تفسير سورة آل عمران 35- 41
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)}
{إذ قالت امرأت عمران} هي أم مريم، وعمران: هو عمران أبو مريم، وليس بعمران أبي موسى عليه السلام، فأبو موسى متقدم كثيراً على هذا في الزمن، قوله تعالى: {رب} يا رب، أي قالت أم مريم داعيةً الله: يا رب {إني نذرت لك ما في بطني محرراً} أي: جعلت لك الذي في بطني محرراً، أي خالصاً مفرغاً للعبادة ولخدمة بيتك، لا أشغله بشيء من الدنيا، نذراً مني لك، والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه {فتقبل مني} نذري هذا {إنك أنت السميع العليم} أي السميع لدعائي العليم بنيتي.
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)}
{فلما وضعتها}أي: ولدتها، إذا هي جارية، أي أنثى وليست ذكراً {قالت} أم مريم، وكانت ترجو أن يكون غلاماً ذكراً {رب إني وضعتها أنثى} اعتذاراً إلى الله عز وجل {والله أعلم بما وضعت} هذا من قول الله تبارك وتعالى وإخبار منه عن علمه {وليس الذكر كالأنثى} في القوة على خدمة بيت الله والعباد الذين فيه؛ لأن الأنثى أضعف من الذكر {وإني سميتها مريم} وهي بلغتهم العابدة والخادمة {وإني أعيذها} أمنعها وأجيرها {بك و} أعيذ {ذريتها} أولادها وهو عيسى عليه السلام {من الشيطان الرجيم} والشيطان الطريد اللعين، والرجيم المرجوم المرمي بالشهب، فاستجاب الله لها، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. انتهى
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}
{فتقبلها ربها بقبول حسن} أي: قبل الله مريم من أمها، مكان المحرر، وتقبل بمعنى: قبل ورضي {وأنبتها نباتاً حسناً} وأنبتها ربها في غذائه ورزقه نباتا حسنا حتى تمت فكملت امرأة بالغة تامة {وكفلها زكريا} أي جعله كافلا لها، ومعنى الكفالة: الضم، يعني: ضمها الله إلى زكريا فأخذها زكريا وجعلها عنده وتكفل بتربيتها، وهذا من رحمة الله بها ليربيها على أكمل الأحوال، فنشأت في عبادة ربها وفاقت النساء، وانقطعت لعبادة ربها، ولزمت محرابها أي: مصلاها {كلما دخل عليها زكريا المحراب} الغرفة أو مكان العبادة المصلى {وجد عندها رزقاً} قالوا: وجد عندها فاكهة في غير حينها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وقال آخرون: وجد عندها طعاماً غير الذي يأتيها به {قال} زكريا { يا مريم أنى لك هذا} من أي جهة لك هذا الذي عندك من الرزق {قالت} مريم مجيبة له {هو من عند الله} تعني أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها فضلاً منه وإحساناً {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} أي يرزق من يشاء من خلقه ويعطيه عطاء كثيرا جزيلا بلا حصر ولا تعداد.
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)}
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} {هُنَالِكَ} عند ذلك، أي عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رزقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبب أحد من الآدميين في ذلك لها؛ رغب زكريا أن يكون له ولد، وكان شيخا كبيرا قد وهن منه العظم واشتعل الرأس شيباً، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقراً، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفياً، فكما رزق مريم على غير العادة الجارية، كذلك يرزقه مع أن أسباب الولد المعتادة غير متوفرة عنده لأنه كبير السن وامرأته عاقر، فـ{قال رب} أي يا رب {هب لي} أي أعطني {من لدنك} أي من عندك {ذرية طيبة} أي ولداً صالحاً {إنك سميع} أي: سامعه، وقيل: مجيبه {الدعاء}.
{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)}
{فنادته الملائكة} أي فنادت الملائكة زكريا فكلمته {وهو قائم يصلي} أي في حال قيامه مصليا {في المحراب} أي: في المسجد {أن الله يبشرك بيحيى} أي بشروه أن الله يبشرك بيحيى أي بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى {مصدقاً بكلمة من الله} كلمة من الله هو عيسى عليه السلام، يعني: يحيى مصدق بعيسى عليه السلام، سمي عيسى كلمة الله؛ لأن الله تعالى قال له كن من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة.
قال أهل العلم: وكان يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدقه، وكانا ابني خالة، ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليه السلام {وسيداً} أي ويحيى سيد، أي شريفاً في العلم والعبادة، والسيد: الرئيس الذي يُتَّبع ويُنتَهى إلى قوله {وحصورا} الحصور: أصله من الحسر وهو الحبس، والحصور قال جمع من السلف: الذي لا يأتي النساء. وقال آخرون: الحصور الممتنع من الوطء مع القدرة عليه، واختار قوم هذا القول لوجهين: أحدهما: لأن الكلام خرج مخرج الثناء، وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء، والثاني أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء. انتهى قاله السمعاني في تفسيره وتبعه عليه البغوي. {ونبياً من الصالحين} هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)}
{قال} زكريا { رب} أي: يا رب {أنى يكون} يعني: ومن أين يكون، أو كيف يكون {لي غلام} أي ولد ذكر {وقد بلغني الكبر} أي: وقد نالني كبر السن وأدركني وأضعفني، أي صار شيخاً كبيراً في السن، ومن بلغ من السن ما بلغت لم يولد له {وامرأتي عاقر} أي: عقيم لا تلد، فالمرأة العاقر التي لا تلد، وكذلك الرجل العاقر الذي لا يلد {قال} الله تبارك وتعالى { كذلك الله يفعل ما يشاء} أي هكذا أمر الله عظيم، لا يعجزه شيء، ولا يتعاظمه أمر، فيفعل ما يشاء.
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)}
{قال رب اجعل لي آية} أي: علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي {قال آيتك ألا تكلم الناس} أي: علامتك أن لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح {ثلاثة أيام} قال أكثر المفسرين: عُقل لسانه عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام {إلا رمزاً} أي: إشارة {واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار} أمره بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال، والعشي: ما بين زوال الشمس إلى غروب الشمس، ومنه سميت صلاة الظهر والعصر صلاتي العشي، والإبكار: ما بين صلاة الفجر إلى الضحى.