تفسير سورة آل عمران 28-34
{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)}
{لا يتخذ المؤمنون} أي لا يجعل المؤمنون {الكافرين أولياء} أي أحباباً وأعواناً وأنصاراً {من دون المؤمنين} من غير المؤمنين، فهذا نهي عن موالاة الكافرين، فلا يجوز للمؤمن أن يتخذ الكافر ولياً له أي يحبه وينصره.
قال تبارك وتعالى: {ومن يفعل ذلك} أي: موالاة الكفار أي محبتهم ونصرتهم ومعونتهم لدينهم {فليس من الله في شيء} فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر، ثم استثنى فقال: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} يعني: إلا أن تخافوا منهم مخافة، ومعنى الآية: أن الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم، إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً أو يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية، قال الله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106] ثم هذا رخصة، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم.
قال الطبري رحمه الله: ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهراً وأنصاراً، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء؛ يعني بذلك فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر إلا أن تتقوا منهم تقاة، إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل. انتهى
{ويحذركم الله نفسه} أي يخوفكم الله من نفسه، من نقمته وعقوبته على موالاة الكفار وارتكاب ما نهى عنه، ومخالفة ما أمر به {وإلى الله المصير} أي إليه المرجع والمنقلب ليجازي كل عامل بعمله.
قال شيخ شيخنا محمد أمين الهرري رحمه الله: وخلاصة هذا: نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار، أو نحو ذلك من أسباب المصادقة والمعاشرة، بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه مما يقتضيه الإِسلام من الحب والبغض لمصلحة الدين فحسب.
ومن ثَمَّ تكون موالاة المؤمنين أجدى لهم في دينهم من موالاة الكافرين.
فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المؤمنين؛ فلا مانع منها، فقد حالف النبي - صلى الله عليه وسلم - خزاعة وهم على شركهم، كما لا مانع من ثقة المسلم بغيره وحسن معاملته في أمور الدنيا.
واعلم أن كون المؤمن مواليًا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون راضيًا بكفره ويتولاه لأجله، وهذا ممنوع؛ لأن الرضا بالكفر كفر.
وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، وذلك غير ممنوع.
وثالثها: الركون إلى الكفار والمعونة لهم والنصرة، إما بسبب القرابة، أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهيٌّ عنه؛ لأن المُوالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان دينه والرضا بطريقته، وذلك يخرجه عن الإِسلام، فهذا هو الذي هَدَّد الله فيه بقوله الآتي: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ}. انتهى كلامه رحمه الله.
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)}
{قل} يا محمد للذين نهيتهم عن موالاة الكفار {إن تخفوا ما في صدوركم} ما في قلوبكم من موالاة الكفار {أو تبدوه} أو تظهروا ما في قلوبكم من موالاة الكفار بالقول أو الفعل {يعلمه الله} يعلمه الله ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به، فلا تضمروا لهم مودة في قلوبكم، ولا تظهروا لهم موالاة، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به؛ لأنه يعلم سركم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء منه، وهو محصيه عليكم حتى يجازيكم عليه بالإحسان إحساناً، وبالسيئة مثلها ، ثم قال: {ويعلم ما في السماوات وما في الأرض} يعني: إذا كان لا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض؟ فكيف يخفى عليه موالاتكم الكفار وميلكم إليهم بالقلب؟ {والله على كل شيء قدير} والله قدير على معاجلتكم بالعقوبة على موالاتكم إياهم على المؤمنين، وعلى ما يشاء من الأمور كلها، لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء طلبه.
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)}
{يومَ } أي ويحذركم الله نفسه في يوم- وهو يوم القيامة- {تجد كل نفس ما عملت} في الدنيا {من خير} أي من الأعمال الصالحة {محضراً} كاملاً لم ينقص منه شيء، تجده في صحيفتها {وما عملت من سوء} كذلك تجد كل ما عملت من أعمال سيئة وهي التي يسخطها الله {تود} أي تتمنى وتحب النفس التي عملت السيئات {لو أن بينها} أي: بين النفس {وبينه} يعني وبين السوء {أمداً بعيداً} أي مسافة بعيدة، أي تتمنى النفس التي عملت السوء أن يكون بينها وبين ذلك السوء مسافة بعيدة خوفًا من جزائه وعقوبته {ويحذركم الله نفسه} أي يخوفكم عقابه {والله رءوف بالعباد} أي: رحيم؛ أما المؤمن فله رحمة الدنيا والآخرة، وأما الكافر فرحمته في الدنيا ما رزقه الله فيها، وليس له في الآخرة إلا النار.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)}
{قل} يا محمد {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} أي إن كنتم صادقين في محبتكم لله تبارك وتعالى التي تدعونها؛ فأثبتوا ذلك باتباع النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وبما جاء به، واتبعوه على شريعته.
قال ابن كثير رحمه الله: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، ولهذا قال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِب إنما الشأن أن تُحَب. وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. انتهى
{يحببكم الله} هذا الجزاء، أي إذا صدقتم في محبتكم لله باتباع نبيه بكل ما جاء به في شريعته؛ جازاكم الله بمحبته لكم، وهذا جزاء عظيم، وهذه المحبة من الله لعباده المؤمنين محبة حقيقية تليق بجلاله تبارك وتعالى، وليست كمحبة المخلوقين، وليست المحبة هي الإثابة، ولكن من يحبه الله يثيبه ويغفر له ويستر عليه ويرحمه رحمة خاصة {ويغفر لكم ذنوبكم} وهذا من الجزاء، فيحبكم ويغفر لكم ذنوبكم، أي يسترها عليكم ويتجاوز عنها فلا يؤاخذكم بها {والله غفور} أي يستر الذنوب ويتجاوز عنها {رحيم} بالمؤمنين.
{قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}
{قل} يا محمد {أطيعوا} هذا أمر لجميع المكلفين بالطاعة في التوحيد وغيره، أطيعوا {الله والرسول فإن تولوا} أعرضوا عن طاعة الله ورسوله وأدبروا {فإن الله لا يحب الكافرين} قال ابن كثير: فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه؛ حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسولَ الله إلى جميع الثقلين: الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته. انتهى
وقال السعدي عند قوله تبارك وتعالى {فإن الله لا يحب الكافرين} قال: بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم أشد العقوبة، وكأن في هذه الآية الكريمة بياناً وتفسيراً لاتباع رسوله، وأن ذلك بطاعة الله وطاعة رسوله، هذا هو الاتباع الحقيقي. انتهى
{إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)}
قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحاً} اصطفى: اختار، من الصفوة، وهي الخالص من كل شيء {وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم عليه السلام خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة، واصطفى نوحا عليه السلام وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان، وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا، سرا وجهارا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارا، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به، واصطفى آل إبراهيم، ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وآل عمران والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى ابن مريم عليه السلام. انتهى
{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}
{ذرية} يسمى الأولاد والآباء ذرية، أي واصطفى ذرية {بعضها من بعض} دينهم واحد، وكلمتهم واحدة، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته {والله سميع عليم} قال السعدي: يعلم من يستحق الاصطفاء فيصطفيه، ومن لا يستحق ذلك فيخذله ويرديه، ودل هذا على أن هؤلاء اختارهم لِما علم من أحوالهم الموجبة لذلك فضلا منه وكرماً.