تفسير سورة آل عمران 14-17
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)}
{زين للناس حب الشهوات} جمع شهوة، وهي ما تشتهيه النفس وتحبه وتدعو إليه، زينها الله لهم امتحاناً لهم، كما في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} {من النساء} بدأ بهن؛ لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم، قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»، فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد، فهذا مطلوب مرغب به {والبنين} الأولاد الذكور {والقناطير} جمع قنطار، وهو المال الكثير {المقنطرة} المجمعة بعضها فوق بعض{من الذهب والفضة والخيل المسومة} الخيل جمع لا واحد له من لفظه، واحدها فرس {المسومة} الحسان {والأنعام} جمع النَّعَم، وهي: الإبل والبقر والغنم، جمع لا واحد له من لفظه {والحرث} يعني: الزرع {ذلك} أي كل ما ذكر {متاع الحياة الدنيا} يُتمتع به في الدنيا الفانية الزائلة ثم يفنى {والله عنده حسن المآب} أي: حسن المرجع، فيه إشارة إلى التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة.
قال السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أنه زين للناس حبَّ الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة؛ لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرُها تبع لها، قال تعالى {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} فلما زُينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين: قسمٍ: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصَّلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها؛ فهؤلاء كانت زاداً لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب.
والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده، ليعلم من يُقدِّم طاعته ومرضاتِهِ على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقاً يتزودون منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها {ذلك متاع الحياة الدنيا} فجعلوها معبراً إلى الدار الآخرة ومتجراً يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زاداً إلى ربهم. وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذيرٌ للمغترين بها وتزهيدٌ لأهل العقول النيرة بها. انتهى
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)}
{قل} يا محمد للناس {أؤنبئكم} أأُخْبِركم {بخير من ذلكم} أي من الشهوات المتقدم ذكرها من النساء والبنين.. إلخ؟ فأخبر عنه فقال: {للذين اتقوا} للذين خافوا الله فأطاعوه، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه {عند ربهم جنات} بساتين {تجري من تحتها الأنهار} من تحت أشجارها {خالدين فيها} أي باقون فيها بقاءً دائماً لا انقطاع له، فلا يموتون ولا يفنون {وأزواج مطهرة} نساء الجنة طُهرن من كل أذى يكون بنساء أهل الدنيا من الحيض والبول والنفاس وما أشبه ذلك من الأذى {ورضوان من الله} يعني ورضا الله، فيرضى الله عن أهل الجنة ولا يسخط عليهم أبداً {والله بصير} عالم {بالعباد} فيجازي كلا منهم بعمله.
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)}
يصف تبارك وتعالى عباده المتقين الذين وعدهم بالجنة والزوجات المطهرة والرضوان، الذين تقدم ذكرهم، فقال تعالى: {الذين يقولون ربنا إننا آمنا} أي بك وبرسولك وبما جاء به من عندك {فاغفر لنا ذنوبنا} أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا؛ فاغفر لنا ذنوبنا أي استرها علينا ولا تعاقبنا عليها بفضلك ورحمتك {وقنا عذاب النار} أي وادفع عنا عذاب النار، ونجنا منها.
وهذا من التوسل إلى الله بالعمل الصالح، فتوسلوا إلى الله ودعوه بإيمانهم وهو عمل صالح، وهذا من الوسائل التي يحبها الله، أن يتوسل العبد إلى ربه، بما مَنَّ به عليه من الإيمان والأعمال الصالحة، إلى تكميل نعم الله عليه، بحصول الثواب الكامل، واندفاع العقاب، كما فعل الثلاثة الذي أغلقت عليهم الصخرة الغار.
{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}
فذكر أوصافهم، وهي أوصاف أهل التقوى، فقال: {الصابرين} الصبر حبس النفس عن معصية الله ومنعها من ذلك، وحبسها على طاعة الله بإلزامها بها سواء كانت صلاة أو جهاداً في سبيل الله أو غير ذلك، وحبسها على الرضى بقضاء الله وقدره، ومنعها من التسخط على أقدار الله {والصادقين} الذين صدقوا الله في قولهم، بتحقيقهم الإقرار به وبرسوله، وما جاء به من عنده، بالعمل بما أمرهم به والانتهاء عما نهاهم عنه {والقانتين} أي الطائعين لله تبارك وتعالى، فالقنوت: الطاعة والخضوع {والمنفقين} أي الذين يخرجون زكاة أموالهم لمستحقيها، والمنفقون أموالهم في وجوه البر والطاعة التي شرعها الله {والمستغفرين بالأسحار} الأسحار جمع سحر، وهو آخر الليل قبل الفجر، وأصح ما قيل في معنى الاستغفار في الأسحار: طلب المغفرة في ذاك الوقت، بأن تقول: رب اغفر لي، وتدعو الله؛ فهو وقت إجابة الدعاء، وقال البعض: هو الصلاة آخر الليل، ودل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار.
وأفضل ما يفعله المتقي في هذا الوقت الصلاة حتى إذا بقي القليل من الليل استغفر ودعا. والله أعلم