تفسير سورة البقرة 116- 119
{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}
{وقالوا اتخذ الله ولداً} أي قالت النصارى، واليهود، والمشركون، اتخذ الله ولداً؛ اليهود قالت: عُزير ابن الله؛ والنصارى قالت: المسيح ابن الله؛ والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله؛ فرد الله عليهم وكذبهم ونزه نفسه عن ذلك، فقال: {سبحانه} أي تعالى وتقدس وتنزه عن أن يكون له ولد، أي ليس الأمر كما يزعمون ويكذبون، وإنما له ملك السماوات والأرض ومن فيهن، وهو المتصرف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء، والجميع عبيد له ومِلك له، فكيف يكون له ولد منهم؟! والولد إنما يكون متولدا من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه، فلا زوجة له، لكماله وعدم حاجته لذلك، فكيف يكون له ولد؟ فالقول بأن له ولداً استنقاص منه تبارك وتعالى، ومناف لوصفه بالكمال؛ لذلك نزه نفسه عنه.
{كل له قانتون} أي كلهم مطيع لأمره الكوني؛ لأنه مملوك؛ والله ــــ تبارك وتعالى ــــ هو المالك، فهو داخل تحت أمر الله لا يخرج عنه، والبعض يطيع أمره الشرعي والبعض لا يطيعه، أما الأمر الكوني فالكل يطيعه رضي أم كره.
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}
{بديع السماوات والأرض} أي خالقهما موجدهما على غير مثال سابق {وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} أي إذا قدر أمراً وأراد حصوله، فإنما يقول له: {كن} أي مرة واحدة {فيكون} أي يحصل كما أراد سبحانه من غير تأخر، وهكذا بكل سهولة، بمجرد قوله كن ومباشرة.
قال ابن كثير: ونبه تعالى بذلك أيضاً على أنه خلق عيسى بكلمة كن، فكان كما أمره الله.
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}
{وقال الذين لا يعلمون} أي ليسوا من ذوي العلم، وهم مشركو العرب {لولا يكلمنا الله} أي هلاّ يكلمنا الله ويبين لنا صدق الرسول {أو تأتينا آية} أي علامة على صدقه؛ وهذا منهم على سبيل التعنت والعناد والكبر عن الحق؛ لأن الرسول أتاهم بالأدلة والبراهين الواضحات جدا على نبوته ومنها هذا القرآن الذي تحداهم الله به، وعجزوا عنه.
{كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} أي مثلَ هذا القول قال الذين من قبلهم، أهل الكتاب وغيرهم؛ كقوم موسى قالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}؛ فهذا دأب المكذبين للرسل ينكرون، ويقترحون؛ وقد أُتوا من الآيات بأعظم مما اقترحوه {تشابهت قلوبهم} أشبهت قلوب مشركي العرب، قلوب من قبلهم من الكفار في العناد والكبر ورد الحق، وكذلك الأمر في الكفار من أول ما بعثت الرسل إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ــــ بل وإلى يوم القيامة ــــ فقلوب أهل الكفر، والعناد متشابهة؛ إنما يختلف الأسلوب؛ قد يقترح هؤلاء شيئاً؛ وهؤلاء شيئاً آخر؛ لكن الكلام على جنس الاقتراح، وعدم قبولهم للحق.
{قد بينا} أي أظهرنا ووضحنا {الآيات} جمع آية؛ وهي العلامة، والمراد هنا الأدلة التي تدل على صدق الرسل، وضحناها {لقوم يوقنون} «الإيقان» هو العلم الذي لا يخالجه شك. والمراد: أننا وضحنا الأدلة التي تدل على صدق الرسل، فكل من يريد الحق ولا يكابر ويعاند تدله هذه الأدلة على صدق الرسل، فينتفع بها، وهي واضحة وكافية لا تحتاج إلى مزيد عليها. وأما المعاند والمكابر فهذا لو أتته آيات أوضح من عين الشمس لردها ولم ينتفع بها؛ لأن المشكلة عنده ليست خفاء الحق لعدم وضوح أدلته، بل لعناده وكبره، اتباعا لهواه.
هذا الأمر افهموه جيدا، فهو مما يشكل على بعض الناس، يقولون: لماذا لا يرسل لهم ما طلبوا من أدلة كي يؤمنوا وتكون الأدلة أوضح من هذا؟ أو لماذا لم يرسل الله أدلة أوضح من ذلك؟ والجواب ما تقدم.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}
{إنا أرسلناك} يا محمد إلى الناس كافة {بالحق} أي بدعوة الحق، والحق الذي هو ضد الباطل، وهي دعوة الإسلام {بشيراً} تبشر من استجاب لدعوتك بالنعيم {ونذيراً} تنذره أي تخوف من لا يستجيب لدعوتك بالعذاب
{ولا تُسْأَلُ عن أصحاب الجحيم} أي لا يسألك الله عن أصحاب الجحيم؛ لأنك بلَّغت؛ والحساب على الله، و{أصحاب} جمع صاحب؛ وهو الملازم؛ و {الجحيم} النار العظيمة؛ وهي لها أسماء كثيرة منها: النار، والسعير، وجهنم، والجحيم؛ كل ذلك لاختلاف أوصافها؛ وإلا فهي واحدة.