{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}
{وقالوا} أي اليهود، والنصارى {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً} أي يهودياً، وهذا قول اليهود، أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً {أو نصارى} هذا قول النصارى، قالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً.
{تلك أمانيهم} أي تلك المقالة، و{أمانيهم} أي هذا ما يتمنونه، أي قولهم هذا أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا حجة ولا برهان ولا يقين علم بصحة ما يدعون، ولكن بادعاء الأباطيل وأماني النفوس الكاذبة.
{قل} يا محمد {هاتوا} أي أحضروا {برهانكم} أي دليلكم، "البرهان" هو الذي يتبين به حجة الخصم؛ يعني لا نقبل كلامكم إلا إذا أقمتم عليه الدليل؛ فإذا أقمتم عليه الدليل فهو على العين، والرأس.
{إن كنتم صادقين} إن كنتم صادقين فيما تقولونه فهاتوا دليلكم على ما تقولون، ولا يوجد عندهم أدلة؛ لأن ما يقولنه ليس ألا أماني كاذبة من عندهم، يعني أن هذا أمر لا يمكن وقوعه؛ فطلب الدليل تحدٍّ، فإذا كانوا صادقين في زعمهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى؛ فليأتوا بالبرهان؛ ولن يأتوا به، إذاً يكونون كاذبين.
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}
{بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره} أي ليس كما قال اليهود والنصارى أنه (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)؛ ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فهو الذي يدخلها وينعم فيها {من أسلم وجهه} قال ابن كثير : قال سعيد بن جبير: {بلى من أسلم} أخلص، {وجهه} قال: دينه {وهو محسن} أي: متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن للعمل المتقبل شرطين، أحدهما: أن يكون خالصاً لله وحده والآخر: أن يكون صواباً موافقا للشريعة. فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". رواه مسلم من حديث عائشة، عنه عليه السلام.
فعمل الرهبان ومن شابههم -وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله-فإنه لا يتقبل منهم، حتى يكون ذلك متابعا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم، قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}.
وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.
وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين، كما قال تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النِّسَاءِ: 142] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الْمَاعُونِ: 4 -7] ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاَءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] . وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}.انتهى كلامه
{فله أجره عند ربه} جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته لله عند ربه {ولا خوف عليهم} أي على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون، المخلصين له الدين في الآخرة لا خوف عليهم من عقابه وعذاب جحيمه {ولا هم يحزنون} على ما فاتهم من أمر الدنيا.