تفسير سورة آل عمران 75-80
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
لَمَّا ذَكَرَ الله سبحانه وتعالى خيانة أهل الكتاب في الأمور الدينية، ولَبسِهم الحق بالباطل، وعُتُوِّهم وعنادهم ونفاقهم، ذَكَرَ حالَهم في الأمور الدنيوية في المال فقسمهم الله تعالى إلى قسمين فقال: {ومن أهل الكتاب} قال ابن عثيمين رحمه الله: وهذا يشمل اليهود والنصارى، وسُمُّوا أهلَ كتاب؛ لأنهم هم الذين عندهم بقايا من الدين النازل على الأنبياء؛ فاليهود عندهم بقايا من التوراة، والنصارى عندهم بقايا من الإنجيل. انتهى وخصه كثير من أهل العلم باليهود {من إن تأمنه بقنطار} أي من أهل الكتاب من تأمنه على مال كثير {يؤده إليك} يرد المال الكثير إليك، ولا يخون الأمانة، يعني من أهل الكتاب أشخاص أمناء على أداء الأمانة، فإذا وضعت عندهم مالاً كثيراً أمانة ردوه إليك ولم يخونوا الأمانة.
{ومنهم} أي ومن أهل الكتاب {من إن تأمنه بدينار} أي مال قليل {لا يؤده إليك} لأنه خائن، يخون الأمانة ولا يؤديها حتى لو كانت مالا قليلا {إلا ما دمت عليه قائما} إلا إذا واظبت على مطالبته وألححت عليه في رد الأمانة.
أي من أهل الكتاب أشخاص أمناء يؤدون الأمانة ولا يخونونها وإن كانت مالا كثيرا، ومنهم أشخاص يخونون الأمانة ولا يؤدونها وإن كانت مالاً قليلاً إلا بعد شدة إلحاح عليهم.
{ذلك} أي: ذلك الاستحلال والخيانة {بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} أي إثم، لا إثم علينا في أخذ أموال العرب، أي: سبب خيانتهم للأمانة أنهم قالوا: أموال الأميين وهم العرب حلال لنا؛ لأنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم، فقال تعالى: {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} فبين الله هنا أن هذا الاستحلال كذب منهم على الله، فالله تبارك وتعالى لم يحل لهم أموال العرب، وهم يعلمون أنهم يكذبون على الله في ذلك.
قال ابن عثيمين رحمه الله: من فوائد الآية: أنه يجب الحذر من أهل الكتاب، اليهود والنصارى؛ لأنهم ما داموا ينقسمون إلى قسمين فإننا لا ندري حين نعاملهم من أي القسمين هؤلاء؟ فيجب علينا الحذر لا سيما إذا تبيَّن لنا أنهم خونة أهل غدر، وأنهم لا يسعون لمصالحنا أبدًا كما هو الواقع، فإن الواقع في الوقت الحاضر أنَّ اليهود والنصارى لا يسعون أبدًا لصالح المسلمين، بل يسعون للإغرار بالمسلمين والإفساد عليهم، حتى إنهم إذا رأوا الدولة متجهة للإسلام من دول المسلمين فإنهم يحاولون إسقاطها والتضييق عليها من الناحية الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وهذا شيء يعرفه كل من تدبر وتأمل في الحوادث اليوم. إذن يجب علينا أن نحذر غاية الحذر من اليهود والنصارى، وأن نعلم أن اليهود والنصارى كل واحد منهم وليٌّ للآخر كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة ٥١]. مهما طال الأمد فهم أولياء ضد عدوٍّ مشترك وهم المسلمون. انتهى
ثم قال الله تبارك وتعالى ردا عليهم:
{بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}
{بلى} أي: ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون على الله من أهل الكتاب، من أنه ليس عليهم في أموال الأميين حرج ولا إثم، بل عليهم إثم.
ثم ابتدأ فقال: {من أوفى} أي: ولكن من أوفى {بعهده} أي: بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة والإنجيل من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأداء الأمانة {واتقى} الكفر والخيانة ونقض العهد {فإن الله يحب المتقين} فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه، ويحذرون عذابه، فيجتنبون ما نهاهم عنه، وحرمه عليهم، ويطيعونه فيما أمرهم به.
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}
قال ابن عثيمين رحمه الله: هذه الآية لها صلة بما قبلها وهي أن هذا العمل من جنس العمل السابق الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، فهذه الآية فيها أيضًا نوع من أكل أموال الناس بالباطل. انتهى {إن الذين يشترون} أي يستبدلون {بعهد الله} أي بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم، ككتم اليهود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكتم العالم علمه، من أجل متاع الدنيا، أو بتركهم عهودهم مع الناس التي أمر الله بالوفاء بها {وأيمانهم} الأيمان جمع يمين وهي الْحَلِفُ بالله عز وجل، ويشترون بأيمانهم الكاذبة {ثمناً قليلاً} أي: عوضاً وبدلاً قليلاً خسيساً من حطام الدنيا.
كعلماء اليهود ورؤوسهم كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا أنه من عند الله لئلا يفوتهم المآكل والأموال التي كانت لهم من أتباعهم.
وكأن يحلف شخص على جحد حق واجب عليه، أو يحلف على دعوى حق ليس له، وهو كاذب، وهذه هي اليمين الغموس التي قال عنها رسول الله ﷺ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ».
{أولئك} الذين يفعلون ذلك { لا خلاق لهم} أي لا حظ {في} خيرات { الآخرة} ولا نصيب لهم في نعيم الجنة {ولا يكلمهم الله} كلاما ينفعهم ويسرهم {ولا ينظر إليهم يوم القيامة} نظر رحمة وإحسان {ولا يزكيهم} أي: لا يطهرهم من الذنوب {ولهم عذاب أليم} ولهم عذاب موجع.
أخرج الشيخان في صحيحهما عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»، قَالَ: فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالُوا: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: صَدَقَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فِيَّ نَزَلَتْ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟» فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: «فَيَمِينُهُ»، قُلْتُ: إِذَنْ يَحْلِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}
{وإن منهم} يعني: من أهل الكتاب أي اليهود والنصارى {لفريقاً} أي: جماعة {يلوون ألسنتهم بالكتاب} أي: يعطفون ألسنتهم بالتحريف والتغيير، أي كأنهم يقرؤون الكتاب المنزل من عند الله، وهو ما غيروا من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك، يقال: لَوَى لسانه عن كذا أي: غيره {لتحسبوه}أي: لتظنوا ما حرفوه {من الكتاب} الذي أنزله الله تعالى {وما هو من الكتاب} وليس هو من الكتاب الذي أنزله الله، بل هو من تحريفهم {ويقولون هو} أي الذي حرفوه {من عند الله} مما أنزله الله على أنبيائه {وما هو} أي الذي حرفوه ولووا به ألسنتهم {من عند الله} مما أنزله الله على أحد من أنبيائه، ولكنه مما أحدثوه من عند أنفسهم، افتراء على الله {ويقولون على الله الكذب} عمداً {وهم يعلمون} أنهم كاذبون، ولكنهم يفعلون ذلك طلباً للرياسة والخسيس من حطام الدنيا.
يعني أن اليهود والنصارى حرفوا التوراة والإنجيل، وأدخل فيهما ما ليس منهما، وقالوا بأن ما أدخلوه من عندهم في التوراة والإنجيل هو من عند الله، أي هو من التوراة والإنجيل التي أنزلها الله، وهذا فعلوه كذبا منهم وهم يعلمون أنهم يكذبون في ذلك، أي متعمدون لفعله طلبا للرياسة وحطام الدنيا.
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)}
{ما كان لبشر} أي لا ينبغي لأحد من البشر، والبشر: جميع بني آدم {أن يؤتيه الله الكتاب} أي أن ينزل عليه الكتاب؛ كعيسى الذي أنزل عليه الإنجيل ومحمد الذي أنزل عليه القرآن {والحكم} الحكمة {والنبوة} ويعطيه النبوة {ثم يقول للناس} بعد أن يرسله الله للناس ويجعله نبياً {كونوا عبادا لي من دون الله} أي لا يمكن أن يدعوهم إلى عبادة نفسه مع الله، من دون الله أي مع الله {ولكن كونوا} بل يدعوهم إلى أن يكونوا {ربانيين} أي علماء بالله وبأمره، عاملين بعلمهم، معلمين مربين مصلحين، أئمة في طاعته وعبادته.
قال الطبري رحمه الله: فالربانيون إذاً، هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا، ولذلك قال مجاهد: «وهم فوق الأحبار»؛ لأن الأحبار هم العلماء. والرباني: الجامع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم. انتهى
{بما كنتم تعلمون الكتاب} أي بسبب تعليمكم الناس الكتاب الذي أنزله الله على رسله {وبما كنتم تدرسون} أي: وبدراستكم إياه، أي قراءته.
أي أنهم صاروا أهل إصلاح للناس، وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتاب ربهم، ودراستهم إياه، أي تلاوته.
قال الطبري رحمه الله: فمعنى الآية: ولكن يقول لهم: كونوا أيها الناس سادة الناس وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم، ربانيين بتعليمكم إياهم كتاب الله، وما فيه من حلال وحرام، وفرض وندب، وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم، وبتلاوتكم إياه ودراستكموه. انتهى
{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}
{ولا يأمركم} أي: وما كان للنبي أن يأمركم أيها الناس {أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً} أي آلهة تعبدونهم مع الله {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} يعني: لا يمكن أن يدعوكم إلى الكفر الذي هو عبادة غير الله، بعد إذ أنتم له منقادون بالطاعة متذللون له بالعبودية والتوحيد، أي أن ذلك غير كائن منه أبدا.