سورة البقرة 200 – 210
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)}
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} أي: فرغتم من حجكم وذبحتم نسائِكَكُم، أي: ذبائحكم، وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى.
وأصل «النسك» الْعِبَادَةُ، وَالطَّاعَةُ، وَكُلُّ مَا تتقرب بِهِ إِلى اللَّهِ تَعَالَى؛ ويستعمل في الحج؛ وفي الذبح؛ ومنه قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} [الأنعام: 162].
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالتكبير والتحميد والثناء عليه {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}أي كما تذكرون آباءكم، أو أشد ذكراً؛ و{أشد} يشمل الشدة في الهيئة، وحضور القلب، والإخلاص؛ والشدةَ في الكثرة أيضاً؛ فيذكر الله ذكراً كثيراً، ويذكره ذكراً قوياً مع حضور القلب.
{ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } كانوا في الجاهلية يذكرون أمجاد آبائهم إذا انتهوا من المناسك؛ وكل يفخر بنسبه، وحسبه؛ فأمر الله تعالى أن نذكره سبحانه وتعالى كذكرهم آباءهم، أو أشد ذكراً.
{أو أشد ذكراً} أي بل أشد ذكراً؛ فيجب أن يكون ذكرنا لله أشد من ذكر الآباء.
{فَمِنَ النَّاسِ} أي بعض الناس {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} أي أعطنا نصيبنا في الدنيا، بحيث لا يسأل إلا ما يكون في ترف دنياه فقط؛ ولا يسأل ما يتعلق بالدين، أي لا هم له بسؤال الجنة وما قرب إليه من عمل، ولا بالاستعاذة من النار، بل شغله الشاغل الدنيا، يقول: اللهم ارزقنا سيارة أو بيتا أو مالا ..وهكذا.
{ وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } «الخلاق» بمعنى الحظ والنصيب؛ يعني ليس له في الآخرة من نصيب.
قال ابن كثير: وتضمن هذا الذم والتنفيرعن التشبه بمن هو كذلك.
وقال : ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأخرى فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)}
{ وَمِنْهُمْ} أي ومن الناس{مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } يعني من الناس من تكون همته عليا يريد الخير في الدنيا، والآخرة؛ يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة؛ وحسنة الدنيا كل ما يستحسنه الإنسان منها، مثل العلم والعبادة، والصحة، وسعة الرزق، وكثرة البنين، والزوجات وأنواع الأموال.
{وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} حسنة الآخرة فسرها الكثير بالجنة والبعض بالعافية، ونرجو أن يشمل ذلك كل ما يستحقه المؤمن كامل الإيمان في الآخرة.
{ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أي اجعل لنا وقاية من عذاب النار؛ وهذا يشمل شيئين:
الأول: العصمة من الأعمال الموجبة لدخول النار.
الثاني: المغفرة للذنوب التي توجب دخول النار.
قال ابن كثير: فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل؛ إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وأما الحسنة في الآخرة، فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام. انتهى
{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}
{ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} مَن المقصودون بقوله أولئك، قيل المقصود القسمان، والظاهر أنهم الذين يقولون ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فقط.
{أولئك لهم نصيب} حظ {مما كسبوا} من الخير والدعاء بالثواب والجزاء {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يعني: إذا حاسب عبده فحسابه سريع لا يحتاج إلى تفكير وعد وما شابه، قال الحسن: أسرع من لمح البصر، وقيل: معناه إتيان القيامة الذي سيحاسب فيه العباد قريب؛ لأن ما هو آت لا محالة فهو قريب.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}
{واذكروا الله في أيام معدودات} لما ذكر الله - تبارك وتعالى - أفعال الحج؛ ذكر ما بعد انتهاء أفعال الحج؛ وهو ذكر الله تعالى في أيام معدودات؛ وهذه الأيام هي أيام التشريق الثلاثة التي بعد يوم النحر، وهي الحادي عشر؛ والثاني عشر؛ والثالث عشر من شهر ذي الحجة؛ والذكر هو التكبير في تلك الأيام مطلقاً، ومقيداً، وعند رمي الجمار، قال صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل، وشرب، وذكر لله عزّ وجلّ».
وسميت معدودات لقلتها.
{فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} الآية هذه في أيام التشريق
الأيام: يوم العاشر من ذي الحجة وهو يوم النحر له أعماله في الحج، ويقال له: يوم النحر، ثم اليوم الثاني يوم الحادي عشر من ذي الحجة، وهو يوم التشريق الأول يقال له: يوم القر، ثم اليوم الثاني من أيام التشريق وهو يوم الثاني عشر من ذي الحجة، ويقال له يوم النفر الأول، ثم الذي بعده يوم النفر الثاني.
والمراد بالنفر من منى الخروج منها بعد إنهاء نسكها.
الآن نعود إلى الآية: الحاج الذي يريد أن ينفر من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق، له ذلك ولا إثم عليه، لذلك سمي يوم النفر الأول، وذلك أنه على الحاج أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق، ويرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، عند كل جمرة بسبع حصيات، ثم كل من يرمي اليوم الثاني من أيام التشريق وأراد أن ينفر فيدع البيتوتة الليلة الثالثة؛ فله ذلك، فلا يبيت ولا يرمي لليوم الثالث؛ لقوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث ثم ينفر.
{ومن تأخر فلا إثم عليه} أي من تأخر إلى اليوم الثالث في منى لرمي الجمرات فلا إثم عليه.
{لمن اتقى} أي: لمن اتقى أن يصيب في حجه شيئا نهاه الله عنها. {واتقوا الله} ما أكثر ما يأمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى في كتابه العزيز؛ لأن التقوى اتخاذ وقاية من عذاب الله عزّ وجلّ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه على علم وبصيرة.
{واعلموا أنكم إليه تحشرون} أي تُجمَعون إلى الله تبارك وتعالى؛ وذلك يوم القيامة؛ تجمعون ويجزيكم بأعمالكم، وصدر هذا بقوله تعالى: {واعلموا} للتنبيه على أنه لا بد من الإيمان بهذا الحشر، والاستعداد له.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)}
قسم الناس هنا إلى قسمين: إلى مؤمن؛ وإلى منافق؛ فقال تعالى في المنافق: {ومن الناس} أي بعض الناس {من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} أي: تستحسنه ويعظم في قلبك، ويقال في الاستحسان: أعجبني كذا، وفي الكراهية والإنكار: عجبت من كذا.
أي بعض الناس تستحسن قوله إذا تكلم {في الحياة الدنيا} أي إذا تكلم فيما يتعلق بأمور الدنيا؛ كأن يتكلم بشيء، ويتوصل به إلى نجاته من القتل، والسبي؛ لأن هذه الآية في المنافقين؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} [المنافقون: 4] من حسنه، وفصاحته؛ ولكنهم أهل غرور، وخداع، وكذب؛ فإن آية المنافق ثلاث؛ منها: إذا حدث كذب.
{ويشهد الله على ما في قلبه} أي يُقسم، ويحلف بالله أنه مؤمن مصدق، وأن الذي في قلبه هو هذا؛ فيشهد الله على ما في قلبه من محبة الإيمان، والتمسك به وهو كاذب في ذلك، وحقيقته قال الله تعالى فيه: {وهو أَلَدُّ الْخِصَامِ} أي شديد الخصومة، قال قتادة: شديد القسوة في المعصية، جَدِل بالباطل يتكلم بالحكمة، ويعمل بالخطيئة.
{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)}
{وإذا تَوَلَّى} أي: أدبر وأعرض عنك {سعى في الأرض} أي: عمل فيها، وقيل: سار فيها ومشى {ليفسد فيها} أي بالمعاصي، والكفر، والفتنة.
{ويهلك الحرث والنسل} أي يكون سبباً لإهلاكهما؛ لأن المعاصي سبب لذلك، والمراد بـ {الحرث} المحروث؛ وهو الزروع؛ والمراد بـ {النسل} الأولاد سواء كانوا من الناس أم من الحيوانات؛ يعني: يكون سعيه سبباً لفساد الحرث، والحيوانات.
{والله لا يحب الفساد} بيان أن عمله هذا مكروه إلى الله؛ لأن الله لا يحب الفساد؛ وإذا كان لا يحب هذا الفعل فإنه لا يحب من اتصف به؛ ولهذا جاء في آية أخرى؛ {والله لا يحب المفسدين} [المائدة: 64]؛ فالله لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين؛ فالفساد نفسه مكروه إلى الله؛ والمفسدون أيضاً مَكروهون إليه لا يحبهم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}
{وإذا قيل له اتق الله} أي خف الله، اتخذ وقاية من عذاب الله بترك الكفر، والفساد {أخذته العزة بالإثم} أي العزة وهي الأنفة والحمية والترفع؛ حملته على الإثم، و{العزة} قد تكون وصفاً محموداً؛ وقد تكون وصفاً مذموماً، فالمعتز بدينه محمود، كما قال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] ؛ والمعتز بحسبه ونسبه حتى يكون عنده أنفة إذا أُمر بالدين والإصلاح؛ مذموم.
والمراد بـ{الإثم} الذنب الموجب للعقوبة؛ فكل ذنب موجب للعقوبة فهو إثم.
{فحسبه} أي كافيه {جهنم} وهو وعيد له بها، «الحسْب» بمعنى الكافي، كما قال الله تعالى: {فقل حسبي الله} [التوبة: 129] أي كافيني؛ وقال تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173] أي كافينا؛ فقوله تعالى؛ {فحسبه جهنم} أي كافيته؛ والمعنى: أنه يكون من أهلها، و{جهنم} اسم من أسماء النار التي أعدها الله سبحانه وتعالى للكافرين؛ وسميت بذلك لبعد قعرها، وظلمتها
{ولبئس المهاد} المهاد: الفراش، أي: ولبئس المهاد مهاده، حيث كانت جهنم.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}
لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة في الآيات السابقة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة.
قال ابن عثيمين رحمه الله: لما ذكر الله حال المنافقين الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا وهم ألد الخصام؛ والذين إذا تولوا سعوا في الأرض فساداً ليهلكوا الحرث، والنسل - والله لا يحب الفساد -؛ ذكر حال قوم على ضدهم؛ وهكذا القرآن مثاني تثَنَّى فيه الأمور؛ فيؤتى بذكر الجنة مع النار؛ وبذكر المتقين مع الفجار؛ لأجل أن يبقى الإنسان في روضة متنوعة؛ ثم ليبقى الإنسان بين الخوف، والرجاء، لا يغلب عليه الخوف فيقنط من رحمة الله؛ ولا الرجاء فيأمن مكر الله؛ فإذا سمع ذكر النار، ووعيدها، وعقوبتها أوجب له ذلك الخوف؛ وإذا سمع ذكر الجنة، ونعيمها، وثوابها أوجب له ذلك الرجاء؛ فترتيب القرآن من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى؛ وهو الموافق لإصلاح القلوب. انتهى المراد
وأخرج الحاكم في مستدركه عن عكرمة قال: لما خرج صهيب مهاجراً تبعه أهل مكة، فنثل كنانته، فأخرج منها أربعين سهماً، فقال: لا تصلون إليَّ حتى أضع في كل رجل منكم سهما، ثم أصير بعده إلى السيف، فتعلمون أني رجل، وقد خلفت بمكة قينتين فهما لكم. قال: وحدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس نحوه، ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} الآية، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبا يحيى ربح البيع" قال وتلا عليه الآية.
فعلى هذا فهذه الآية نزلت في صهيب الرومي؛ لأنه دفع ماله مقابل أن ينجو بدينه، لرضا اللهِ تبارك وتعالى.
ولكن كما تعلمون القاعدة تقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أي وإن كانت نزلت في صهيب رضي الله عنه، ولا شك أنه داخل في هذا الفضل إلا أنها عامة لكل مجاهد في سبيل الله، فالمجاهد يقدم نفسه وماله لرضا الله تبارك وتعالى.
قال تعالى: {ومن الناس} أي بعض الناس {من يشري نفسه} أي يبيعها؛ لأن «شرى» بمعنى باع، كقوله تعالى: {وشروه بثمن بخس} [يوسف: 20] أي باعوه بثمن بخس؛ أما «اشترى» فهي بمعنى ابتاع؛ فإذا جاءت التاء فهي للمشتري الآخذ؛ وإذا حذفت التاء فهي للبائع المعطي؛ و {نفسه} يعني ذاته.
{ابتغاء مرضات الله} أي طلباً لمرضات الله، و {مرضات الله} أي رضوانه أي يبيع نفسه في طلب رضا الله عزّ وجلّ؛ فيكون قد باع نفسه مخلصاً لله في هذا البيع.
{والله رؤوف} أي ذو رأفة؛ و «الرأفة» قال العلماء: هي أرق الرحمة، وألطفها؛ و {بالعباد} أي جميعهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)}
{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} السلم: الإسلام.
وكافة: يعني جميعاً.
يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله: أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك.
فقوله (ادخلوا في السلم)؛ أي في الإسلام، و(كافة) أي جميعه، والمعنى: ادخلوا في جميع جوانب الإسلام، ولا تترك من شريعته شيئاً.
وعلى النقيض من هذا ما يفعله الكثير ممن ينتسب إلى الإسلام اليوم، يأخذ من الإسلام بما يوافق هواه، ويترك غيره، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وهذا من اتباع خطوات الشيطان التي نهى عنها، فعملوا بخلاف ما أمروا.
وكثير من العامة اليوم يعتبرون من يعمل بهذه الآية متشدداً؛ لأنه يخالف هواهم، ويخالف ما تربوا عليه من جهل وعدم تقيد بإحكام الله، فلا تسمعوا لهم ولا تبالوا بهم، ولا تسمحوا لأقوالهم أن تؤثر على قلوبكم، فقد لبس عليهم إبليس واتبعوا خطواته.
{ولا تتبعوا خطوات الشيطان} نهي بعد أمر؛ لأن اتباع خطوات الشيطان يخالف الدخول في السلم كافة، فلا نمشي خلفه وعلى طريقه في مخالفة شرع الله، و{خطوات} جمع خُطوة؛ و «الخطوة» في الأصل هي ما بين القدمين عند مدِّهما في المشي.
لماذا نهينا عن اتباع خطواته، قال: {إنه لكم عدو مبين} أي لأن الشيطان شديد العداوة لبني آدم؛ والعدو من يبتغي لك السوء؛ وهو ضد الوليّ؛ و {مبين} أي بيِّن العداوة؛ ظاهر العداوة لنا.
والمعنى في النهي عن اتباع خطواته، النهي عن طريقه وأثره فيما دعا إليه، مما هو خلاف طاعة الله تعالى ذكره.
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}
{فإن زللتم} أي ضللتم وملتم عن الحق {من بعد ما جاءتكم البينات} أي من بعد ما جاءتكم الآيات البينات، أي الأدلة الواضحة. قال عدد من أهل التفسير: إن البينات هي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
{فاعلموا أن الله عزيز حكيم} فاعلموا أن الله ذو عزة؛ فاحذروه، فالعزيز الغالب القاهر، وبناء عليه فلا يمنعه من الانتقام منكم مانع، ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكم أمره ومعصيتكم إياه؛ دافع، حكيم فيما يفعل بكم من عقوبته على معصيتكم إياه بعد إقامته الحجة عليكم، وفي غيره من أموره.
وذكر أهل العلم أن «العزيز» له ثلاثة معانٍ: عزة قدْر؛ وعزة قهر؛ وعزة امتناع؛ فعزة القدر؛ أي أنه عزّ وجلّ عظيم القدر؛ لقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} [الزمر: 67] الآية؛ أما عزة القهر فمعناها الغلبة، أي أنه سبحانه وتعالى غالب لا يغلبه شيء؛ وهذا أظهر معانيها؛ وأما عزة الامتناع فمعناها أنه يمتنع أن يناله السوء.
وأما «الحكيم» أي ذو الحكم، والحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه المناسب.
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}
{هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} الاستفهام هنا بمعنى النفي؛ و {ينظرون} بمعنى ينتظرون؛ أي ما ينتظر هؤلاء التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان؛ إلا أن يأتيهم الله ..إلخ
وينظرون: تأتي بمعنى النظر بالعين؛ فإن عديت بـ «إلى» فهي للنظر بالعين؛ وإن لم تعدّ فهي بمعنى الانتظار.
{إلا أن يأتيهم الله} أي يأتيهم الله نفسه؛ ليفصل بين عباده بالقضاء العدل، يأتيهم نفسه تبارك وتعالى، هذا ظاهر الآية، ويجب المصير إليه؛ لأن كل فعل أضافه الله إليه فهو له نفسه؛ ولا يعدل عن هذا الظاهر إلا بدليل من عند الله.
{في ظلل من الغمام} الظلل: جمع ظلة، وهي ما أظلك {في} معناها «مع»؛ يعني يأتي مصاحباً لهذه الظلل؛ وإنما أخرجناها عن الأصل الذي هو الظرفية؛ لأنا لو أخذناها على أنها للظرفية صارت هذه الظلل محيطة بالله عزّ وجلّ؛ والله أعظم، وأجلّ من أن يحيط به شيء من مخلوقاته.
{الغمام} وهو السحاب الأبيض الرقيق، لكن ليس كسحاب الدنيا؛ فالاسم هو الاسم؛ ولكن الحقيقة غير الحقيقة؛ لأن المسميات في الآخرة، وإن شاركت المسميات في الدنيا في الاسم؛ إلا أنها تختلف مثلما تختلف الدنيا عن الآخرة.
{والملائكة} يعني: وتأتيهم الملائكة أيضاً محيطة بهم.
{وقضي الأمر} {الأمر} بمعنى الشأن؛ أي قضي شأن الخلائق، وانتهى كل شيء، وصار أهل النار إلى النار، وأهل الجنة إلى الجنة.
{وإلى الله ترجع الأمور} أي إلى الله وحده لا إلى غيره ترجع الأمور؛ أمور الدنيا والآخرة، أي شؤونهما كلها: الدينية، والدنيوية، والجزائية، وكل شيء، ومنها أن الناس يرجعون يوم القيامة إلى ربهم، فيحاسبهم.