تفسير سورة البقرة 243- 245
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)}
{ألم تر} أي: ألم تعلم أيها الرسول، وهو من رؤية القلب، بمعنى العلم، لا رؤية العين.
الاستفهام هذا استفهام تعجبي، والاستفهام التعجبي: هو إيقاع المخاطب في أمر عجيب غريب.
وهذا أسلوب عربي، ولا يزال هذا الأسلوب مستعملاً عند العرب اليوم، يقولون: شفت -أي رأيت- ماذا فعل فلان؟! أي فعل فعلاً يُتعجب منه، وبهذا الأسلوب يشوقك لسماع الكلام.
{إلى الذين خرجوا} لم يبين الله عزّ وجلّ مَن هؤلاء الذين خرجوا، فقيل: إنهم من بني إسرائيل؛ وقيل: إنهم من غيرهم، ولو كان مهماً لنا لأخبرنا بهم، فالمهم هي الحادثة {من ديارهم} أي من بيوتهم، وأحيائهم التي يأوون إليها {وهم ألوف} أي عددهم بالألوف، جمع ألف، فقيل: إنهم أربعة آلاف، وقيل أربعون ألفاً، والله أعلم بهم، المهم أنهم كثر، ألوف { حَذَرَ الْمَوْتِ } يعني خرجوا خوفاً من الموت، لأنهم خرجوا من ديارهم خوفاً من الموت، قيل لوباء وقع في البلاد، قال كثير من المفسرين وقع في أرضهم الطاعون، فخرجوا فراراً من قدر الله، فأراد الله عزّ وجلّ أن يريهم أنه لا مفر منه إلا إليه، وقال البعض فروا من الجهاد في سبيل الله، لا يريدون القتال، والله أعلم، المهم أنهم فروا خوفاً من الموت.
{فقال لهم الله موتوا} أي قال لهم قولاً كونياً، كقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] {ثم أحياهم} «ثم» تدل على التراخي، وأن الله سبحانه وتعالى أحياهم بعد مدة؛ ليُري العباد آياته.
{إن الله لذو فضل على الناس} «ذو» بمعنى صاحب؛ و «الفضل» بمعنى العطاء، والتفضل، أي إن الله صاحب عطاء وتفضل على الناس {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} أي لا يقومون بشكر الله عزّ وجلّ حين يتفضل عليهم؛ و «الشكر» طاعة المتفضل.
قال ابن كثير: وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، ولهذا قال: {إن الله لذو فضل على الناس} أي فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} أي لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم. وفي هذه القصة عبرة ودليل، على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فرارا من الوباء، طلبا لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم، وجاءهم الموت سريعا في آن واحد. انتهى
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}
قال ابن كثير: "أي كما أن الحذر لا يغني من القدر، كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه، لا يقرِّب أجلاً ولا يبعده، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مُقنَّن لا يزاد فيه ولا يُنقص منه".
وذكر ما قاله خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقال: "وروينا عن أمير الجيوش، ومُقدَّمِ العساكر، وحامي حَوزةَ الإسلام، وسيفِ الله المسلولِ على أعدائه، أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، أنه قال، وهو في سياق الموت: "لقد شهدت كذا وكذا موقفاً، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رميةٌ أو طعنةٌ أو ضربةٌ، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء" يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلاً في الحرب، ويتأسف على ذلك، ويتألم أن يموت على فراشه". انتهى
{وقاتلوا} أي: قاتلوا في سبيل الله الكفار الذين يقاتلونكم، كما في قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] {في سبيل الله} قال ابن عثيمين رحمه الله: أي في الطريقة الموصلة إليه - وهي شريعته -؛ وهذا يشمل النية، والعمل؛ أما النية فأن يكون الإنسان قاصداً بقتاله أن تكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه؛ أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
وأما العمل فأن يكون جهاده على وفق الشرع.
{واعلموا أن الله سميع عليم} أي سميع لأقوالكم؛ عليم بأحوالكم؛ وختم الله هذه الآية بالأمر بعلمنا بأن الله سميع عليم تحذيراً من المخالفة، وترغيباً في الموافقة؛ فنقوم بما أوجب علينا، ونجتنب ما حرم علينا.
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}
{مَنْ ذَا الَّذِي} هذا الاستفهام بمعنى التشويق، والحث؛ يعني: أين الذي يقرض الله؟ فليتقدم.
{يقرض الله} القرض: اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليُجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما أعد لهم من الثواب؛ قرضاً؛ لأنهم يعملونه لطلب ثوابه.
والمراد الإنفاق في سبيل الله.
{فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} أي يجازيه الله جزاء مضاعفاً على قرضه ونفقته ما لا حد له ولا نهاية.
{والله يقبض ويبسط} فيها قراءتان: بالسين؛ وبالصاد؛ و «القبض» هو التضييق؛ وهو ضد البسط؛ و «البسط» هو التوسيع؛ فهو الذي بيده القبض، والبسط؛ ويعم كل شيء، فيقبض في الرزق ويبسط؛ وفي العلم، وفي العمر، وفي كل ما يتعلق في الحياة الدنيا، وفي الحياة الآخرة، هكذا قال ابن عثيمين.
وقال الطبري: أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها، دون غيره، ممن ادعى أهل الشرك به، أنهم آلهة واتخذوه رباً دونه يعبدونه.
{وإليه ترجعون} أي: إلى الله تعودون فيجزيكم بأعمالكم.