تفسير سورة البقرة 154- 158
{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}
{ولا تقولوا} أيها المؤمنون {لمن} للذي {يقتل في سبيل الله} يجاهد ويقتل في المعركة ويكون قصده من جهاده إعلاءُ كلمة الله، كلمة لا إله إلا الله وتحقيق التوحيد ونصرة دين الله هذا هو المقاتل في سبيل الله، وليس كقتال الخوارج، بل قتال مشروع {أموات} لا تقولوا هو ميت، فإن الميت من خلقي من سلبته حياته وأعدمته حواسه، فلا يلتذ لذة ولا يدرك نعيماً؛ فإن من قتل منكم ومن سائر خلقي في سبيلي {أحياء} عندي في حياة ونعيم وعيش هني ورزق طيب، فرحين بما آتيتهم من فضلي {ولكن لا تشعرون} ولكنكم لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به.
فحياتهم هذه حياة برزخية لا علم لنا بها إلا ما علمنا الله تبارك وتعالى
وهنا تنبيه مهم: وهو أن الأمور الغيبية مثل هذه الحياة لا تحاول أن تقيسها على حياتك الدنيا كي تقف على كيفيتها، تلك حياة وهذه حياة، الحياة الدنيا رأيناها وعلمناها، وتلك الحياة لا نعلم عنها سوى ما أخبرنا الله به، فنحن نؤمن بما أخبرنا به ونقف عنده، ولا نعارضه بعقولنا وأقيستنا الخاطئة، انتبهوا لهذه المسألة فهي مزلة أقدام، فهذا القياس وإعمال العقل الصغير في الأمور الغيبية هو السبب في ضلال الكثير من المبتدعة عن الحق، أهل السنة تقوم عقيدتهم على الإيمان بالغيب بكل ما أخبر به ربنا تبارك وتعالى في الكتاب والسنة ولا يعارضونه بعقولهم.
أخرج مسلم في صحيحه عن مسروق، قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} -هذه الآية في سورة آل عمران-، قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطِّلَاعَةً »، فقال: " هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رَأَوْا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أنْ ليس لهم حاجة تُركوا".
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}
{ولنبلونكم} أي لنختبرنكم ولنمتحننكم، فالابتلاء هنا بمعنى الاختبار والامتحان، وهو لإظهار الصادق من الكاذب {بشيء} التنكير هنا للتقليل؛ ويحتمل أن يكون للتكثير.
{من الخوف} أي الذُّعْر؛ وهو شامل للخوف العام، والخوف الخاص؛ الخوف العام: كأن تكون البلاد مهددة بعدو؛ والخوف الخاص: كأن يكون الإنسان يبتلى بنفسه بمن يخيفه ويروعه.
{والجوع} هو خلو البطن من الطعام مع شدة اشتهائه؛ وهو ضد «الشِّبع».
{ونقص من الأموال} بالخسران والهلاك.
{والأنفس} يعني: بالقتل والموت، وقيل: بالمرض والشيب.
{والثمرات} جمع «ثمرة» ؛ وهي ما ينتج من أشجار النخيل، والأعناب، وغيرهما، بأن تأتي كوارث تنقص بها هذه الثمار، أو تتلف.
{وبشر الصابرين} أي أخبرهم بما يسرهم؛ وسبق معنى الصبر، وأقسامه.
{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)}
{الذين إذا أصابتهم مصيبة} أي من هذه المصائب التي ذكرها في الآية الأولى.
{قالوا} أي بقلوبهم، وألسنتهم {إنا لله} اللام للملك؛ يعني إنا ملك لله يفعل بنا ما يشاء.
{وإنا إليه راجعون} أي صائرون في جميع أمورنا دنيا، وأخرى؛ فنرجو الذي أصابنا بهذه المصيبة عند رجوعنا إليه أن يجزينا بأفضل منها؛ فهم جمعوا هنا بين الإقرار بالربوبية في قولهم: {إنا لله} ، وبين الإقرار، والإيمان بالجزاء الذي يستلزم العمل الصالح؛ لأنهم يقولون: {وإنا إليه راجعون} فنحن نرجو ثوابه مع أنه فعل بنا ما هو ملكه، وبيده.
أخرج مسلم في صحيحه عن أم سلمة، أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: {إنا لله وإنا إليه راجعون}، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها "، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لي بنتا وأنا غيور، فقال: «أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة».
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}
{أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} ؛ الإشارة إلى الذين صبروا إذا أصابتهم المصيبة وقالوا ما تقدم؛ وجاءت بلفظ الإشارة للبعيد للدلالة على علو مرتبتهم، ومنزلتهم، ومقامهم {صلوات} اختلف العلماء في معناها؛ ولكن أصح الأقوال فيها أن المراد بها الثناء عليهم في الملأ الأعلى؛ والمعنى أن الله يثني على هؤلاء في الملأ الأعلى رفعاً لذكرهم، وإعلاءً لشأنهم.
{ورحمة} عطفها على {الصلوات} من باب عطف العام على الخاص؛ لأن الثناء عليهم في الملأ الأعلى من الرحمة.
{وأولئك هم المهتدون} «أولاء» اسم إشارة تعود إلى {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}، {المهتدون} أي الذين اهتدوا إلى طريق الحق؛ فإن هذا الكلام الذي يقولونه مع الصبر هو الهداية.
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}
أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عروة أنه قال: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلَّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]. الآية قالت عائشة رضي الله عنها: «وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما»، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون: أن الناس، - إلا من ذكرت عائشة - ممن كان يهل بمناة، كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] الآية قال أبو بكر: «فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما، في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك، بعد ما ذكر الطواف بالبيت»
{إن الصفا والمروة} جبلان معروفان؛ يقال للصفا: جبل أبي قبيس؛ وللمروة: قُعَيقعان؛ وهما شرقي الكعبة.
{من شعائر الله}،{من} للتبعيض ــــ يعني بعض شعائر الله؛ و «الشعائر» جمع شعيرة؛ وهي التي تكون عَلَماً في الدين؛ يعني: من معالم الدين الظاهرة؛ لأن العبادات منها خفية: بَيْنَ الإنسان وربه؛ ومنها أشياء عَلَم ظاهر بيِّن ــــ وهي الشعائر.
{من شعائر الله} ليس المراد أن نفس الجبل من الشعائر؛ بل المراد الطواف بهما من الشعائر؛ أضيفت الـ {شعائر} إلى {الله} ؛ لأنه هو الذي شرعها، وأثبتها، وجعلها طريقاً موصلاً إليه.
{فمن حج البيت} «حج» في اللغة بمعنى قصد؛ إذاً {حج البيت} أي قصده لأداء مناسك الحج؛ و {البيت} هو بيت الله؛ أي الكعبة.
{أو اعتمر} ؛ {أو} للتنويع؛ لأن قاصد البيت إما أن يكون حاجاً؛ وإما أن يكون معتمراً؛ و «العمرة» في اللغة: الزيارة؛ والمراد بها زيارة البيت لأداء مناسك العمرة.
{فلا جناح عليه} الجناح: الإثم؛ يعني فلا إثم عليه في أن يتطوف بهما؛ وإنما نفى الإثم؛ لأنهم كانوا يتحرجون من الطواف بهما.
{أن يطوَّف بهما} أي: يدور بهما، والمراد به السعي بين الصفا والمروة.
{ومن تطوع خيراً} فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة؛ ازداد خيراً في الطاعة.
{فإن الله شاكر} شكره سبحانه لعبده بأن يجازيه بعمله أضعاف ما عمل، فوق ما يستحق.
{عليم} بما أراد ونوى الطائف.
وقد اختلف أهل العلم في حكم السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة فمنهم من قال السعي ركن لا يصح النسك إلا به، ومنهم من قال واجب يجب بتركه دم، ومنهم من قال السعي بينهما مستحب، وهذا القول الأخير هو الذي أميل إليه، أي القول بالاستحباب، وهو قول خمسة من الصحابة رضي الله عنهم، وقد بينت المسألة بالتفصيل في فتاوى معهد الدين القيم. والله أعلم