تفسير سورة البقرة الآية 159-163
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}
{إن الذين يكتمون} أي يخفون؛ لكنه لا يكون كتماً إلا حيث دعت الحاجة إلى البيان إما بلسان الحال؛ وإما بلسان المقال.
{ما أنزلنا من البينات} البينات جمع بينة؛ والمراد الآيات البينات الواضحات.
{والهدى} أي العلم النافع الذي يهتدي به الخلق إلى الله عزّ وجلّ.
{من بعد ما بيناه} أي أظهرناه {للناس} أي للناس عموماً ــــ المؤمن، والكافر؛ فإن الله تعالى بين الحق لعموم الناس، فكل الناس قد بين الله لهم الحق؛ لكن منهم من اهتدى؛ ومنهم من بقي على ضلاله.
{في الكتاب} المراد به جميع الكتب؛ فهو للجنس؛ فما من نبي أرسله الله إلا ومعه كتاب.
{أولئك يلعنهم الله} أي يطردهم ويبعدهم عن رحمته؛ لأن «اللعن» في اللغة: الطرد والإبعاد {ويلعنهم اللاعنون} أي: يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهم العنهم، واختلفوا في هؤلاء اللاعنين، فقالوا: جميع الخلائق إلا الجن والإنس، وقال قتادة: هم الملائكة، وقال عطاء: الجن والإنس، وقال الحسن: جميع عباد الله.
يدخل في الذين يكتمون: علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كتموا صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه، ويدخل فيها كل من كتم الحق الذي يعلمه، ووجب عليه بيانه.
قال حمران مولى عثمان: سمعت عثمان بن عفان، وهو بفناء المسجد فجاءه المؤذن عند العصر فدعا بوَضوء فتوضأ، ثم قال: والله لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم، قال عروة: " الآية {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات} [البقرة: 159] ".
وقال أبو هريرة: " إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} [البقرة: 159] إلى قوله {الرحيم} [البقرة: 160]
ويجوز كتم بعض العلم عن بعض الأشخاص، في بعض الأحوال، دفعاً للمفسدة، في حال توقع حصول المفسدة ببثه.
لحديث معاذ: قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، فقال: «يا معاذ، هل تدري حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟»، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا»، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: «لا تبشرهم، فيتكلوا». متفق عليه
وقال أبو هريرة: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. أخرجه البخاري
قال أهل العلم هذا في غير بيان أحكام الشريعة من حلال وحرام كبيان الشرك والتوحيد والمحرمات والواجبات، فهذا بيانه واجب ولا يجوز كتمه، فقالوا الذي لم يحدث به أبو هريرة كأسماء الغلمة من قريش الذين يكون فساد الدين على أيديهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم
انظروا مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 255و256) والله أعلم
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}
{إلا الذين تابوا} يعني إلا إذا تابوا؛ و «التوبة» في اللغة الرجوع؛ وفي الشرع: الرجوع من معصية الله إلى طاعته؛ والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن كتمان ما أنزل الله إلى بيانه، ونشره {وأصلحوا} أي أصلحوا عملهم {وبينوا} أي وضحوا للناس ما كتموا من العلم ببيانه، وبيان معانيه؛ لأنه لا يتم البيان إلا ببيان المعنى {فأولئك} يعني الذين تابوا، وأصلحوا، وبينوا {أتوب عليهم} أي أقبل منهم التوبة؛ لأن توبة الله على العبد لها معنيان؛ أحدهما: توفيق العبد للتوبة؛ الثاني: قبول هذه التوبة.
{وأنا التواب} صيغة مبالغة، فهو سبحانه وتعالى موصوف بالتواب؛ وهو ذو توبة على جميع العباد؛ وكذلك موصوف بكثرة توبته سبحانه وتعالى، وكثرة من يتوب عليهم: كم يفعل الإنسان من ذنب، ويتوب، فيتوب الله عليه! وكم من أناس أذنبوا، فتابوا، فتاب الله عليهم! {الرحيم} سبق الكلام عليه.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)}
الآيتان قبلها في العلماء الذين كتموا الحق؛ وهذه في الكفار الذين استكبروا عن الحق.
{إن الذين كفروا} لم يؤمنوا {وماتوا وهم كفار} يعني أنهم ــــ والعياذ بالله ــــ استمروا على كفرهم إلى الموت، فلم يزالوا على الكفر، ولم يتوبوا، ولم يرجعوا {أولئك عليهم لعنة الله} أي طرده، وإبعاده عن رحمته {والملائكة} أي ولعنة الملائكة؛ والملائكة عالم غيبي خُلِقوا من نور؛ وهم محجوبون عن الإنس؛ وربما يرونهم إما على الصورة التي خلقوا عليها، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلِق عليها له ستمائة جناح، قد سد الأفق، وإما على صورة أخرى، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورة رجل من الصحابة اسمه دحية الكلبي؛ وهم عباد لله عزّ وجلّ لا يستكبرون عن عبادته، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؛ والملائكة عليهم السلام لهم وظائف، وأعمال خصهم الله سبحانه وتعالى بها.
قوله تعالى: {والناس أجمعين} أي عليهم لعنة الناس أجمعين؛ يلعنهم الناس ــــ والعياذ بالله، ويمقتونهم ولا سيما في يوم القيامة؛ فإن هؤلاء يكونون مبغضين عند جميع الخلق؛ فهم أعداء الله سبحانه وتعالى.
{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}
{خالدين فيها} أي في هذه اللعنة؛ والمراد فيما يترتب عليها؛ فإنهم خالدون في النار التي تكون بسبب اللعنة.
{لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} أي لا يمهلون؛ بل يؤخذون بالعقاب؛ من حين ما يموتون وهم في العذاب.
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}
{وإلهكم} الخطاب للبشر كلهم؛ أي أيها الناس معبودكم الحق الذي تكون عبادته حقاً؛ و {إله} بمعنى مألوه؛ و«المألوه» معناه المعبود حباً، وتعظيماً وهو إله واحد، لا ثاني له {لا إله إلا هو} وهذه الجملة توكيد لما قبلها في المعنى؛ فإنه لما أثبت أنه إله واحد نفى أن يكون معه إله، ومعناها: لا معبود حق إلا هو؛ وعلى هذا تكون {لا} نافية للجنس؛ وخبرها محذوف؛ والتقدير: لا إله حق إلا هو؛ وإنما قدرنا «حق» ؛ لقوله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62] ؛ وقد زعم بعضهم أن تقدير الخبر «موجود» ؛ وهذا غلط واضح؛ لأنه يختل به المعنى اختلالاً كبيراً من وجهين:
الوجه الأول: أن هناك آلهة موجودة سوى الله؛ لكنها باطلة، كما قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62]
الوجه الثاني: أنه يقتضي أن الآلهة المعبودة من دون الله هي الله، ولا يخفى فساد هذا؛ وعليه فيتعين أن يكون التقدير: «لا إله حق»، كما فسرناه.
{الرحمن الرحيم} فألوهيته مبنية على الرحمة؛ وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم} فإن ذكر هذين الاسمين بعد الربوبية يدل على أن ربوبيته مبنية على الرحمة.