تفسير سورة البقرة 106-110
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}
{ما ننسخ من آية أو ننسها} بضمير الجمع للتعظيم، أي لم يقل تبارك وتعالى لم أنسخ أو أنسها بالمفرد، بل قالها بالجمع وهو واحد، هذا الأسلوب العربي يستعمل للواحد المعظم نفسه وليس للتعدد؛ وهو تبارك وتعالى أهل للتعظيم، و"النسخ" معناه في اللغة: الإزالة؛ أو ما يشبه النقل؛ فالأول كقولهم: "نسخت الشمس الظل" يعني أزالته؛ والثاني كقولهم: "نسخت الكتاب"؛ إذ ناسخ الكتاب لم يزله، ولم ينقله؛ وإنما نقش حروفه، أما في الشرع: فإنه رفع حكم دليل شرعي، أو لفظه، بدليل شرعي؛ والمراد بـ "الآية" الآية الشرعية.
{ننسها} من النسيان، بمعنى نجعل الرسول صلى الله عليه وسلم ينساها، والمراد به هنا رفع الآية؛ وليس مجرد النسيان؛ لأن مجرد النسيان لا يقتضي النسخ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قد ينسى بعض الآية؛ وهي باقية {نأت بخير منها} الخيرية هنا بالنسبة للمكلف؛ ووجه الخيرية- كما يقول العلماء- أن النسخ إن كان إلى أشد فالخيرية بكثرة الثواب؛ وإن كان إلى أخف فالخيرية بالتسهيل على العباد مع تمام الأجر؛ وإن كان بالمماثل فالخيرية باستسلام العبد لأحكام الله عز وجل، وتمام انقياده لها.
{أو مثلها} أي نأتي بمثلها.
{ألم تعلم} الهمزة هنا للاستفهام؛ والمراد به التقرير؛ وكلما جاءت على هذه الصيغة فالاستفهام فيها للتقرير، يقرر الله المخاطَب {أن الله على كل شيء قدير} يعني أنك تعلم قدرة الله على كل شيء؛ ومنها القدرة على النسخ.
{قدير} "القدرة" صفة تقوم بالقادر بحيث يفعل الفعل بلا عجز.
و"القوة" صفة تقوم بالقوي بحيث يفعل الفعل بلا ضعف؛ إذاً المقابل للقدرة: العجز، والمقابل للقوة: الضعف، هذا الفرق الأول بين القوة والقدرة، والفرق الثاني بينهما: أن "القوة" يوصف بها من له إرادة، ومن ليس له إرادة؛ فيقال: رجل قوي؛ وحديد قوي؛ وأما "القدرة" فلا يوصف بها إلا ذو إرادة؛ فلا يقال: حديد قادر.
قال ابن عثيمين رحمه الله بعدما ذكر ما تقدم: تنبيه: من هذا الموضع من السورة إلى ذكر تحويل القبلة في أول الجزء الثاني؛ تجد أن كل الآيات توطئة لنسخ استقبال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ ولهذا تجد الآيات بعدها كلها في التحدث مع أهل الكتاب الذين أنكروا غاية الإنكار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}
{ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} أي أن الله وحده الذي له ملك السماوات، والأرض، و(السماوات) جمع سماء؛ ويُطلق على العلو، وعلى السقف المحفوظ. وهو المراد هنا؛ وهي سبع سماوات كما جاء في القرآن الكريم، والسنة النبوية؛ و (الأرض) أي جنس الأرضين، فيشمل السبع كلها.
قال الطبري: فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمد، أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي، بما أشاء إذ أشاء، وأقر منهما ما أشاء. ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبرعن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله، بتغيير ما غير الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه. انتهى
وهو توجيه عظيم والمعنى أن الكون ملكي وأدبر الأمر بعلمي وحكمتي وليس لأحد أن يعترض على ما أفعل في ملكي وبحكمتي، ومن ذلك نسخ الآيات.
{وما لكم} أيها الكفار عند نزول العذاب {من دون الله} أي من سواه {من ولي} أي من قريب أو صديق، ما من أحد يتولاكم فيجلب لكم الخير {ولا نصير} أي ولا ناصر يدفع عنكم الشر.
{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
في هذه الآيات نهى الله تبارك وتعالى عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها.
{أم تريدون أن تسألوا} الخطاب هنا قيل: إنه للمؤمنين، وقيل: للكفار، وابن كثير رجح أنه لهما، معنى الآية: أتريدون أن توردوا الأسئلة على رسولكم كما كان بنو إسرائيل يوردون الأسئلة على رسولهم؛ والاستفهام هنا يراد به الإنكار على من يكثرون السؤال على النبي صلى الله عليه وسلم.
{رسولكم} المراد به محمد صلى الله عليه وسلم بالإجماع {كما سئل موسى من قبل} أي كما سأل بنو إسرائيل موسى من قبل، كقولهم: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)، وقولهم: (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، وغير ذلك؛ فبنو إسرائيل هم المشهورون بالأسئلة، والتعنت؛ أما هذه الأمة فإنها قد أدَّبها الله عز وجل فأحسن تأديبها: لا يسألون إلا عن أمر لهم فيه حاجة.
{ومن يتبدل الكفر بالإيمان} أي يأخذ الكفر بديلاً عن الإيمان {فقد ضل} أي تاه {سواء السبيل} أي وسط الطريق؛ يعني يخرج عن وسط الطريق، وانحرف عنه إلى الضلال، وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء، واتباعهم والانقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم، والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر.
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}
يحذر تعالى عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويُعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح.
{ود} بمعنى أحب؛ بل إن "الود" خالص المحبة؛ والمعنى: أن كثيراً من أهل الكتاب يودون ويتمنون بكل قلوبهم أن يردوكم كفاراً؛ أي يرجعوكم كفاراً {كثير من أهل الكتاب} هم اليهود، والنصارى؛ والمراد بـ {الكتاب} التوراة، والإنجيل {من بعد إيمانكم} أي من بعد أن ثبت الإيمان في قلوبكم {حسداً} أي ودوا من أجل الحسد؛ يعني هذا الود لا لشيء سوى الحسد؛ لأن ما أنتم عليه نعمة عظيمة؛ وهؤلاء الكفار أعداء؛ والعدو يحسد عدوه على ما حصل له من نعمة الله؛ و "الحسد" تمني زوال نعمة الله عن الغير سواء تمنى أن تكون له، أو لغيره، أو لا لأحد؛ فمن تمنى ذلك فهو الحاسد؛ وقيل: "الحسد" كراهة نعمة الله على الغير{من عند أنفسهم} أي هذه المودة التي يودونها ليست لله، ولا من الله؛ ولكن من عند أنفسهم{من بعد ما تبين} أي من بعد ما ظهر {لهم} أي لهؤلاء الكثيرين {الحق} أي ما أنتم عليه من الحق؛ و "الحق" هو الشيء الثابت؛ فإن وصف به الحكم فالمراد به العدل؛ وإن وصف به الخبر فالمراد به الصدق؛ فـ {الحق} الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام؛ ودين الإسلام على هذا؛ وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا؛ فإن أخباره صدق، وأحكامه عدل{فاعفوا واصفحوا} الخطاب للمؤمنين عامة؛ ويدخل فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ و "العفو" بمعنى ترك المؤاخذة على الذنب {اصفحوا} بين "العفو"، و "الصفح" فرق؛ فـ "العفو" ترك المؤاخذة على الذنب؛ و"الصفح" الإعراض عنه؛ مأخوذ من صفحة العنق؛ وهو أن الإنسان يلتفت، ولا كأن شيئاً صار. يوليه صفحة عنقه؛ فـ "الصفح" معناه الإعراض عن هذا بالكلية وكأنه لم يكن؛ فعلى هذا يكون بينهما فرق؛ فـ "الصفح" أكمل إذا اقترن بـ "العفْو" {حتى يأتي الله بأمره} أي بأمر سوى ذلك؛ وهو الأمر بالقتال {إن الله على كل شيء قدير} أي لا يعتريه عجز في كل شيء فعله.
قال أسامة بن زيد رضي الله عنه: وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين، وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله عز وجل: { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } [آل عمران: 186] الآية، وقال الله: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ...} إلى آخر الآية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال ابن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا. انتهى من صحيح البخاري.
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}
{وأقيموا الصلاة} الصلاة هي الصلاة التي تعرفونها، يعني أدوا الصلاة على وجه الكمال؛ أي ائتوا بها كاملة بشروطها، وأركانها، ومكملاتها.
{وآتوا الزكاة} أي أعطوها مستحقيها الذين بينهم الله في آية أخرى ستأتي إن شاء الله، و"الزكاة" في اللغة النماء، والزيادة؛ ومنه قولهم: "زكا الزرع" إذا نما، وزاد؛ وفي الشرع: هي دفع مال مخصوص لطائفة مخصوصة تعبداً لله عز وجل.
{وما تقدموا لأنفسكم} مهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم فتقدموه قبل وفاتكم، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة، فيجازيكم به. {من خير} الخير: هو العمل الذي يرضاه الله {تجدوه عند الله} أي تجدوا ثوابه عند الله {إن الله بما تعملون بصير} الله سبحانه وتعالى يخبرنا أنه بكل ما نعمل بصير، سواء كان عملنا قلبياً، أو بدنياً؛ قولياً، أو فعلياً؛ لأن القلوب لها أعمال كالمحبة، والخوف، والرجاء، والرغبة، وما أشبه ذلك و{بصير} ليس من البصر الذي هو الرؤية؛ لكن من البصر الذي بمعنى العلم؛ لأنه أشمل حيث يعم العمل القلبي، والبدني؛ والعمل القلبي لا يدرك بالرؤية.