تفسير سورة البقرة 275-277
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)}
{الذين يأكلون الربا} أي الذين يأخذون الربا فينتفعون به بأكل، أو شرب، أو لباس، أو سكن، أو غير ذلك؛ لكنه ذكر الأكل؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، وأكثرها إلحاحاً؛ و {الربا} أصل الربا في اللغة الزيادة، وهو أنواع في الشرع مذكورة في كتب الفقه، منه أن الرجل كان يقرض الرجل قرضاً، فإذا حان وقت القضاء، ولم يستطع، قال لصاحب المال: زدنا في الأجل وأزيدك في المال.
{لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة؛ إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ يعني: كالمصروع الذي يتخبطه الشيطان؛ و «التخبط» هو الضرب العشوائي؛ فالشيطان يتسلّط على ابن آدم تسلطاً عشوائياً، فيصرعه؛ فيقوم هؤلاء من قبورهم يوم القيامة كقيام المصروعين.
ولم يختلف المفسرون في قوله تعالى: {يتخبطه الشيطان من المس} أنه الشيطان يتخبط الإنسان، و {من المس} أي بالمس بالجنون؛ وهذا أمر مشاهد: أن الشيطان يصرع بني آدم؛ وربما يقتله - نسأل الله العافية -؛ يصرعه، ويبدأ يتخبط، ويتكلم، والإنسان نفسه لا يتكلم، يتكلم الشيطان الذي صرعه.
{ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} أي: ذلك الذي نزل بهم؛ حصل لهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به، فيقول الغريم لصاحب الحق: زدني في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك ويقولون: لا فرق بين الزيادة في أول البيع بالربح، أو كانت الزيادة عند حلول وقت قضاء الدين لأجل التأخير.
{وأحل الله البيع وحرم الربا} أي أباح البيع، ومنع الربا؛ وهذا تكذيب من الله لقولهم: {إنما البيع مثل الربا} فقال الله عز وجل رداً عليهم: ليست الزيادة من وجه البيع، مثل الزيادة من وجه الربا؛ لأني أحللت البيع، وحرمت الربا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف في أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي.
وهذا يدلك على أن المسألة المنصوص عليها في الشرع بنصوص واضحة وصريحة؛ لا تحتاج لمجادلة وإقناع، بل يكفي أن تذكر النص الشرعي، وبذلك تكون أقمت الحجة به على المخالف، فواجبه هو التسليم والانقياد وعدم المجادلة والاعتراض على أمر الله.
{فمن جاءه موعظة من ربه} أي من بلغه حكم الربا بعد أن تعامل به {فانتهى} أي كف عن الربا بالتوبة منه {فله ما سلف} أي له ما أخذه من الربا قبل العلم بالحكم.
{وأمره إلى الله} أي شأنه إلى الله - تبارك وتعالى - في عصمته وتوفيقه إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه، وإن شاء خذله عن ذلك {ومن عاد} أي ومن رجع إلى الربا واستحله بعد أن أتته الموعظة وعلم بالتحريم {فأولئك أصحاب النار} أي أهلها الملازمون لها؛ وأكد ذلك بقوله تعالى: {هم فيها خالدون}.
{يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}
{يمحق الله الربا} «المحق» بمعنى الإزالة؛ أي يزيل الربا؛ والإزالة إما أن تكون إزالة حسية، أو إزالة معنوية، فالإزالة الحسية: أن يسلط الله على مال المرابي ما يتلفه؛ والمعنوية: أن يَنزع منه البركة.
{ويربي الصدقات} أي يزيدها: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. أخرج الشيخان في صحيحيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ -أي حلال-، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ».
(فَلُوَّه) مُهره، وهو الصغير من الخيل، و(الفصيل) ولد الناقة.
{والله لا يحب كل كفار أثيم} إذا نفى الله تعالى المحبة فالمراد إثبات ضدها وهي الكراهة، و «الكَفّار» كثير الكفر، أو عظيم الكفر؛ و «الأثيم» بمعنى الآثم، كالسميع بمعنى السامع.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}
{إن الذين آمنوا} أي آمنوا بما يجب الإيمان به {وعملوا الصالحات} أي عملوا الأعمال الصالحات؛ وهي المبنية على الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وأقاموا الصلاة} أي أتوا بها قويمة بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومكملاتها؛ وعطْفها على العمل الصالح من باب عطف الخاص على العام؛ لأن إقامة الصلاة من الأعمال الصالحة، ونُص عليها لأهميتها {وآتَوا الزكاة} أي أعطوا الزكاة مستحقها {لهم أجرهم عند ربهم} أي هؤلاء لهم ثوابهم عند الله {ولا خوف عليهم} أي فيما يستقبل من أمرهم {ولا هم يحزنون} أي على ما مضى من أمرهم.