تفسير سورة البقرة الآيات 257-258
{اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}
{الله ولي الذين آمنوا} أي متوليهم؛ والمراد بذلك الولاية الخاصة، ومعنى الولي المحب والناصر والمعين، فهو يتولى نصرتهم وإعانتهم {يخرجهم من الظلمات إلى النور} أي يخرجهم من الكفر إلى الإيمان، سمي الكفر ظلمة لالتباس طريقه، وسمي الإسلام نورا لوضوح طريقه، وأفرد {النور} لأن الحق واحد، وجمع {الظلمات} لأن الكفر أجناس كثيرة ولكنها باطلة؛ كقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153]
{والذين كفروا} أي كفروا بكل ما يجب الإيمان به سواءً كان كفرهم بالله، أو برسوله، أو بملائكته، أو باليوم الآخر، أو بالقدر، أو غيرها مما يجب الإيمان به {أولياؤهم} أي نصراءهم ومعينيهم {الطاغوت} كل ما عبد من دون الله وهو راض، وقال بعض أهل العلم: الشياطين {يخرجونهم من النور إلى الظلمات} قال أهل العلم: هذا فيه إشكال؛ لأن ظاهره: الذين آمنوا أولاً، فدخلوا في النور، ثم كفروا، فخرجوا منه، مع أنه يشمل الكافر الأصلي الذين لم يدخل في الإيمان مطلقاً، فكيف يقال يخرجونهم من النور وهم لم يدخلوا فيه أصلاً؟ فأجابوا: أن منعهم إياهم من الدخول فيه: إخراج، كما يقول الرجل لأبيه: أخرجتني من مالك، ولم يكن فيه، وكما قال الله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام:
{إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله}، ولم يكن قط في ملتهم. والله أعلم
{أولئك} أي الذين كفروا {أصحاب النار} أهلها الملازمون لها {هم فيها خالدون} أي لا يخرجون منها أبداً.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}
{ألم تر} الهمزة للاستفهام؛ والمراد به هنا التقرير، والتعجيب؛ «التقرير» يعني تقرير هذا الأمر، وأنه حاصل، و «التعجيب» معناه: دعوة المخاطَب إلى التعجب من هذا الأمر العجيب الغريب الذي فيه المحاجة لله عز وجل {تر} أي تنظر نظر قلب، بمعنى العلم؛ لأنه لم يدرك زمنه حتى يراه بعينه، والخطاب في قوله تعالى: {ألم تر} للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: هل انتهى إليك يا محمد خبر الذي حاج إبراهيم، أو هل رأيت مثل هذا؟ {إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} ذكر «إبراهيم» في الآية ثلاث مرات؛ وفيها قراءتان: {إبراهيم} ، و {إبراهام} ؛ وهما من القراءات السبع، و {حاج} أي خاصم وجادل، وأدلى كل واحد بحجته؛ و «الحجة» هي الدليل، والبرهان، و {في ربه} أي في وجوده، فإبراهيم يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا ينكر وجوده، كما أنكره من بعده فرعون.
{أن آتاه الله الملك} أي حاج إبراهيم لكونه أُعطي مُلكاً لا ينازعه أحد في مملكته فطغى، ولا يعنينا أن نعرف اسمه: أهو «نُمرود بن كنعان» أم غيره، فلا يثبت في ذلك شيء، المهم القصة.
{إذ قال إبراهيم رَبِّيَ الذي يحيي ويميت} هذا بيان المُحاجة، أي ما جرى بينهما من مجادلة، وقول إبراهيم هذا جواب لسؤال غير مذكور يدل عليه الجواب؛ كأن الملك المعاند قال لإبراهيم: من ربك؟ فقال: {رَبِّيَ الذي يحيي ويميت} ومعنى «الرب» الخالق المالك المدبر، وهذه الأوصاف لا تثبت على الكمال والشمول إلا لله عز وجل، و{يحيي ويميت} يعني بذلك: ربي الذي بيده الحياة والموت يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء، فقال المعاند المكابر {أنا أحيي وأميت} قالها تلبيساً كما قاله أكثر المفسرين، قالوا: إنه أتى باثنين، فقتل أحدَهما، وأبقى الآخر، فقال: «أَمَتُّ الأول، وأحييت الثاني» ؛ هذا هو المعروف عند السلف؛ وعلى هذا فيكون قوله: {أنا أحيي وأميت} تلبيساً، والحقيقة أنه ما أحيا، ولا أمات هنا، وإنما فعل ما يكون به الموت في دعوى الإماتة، واستبقى ما كان حياً في دعواه الإحياء، فلم يوجِد حياة من عنده.
فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى ليغلق عليه باب المجادلة ويمنعه من التلبيس، مع أن حجته كانت لازمة وقوية؛ لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت، فكان له أن يقول: فأحيي من أَمتَّ إن كنت صادقاً، ولكنه انتقل إلى حجة أخرى لا مجادلة فيها ولا تلبيس، فقال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر} أي تحير، واندهش، ولم يحرِ جواباً، فانقطعت حجته؛ فغلب إبراهيمُ المعاندَ الذي كفر {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يبطلون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة؛ لأن أهل الباطل حججهم داحضة باطلة.
والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، والكافر وضع ما كفر به في غير موضعه، فهو بذلك ظالم لنفسه. انتهى