تفسير سورة البقرة الآيات 255- 256
{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
هذه الآية هي آية الكرسي، وهي أعظم آية في كتاب الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أخرج مسلم في صحيحه عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟» قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟» قَالَ: قُلْتُ: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: «وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ». أي ليكن العلم هنيئا لك، فهو إخبار بأنه راسخ في العلم ومجيد فيه.
ولهذا من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، كما جاء في الحديث أن الشيطان قال لأبي هريرة: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، ذَاكَ شَيْطَانٌ» أخرجه البخاري، وآية الكرسي مشتملة على عشر جمل، كل جملة لها معنى عظيم جداً.
{الله} اسم رب العالمين تبارك وتعالى، وهو من الأسماء التي تختص به تبارك وتعالى، لا يشاركه فيها غيره، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه اسم الله الأعظم، وهو بمعنى المألوه المعبود {لا إله} أي لا معبود بحق {إلا هو} أي إلا الله.
إله بمعنى مألوه؛ و «المألوه» بمعنى المعبود حباً وتعظيماً؛ ولا أحد يستحق هذا الوصف إلا الله سبحانه وتعالى، والآلهة المعبودة كلها لا تستحق العبادة، وهي تسمى آلهة لأنها عبدت؛ لكنها لا تستحق ذلك، الذي يستحقه هو رب العالمين الذي خلق الخلق، كما قال تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم}، وقال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل}، فهو المعبود بحق، وغيره عبد بغير حق.
فهذه الآية تخبرك أن الذي يستحق أن يعبد هو الله تبارك وتعالى لا غيره.
قال أهل العلم: فهذه الجملة العظيمة تدل على نفي الألوهية الحق نفياً عاماً قاطعاً إلا لله تعالى وحده. انتهى
{الحي القيوم} هذان اسمان من أسمائه تعالى {الحي} ذو الحياة الكاملة، التي لم تسبق بعدم، ولا يلحقها فناء، و{القيوم} هو القائم على نفسه فلا يحتاج إلى أحد من خلقه؛ والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه.
{لا تأخذه سنة ولا نوم} السنة النعاس، وهو مقدمة النوم، أي لا يعتريه نعاس، ولا نوم، وهذا لكماله تبارك وتعالى، ومن كمال حياته.
{له ما في السماوات وما في الأرض} أي كل ما في السماوات والأرض ملك له وحده، فكل شيء ملك له تبارك وتعالى، وهذا من كمال مُلكه تبارك وتعالى.
قال الطبري رحمه الله: يعني تعالى ذكره بقوله: "له ما في السماوات وما في الأرض" أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود.
وإنما يعنى بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه؛ لأن المملوك إنما هو طوع يد مالكه، وليس له خدمةُ غيره إلا بأمره. يقول: فجميع ما في السماوات والأرض ملكي وخلقي، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه، ولا يطيع سوى مولاه. انتهى
{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} هذا استفهام يراد به النفي، أي لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه تبارك وتعالى.
و «الشفاعة» في اللغة: جعل الوتر شفعاً؛ وفي الاصطلاح: التوسط للغير لجلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يقضي الله بينهم بعدما يلحقهم من الهمّ، والغمّ ما يشق عليهم: شفاعة لدفع مضرة؛ وشفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة: شفاعة في جلب منفعة.
{إلا بإذنه} أي إلا إذا أذن في هذه الشفاعة، حتى أعظم الناس جاهاً عند الله لا يشفع إلا بإذن الله؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهو أعظم الناس جاهاً عند الله، ومع ذلك لا يشفع إلا بإذن الله لكمال سلطانه تبارك وتعالى.
قال الطبري: وإنما قال ذلك تعالى ذكره؛ لأن المشركين قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى! فقال الله تعالى ذكره لهم: لي ما في السماوات وما في الأرض مع السماوات والأرض مُلكا، فلا تنبغي العبادة لغيري، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه، والشفاعة لمن يشفع له، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي. انتهى
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} وهذا لكمال علمه تبارك وتعالى، {يعلم ما بين أيديهم} أي الذي أمامهم، قال بعض السلف: الدنيا {وما خلفهم} أي الذي وراءهم، قال بعض السلف: الآخرة. فهو يعلم كل شيء تبارك وتعالى.
{ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} لها معنيان؛ المعنى الأول: لا يحيطون بشيء من علم نفسه؛ أي لا يعلمون عن الله سبحانه وتعالى من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، إلا بما شاء أن يُعلِّمهم إياه، فيعلمونه.
والمعنى الثاني: ولا يحيطون بشيء من معلومه - أي مما يعلمه في السماوات، والأرض - إلا بما شاء أن يُعلِّمهم إياه، فيعلمونه.
{وسع كرسيه السماوات والأرض} أي شمل، وأحاط، كما يقول القائل: وسعني المكان؛ أي شملني، وأحاط بي؛ و «الكرسي» قال ابن عباس: هو موضع قدمي الله عز وجل. انتهى وهو بين يدي العرش كالمقدمة له.
وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الكرسي موضع قدمي الله عز وجل، وهو غير العرش، العرش أكبر.
{ولا يؤوده} أي لا يُثقله، لا يشق عليه {حفظهما} أي حفظ السماوات، والأرض {وهو العلي العظيم} أي هو وحده العلي، أي ذو العلو المطلق، وهو الارتفاع فوق كل شيء، علو ذات وعلو صفات بمعنى الكمال بمعنى المنزلة، و{العظيم} أي ذو العظمة وهي القوة والكبرياء وما أشبه ذلك، العظمة في ذاته، وسلطانه، وصفاته.
فآية الكرسي كما ترون كلها تثبت كمال الله تبارك وتعالى وعظمته وتدعو إلى توحيده؛ لذلك كانت أعظم آية في كتاب الله. والله أعلم
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}
{لا إكراه في الدين} هذه الجملة نفي؛ لكنها بمعنى النهي، أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في الدين.
يبين هذا المعنى سبب النزول، أخرج أبو داود في سننه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مِقْلَاتًا فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة: 256] " قَالَ أَبُو دَاوُدَ: " الْمِقْلَاتُ: الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ ". انتهى
وعند ابن حبان قال فيه: "فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ إِذَا فِيهِمْ نَاسٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْنَاؤُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: «{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}» قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَمَنْ شَاءَ لَحِقَ بِهِمْ، وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ. انتهى
و«الإكراه» الإرغام على الشيء.
وقوله تعالى: {في الدين} «الدين» يطلق على العمل؛ ويطلق على الجزاء، والمراد بـ «الدين» هنا العمل؛ والمراد به دين الإسلام.
{قد تبين} أي اتضح وظهر بالأدلة الواضحة الصريحة {الرشد} أي الإسلام دين الحق {من الغي} أي من الكفر، فتميز دين الحق عن الباطل.
قال ابن كثير: أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً. انتهى
قال ابن عثيمين رحمه الله: وتَبَيُّن الرشد من الغي بعدة طرق:
أولاً: بالكتاب؛ فإن الله سبحانه وتعالى فرَّق في هذا الكتاب العظيم بين الحق، والباطل؛ والصلاح، والفساد؛ والرشد، والغي، كما قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} [النحل: 89] فهذا من أقوى طرق البيان.
ثانياً: بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها بينت القرآن، ووضحته؛ ففسرت ألفاظه التي تشكل، ولا تعرف إلا بنص؛ وكذلك وضحت مجملاته، ومبهماته؛ وكذلك بينت ما فيه من تكميلات يكون القرآن أشار إليها، وتكملها السنة، كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44].
الطريق الثالث: هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وسلوكه في عبادته، ومعاملته، ودعوته؛ فإنه بهذه الطريقة العظيمة تبين للكفار، وغير الكفار حسن الإسلام؛ وتبين الرشد من الغيّ.
الطريق الرابع: سلوك الخلفاء الراشدين؛ وفي مقدمتهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ؛ فإن بطريقتهم بان الإسلام، واتضح؛ وكذلك من كان في عصرهم من الصحابة على سبيل الجملة لا التفصيل؛ فإنه قد تبين بسلوكهم الرشد من الغي.
هذه الطرق الأربع تبين فيها الرشد من الغي؛ فمن دخل في الدين في ذلك الوقت فقد دخل من هذا الباب؛ ولم يصب من قال: إن الدين انتشر بالسيف، والرمح. انتهى
{فمن يكفر بالطاغوت} الكفر ضد الإيمان {فمن يكفر بالطاغوت} أي من ينكره، ويتبرأ منه، و «الطاغوت» كل ما عبد من دون الله وهو راض فهو طاغوت.
ولا يكفي الكفر بالطاغوت، حتى يؤمن بالله {ويؤمن بالله} قال ابن عثيمين: والإيمان بالله متضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده؛ والإيمان بربوبيته؛ والإيمان بألوهيته؛ والإيمان بأسمائه، وصفاته إيماناً يستلزم القبول، والإذعان، القبول للخبر، والإذعان للطلب، سواء كان أمراً، أو نهياً؛ فصار الإيمان بالله مركباً من أربعة أمور مستلزمة لأمرين؛ ثم اعلم أن معنى قولنا: الإيمان بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته المراد الإيمان بانفراده بهذه الأشياء: بالألوهية؛ والربوبية؛ والأسماء، والصفات؛ وبالوجود الواجب - فهو سبحانه وتعالى منفرد بهذا بأنه واجب الوجود. انتهى
قال ابن كثير: أي من خلع الأنداد والأوثان، وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحد الله فعبده وحده، وشهد أنه لا إله إلا هو؛ فقد استمسك بالعروة الوثقى أي فقد ثبت في أمره، واستقام على الطريق المثلى، والصراط المستقيم. انتهى
{فقد استمسك} أي فمن كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد تمسك تمسكاً بالغاً {بالعروة الوثقى} أي المقبض القوي الذي ينجو به، فسر السلف العروة الوثقى: بالإيمان، والإسلام، ولا إله إلا الله، والقرآن، والحب والبغض في الله، وكلها تفاسير صحيحة يؤدي بعضها إلى بعض، ولا تعارض بينها {لا انفصام لها} أي لا انقطاع، ولا انفكاك لها؛ لأنها محكمة قوية {والله سميع} لدعائك إياهم إلى الإسلام {عليم} بحرصك على إيمانهم.
فهذه الآية تدعو إلى الإيمان بالله وحده، والكفر بكل ما يعبد من دونه تبارك وتعالى.