه} أي علم هؤلاء المتعلمون للسحر أن من ابتغاه بتعلمه {ما له في الآخرة من خلاق} أي ليس له نصيب في الآخرة {ولبئس} "بئس" تقال للذم كما تقدم { ما شروا به أنفسهم} أي ما باعوا به أنفسهم؛ لأنهم في الحقيقة لما اشتروا السحر، الثمن الذي بذلوه في هذا السحر: أنفسهم؛ لأنهم خسروا أنفسهم {لو كانوا يعلمون} ما تعلَّموا السحر؛ يعني: لو كانوا من ذوي العلم المنتفعين بعلمهم ما تعلموا السحر.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
{ولو أنهم} أي اليهود الذين تعلموا السحر {آمنوا} بالله وصدقوا الرسول وآمنوا بما جاءهم به من عند الله واتبعوه {واتقوا} المحارم فاجتنبوا ما حرم الله من اليهودية والسحر وغيرها {لمثوبة} "المثوبة"، و "الثواب" بمعنى الجزاء {من عند الله خير} لكان جزاء الله على ذلك خيراً لهم مما اختاروا لأنفسهم ورضوا به {لو كانوا يعلمون} خيريةَ ثوابِ الله وجزاءه، ما اختاروا السحر على الإيمان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}
{يا أيها الذين آمنوا} النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ -أي استمع لها-؛ فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ.
يعني انتبه وركز عليها.
وهذه الآية من النهي: {لا تقولوا راعنا} يعني لا تقولوا عند مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم {راعنا} من المراعاة؛ وهي العناية بالشيء، والمحافظة عليه؛ وكان الصحابة إذا أرادوا أن يتكلموا مع الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: "يا رسول الله، راعنا"؛ وكان اليهود يقولون: "يا محمد، راعنا"؛ لكن اليهود يريدون بها معنى سيئاً؛ يريدون "راعنا" اسم فاعل من الرعونة؛ يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم راعن؛ ومعنى "الرعونة" الحمق، والهوج؛ لكن لما كان اللفظ واحداً وهو محتمِل للمعنيين نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوه تأدباً، وابتعاداً عن سوء الظن؛ ولأن من الناس من يتظاهر بالإيمان، مثل المنافقين، فربما يقول: "راعنا" وهو يريد ما أرادت اليهود؛ فلهذا نُهي المسلمون عن ذلك {وقولوا انظرنا} يعني إذا أردتم من الرسول أن ينتظركم فلا تقولوا: {راعنا} ولكن قولوا: {انظرنا} فعل طلب؛ و"النظر" هنا بمعنى الانتظار {واسمعوا} فعل أمر من السمع بمعنى الاستجابة؛ أي اسمعوا سماع استجابة، يعني اسمعوا ما تؤمرون به فافعلوه، وما تنهون عنه فاتركوه.
{وللكافرين عذاب أليم} المراد بـ "الكافرين" هنا اليهود {عذاب} بمعنى عقوبة؛ و {أليم} بمعنى مؤلم.
{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
{ما يود} أي لا يحب {الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} لا يحبون ذلك لا اليهود ولا النصارى ولا المشركين، ومِن هنا لبيان الجنس؛ وليست للتبعيض فلا يصح أن تكون للتبعيض؛ وعليه يصير المعنى أن الذين كفروا سواء كانوا أهل الكتاب أو مشركين، لا يحبون {أن ينزل} من عند الله {عليكم من خير من ربكم} يعني: ما يودون تنزيل خير و"الخير" هنا ما ينزل به الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة، لو حصل للكافرين من أهل الكتاب من اليهود، والنصارى، ومن المشركين أن يمنعوا العلم النافع عنا لفعلوا؛ وهذا ليس خاصاً بأهل الكتاب والمشركين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل هو عام؛ ولهذا جاء بصيغة المضارع {ما يود} وهو دال على الاستمرار {والله يختص برحمته من يشاء} يخص برحمته من يشاء بمعنى يفردهم بها دون غيرهم، فالله تبارك وتعالى يتفضل على من يشاء من خلقه فيخصه بالنبوة والرسالة وهذا المقصود برحمته، ويرسله لمن شاء من خلقه وهذه رحمة من الله لهم، بحكمته تبارك وتعالى، وجعل الله تبارك وتعالى رسالته رحمة لأنهم يصيرون بها إلى رضوان الله وجنته ويحصلون بها على خيري الدنيا والآخرة؛ وكل ذلك رحمة من الله له، وبذلك نعلم كم هو محروم من يترك القرآن والسنة ولا يتبعهما، وفي هذا بيان أن الرحمة فضل ومنة من الله يرزقها من شاء من عباده بحكمته وليست بالتمني، ولا يجوز الاعتراض على أمر الله، وحسد صاحب النعمة على ما رزقه الله كما يفعل الكفار في حسدهم للمسلمين {والله ذو الفضل} أي ذو العطاء الزائد عما تتعلق به الضرورة و{العظيم} أي الواسع الكثير الكبير.