تفسير سورة البقرة الآيات 270-274
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)}
{وما أنفقتم من نفقة} أي أيّ شيء تنفقونه من قليل أو كثير فإن الله يعلمه {أو نذرتم من نذر} أي أوجبتم على أنفسكم من طاعة، مثل أن يقول القائل: «لله عليّ نذر أن أتصدق بكذا» أو «أن أصوم كذا»؛ {فإن الله يعلمه} وذِكر العلم يستلزم أن الله يجازيهم، فلا يضيع عند الله عز وجل، أي إن الله يجازيكم على كل نفقة تنفقونها ونذر طاعة تنذرونه وتوفون به، والنذر أن تلزم نفسك بطاعة لم يلزمك الله بها، كأن تنذر أن تصوم كل يوم اثنين صار لازما عليك بما ألزمت نفسك به، والله تبارك وتعالى يثيبك على التزامك بالنذر.
{وما للظالمين} أي وما للمانعين ما يجب إنفاقه، أو الوفاء به من النذور، أو الواضعين الصدقة في غير موضعها بالرياء، هؤلاء هم الظالمون هنا {من أنصار} أي ما لهؤلاء من أنصار أي أعوان، ينصرونهم فيمنعون عنهم العذاب.
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
{إن تبدوا الصدقات} أي تظهروها {فنعمَّا هي} أي: نعم الشيء هي {وإن تخفوها} أي تصدَّقوا سراً {وتؤتوها الفقراء} أي تعطوها المعدمين، وذكر {الفقراء} هنا على سبيل المثال {فهو خير لكم} أي من إظهارها، وكله مقبول بالإظهار والإسرار إذا كانت النية صادقة، ولكن صدقة السر أفضل؛ لأنها أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية، وقال أهل العلم هذا في التطوع أما الفرائض فالأفضل إظهارُها، قال ابن جرير الطبري: "فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره، سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها، مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية حكم سائر الفرائض غيرها. انتهى
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذاتُ منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
{ويكفر عنكم من سيئاتكم} أي يمحو بعض سيئاتكم ويسترها عليكم مقابل الصدقات، فالصدقة تكفر الذنوب {سيئاتكم} جمع سيئة، والمراد الذنوب الصغائر، فالكبائر لا تكفرها سوى التوبة.
{والله بما تعملون خبير} والله بما تعملون في صدقاتكم من إظهارها وإسرارها وغير ذلك من أعمالكم؛ عليم لا يخفى عليه شيء مما تعملون وسيجزيكم عليه.
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)}
{ليس عليك هداهم} الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم و {هداهم} الضمير يعود على بني آدم؛ والهدى المنفي هنا هدى التوفيق، وأما هدى البيان فهو على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] ؛ ولقوله تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48] ، {فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر} [الغاشية: 21، 22] ، وقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرعد: 40] ... إلى آيات كثيرة تدل أن على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهدي الناس هداية الدلالة، والإرشاد، أما هداية التوفيق فليست على الرسول، ولا إلى الرسول؛ لا يجب عليه أن يهديهم؛ وليس بقدرته ولا استطاعته أن يهديهم، ولو كان بقدرته أن يهديهم لهدى عمه أبا طالب، ولكنه لا يستطيع ذلك؛ لأن هذا إلى الله سبحانه وتعالى وحده.
{ولكن الله يهدي من يشاء} وهذا كالاستدراك لما سبق؛ أي لمّا نفى كون هدايتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك إلى الله عز وجل وحده، فيهدي من يشاء ممن اقتضت حكمته هدايته.
وسبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا ينفقون على قراباتهم من الكفار قبل الإسلام، فلما أسلموا امتنعوا كي يضطر الكفار للدخول في الإسلام من أجل النفقة، فأنزل الله هذه الآية.
أخرج النسائي وغيره عن ابن عباس، قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا فرخص لهم، فنزلت هذه الآية {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}.
وفي رواية عند ابن جرير عن ابن عباس قال: كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين فنزلت {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
وفي رواية عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بأن لا يُتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية {ليس عليك هداهم..} إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين. انتهى
قال الطبري: يعني تعالى ذكره بذلك: ليس عليك يا محمد هديُّ المشركين إلى الإسلام، فتمنعهم صدقة التطوع، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له، فلا تمنعهم الصدقة. انتهى
{وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} أي: وليس لله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى لا ينتفع به، بل لأنفسكم تقدمونه فأنتم من ينتفع به، وما لا تنفقونه فقد حرمتم أنفسكم، والمراد بـ «الخير» كل ما بذل لوجه الله عز وجل.
{وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} يعني: لا تنفقون إنفاقاً ينفعكم إلا ما ابتغيتم به وجه الله؛ فأما ما ابتغي به سوى الله فلا ينفع صاحبه؛ بل هو خسارة عليه.
{إلا ابتغاء وجه الله} أي إلا طلب وجه الله.
{وما تنفقوا من خير يوف إليكم} يعني: أيَّ خير تنفقونه قليلاً كان أو كثيراً يوف إليكم؛ أي: تُعطَونه وافياً من غير نقص؛ بل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
{وأنتم لا تظلمون} أي: لا تنقصون شيئاً منه.
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}
في هذه الآية بيان لمصرف الإنفاق؛ كأن سائلاً يسأل: إلى أين نصرف هذا الخير؟ فقال تعالى: {للفقراء الذين أحصروا}، و {الفقراء} جمع فقير؛ و«الفقير» هو الذي لا يجد كفايته {الذين أحصروا في سبيل الله} أي منعوا من الخروج من ديارهم {في سبيل الله} أي في شريعته {لا يستطيعون ضرباً في الأرض} أي لا يقدرون على السفر لقلة ذات اليد، أو لعجزهم عن السفر لما أصابهم من الجراح، أو الكسور، أو نحو ذلك {يحسبهم الجاهل أغنياء} أي يظنهم الجاهل بأحوالهم أغنياء {من التعفف} أي بسبب تعففهم عن السؤال، وإظهار المسكنة، فلا يسألون ولا يظهرون المسكنة والحاجة، فإذا رأيتهم ظننتهم أغنياء مع أنهم فقراء {تعرفهم بسيماهم} أي تعرف فقرهم وحاجتهم بعلامتهم، والعلامة التي فيهم هي أن الإنسان إذا رآهم ظنهم أغنياء؛ وإذا دقق في حالهم تبين له أنهم فقراء؛ لكنهم متعففون؛ وكم من إنسان يأتيك بمظهر الفقير المدقع: ثياب ممزقة، وشعر منفوش، ووجه كالح، وأنين، وطنين؛ وإذا أمعنت النظر فيه عرفت أنه غني؛ وكم إنسان يأتيك بزي الغني، وبهيئة الإنسان المنتصر على نفسه الذي لا يحتاج إلى أحد؛ لكن إذا دققت في حاله علمت أنه فقير، وهذا يعرفه من منّ الله عليه بالفراسة؛ وكثير من الناس يعطيهم الله سبحانه وتعالى علماً بالفراسة يعلمون أحوال الإنسان بملامح وجهه، ونظراته، وكذلك بعض عباراته، كما قال الله عز وجل: {ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: 30] .
{لا يسألون الناس إلحافاً} ظاهر المعنى أنهم لا يلحون في المسألة ولكنهم يسألون؛ وإن نظرنا إلى مقتضى السياق ترجح أنهم لا يسألون الناس مطلقاً؛ فيكون النفي نفياً للقيد، وهو الإلحاف، والمقيد وهو السؤال؛ والمعنى أنهم لا يسألون مطلقاً لا بإلحاح ولا بلا إلحاح؛ ولو كانوا يسألون ما حسبهم الجاهل أغنياء؛ بل لظنهم فقراء بسبب سؤالهم؛ ولكنه ذكر أعلى أنواع السؤال المذموم، وهو الإلحاح؛ ولهذا تجد الإنسان إذا ألح - وإن كان فقيراً - يثقل عليك، وتمل مسألته؛ حتى ربما تأخذك العزة بالإثم ولا تعطيه؛ فتحرمه، أو تنهره مع علمك باستحقاقه؛ وتجد الإنسان الذي يظهر بمظهر الغني المتعفف ترق له، وتعطيه أكثر مما تعطي السائل.
فهؤلاء أصحاب هذه الصفات هم المستحقون حقاً للصدقة، والإنفاق، وإذا تخلفت صفة من الصفات فالاستحقاق باقٍ؛ لكن ليست كما إذا تمت هذه الصفات الست.
أخرج الشيخان في صحيحيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ»، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. انتهى
وفي رواية: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ» قَالُوا، فَمَا الْمِسْكِينُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ، فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا».
أي المسكين الكامل المسكنة الذي هو أحق بالصدقة وأحوج إليها ليس هو هذا الطواف بل هو الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفطن له، ولا يسأل الناس.
وليس معناه نفي أصل المسكنة عن الطواف، بل معناه نفي كمال المسكنة.
والمتعفف هو: الممتنع عن السؤال وإظهار الحاجة.
{وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} الخير: المال، فإذا كان الله عليماً بأيّ خير ننفقه فسيجازينا عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما نكون إليه.
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}
{الذين ينفقون أموالهم} سواء كلها أو بعضها {بالليل والنهار} أي في أي وقت {سراً وعلانية} {سراً} أي خفاءً، و {علانية} أي جهراً، أي على كل حال، وفي جميع الأوقات حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضاً، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص: « وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ، إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ» .
{فلهم أجرهم عند ربهم} أي يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات، وهذا الأجر قد بُين فيما سبق بأن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } [البقرة: 261] {ولا خوف عليهم} أي فيما يستقبل {ولا هم يحزنون} أي فيما مضى؛ فهم لا يحزنون على ما سبق؛ ولا يخافون من المستقبل؛ لأنهم يرجون ثواب الله عز وجل؛ ولا يحزنون على ما مضى؛ لأنهم أنفقوه عن طيب نفس.