تفسير سورة آل عمران 101-103
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} هذا استفهام تعجب وتوبيخ، يعني ما أعجب حالَكم لو كفرتم! {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي تقرأ {آيَاتُ اللهِ} أي القرآن {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ} أي: ومن يمتنع بالله ويستمسك بدينه وطاعته {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فقد وفق إلى طريق واضح.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ} خافوا الله وراقبوه بطاعته، واجتناب معاصيه {حَقَّ تُقَاتِهِ} صح عن ابن مسعود وغيرِه من السلف أنهم قالوا: "أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر". انتهى {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لربكم مذعنون له بالطاعة، مخلصون له الألوهية والعبادة. قال ابن كثير: أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه، فعياذاً بالله من خلاف ذلك. انتهى
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}
{وَاعْتَصِمُوا} أي تمسكوا {بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا} أصل الحبل: السبب الذي يتوصل به إلى المطلوب، والمقصود هنا بحبل الله: القرآن، صح عن ابن مسعود وغيره من السلف تفسيره بالقرآن.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: " أَلَا وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ حَبْلُ اللهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ ".
{وَلَا تَفَرَّقُوا } كما افترقت اليهود والنصارى، قال قتادة: « «إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ كَرِهَ لَكُمُ الْفُرْقَةَ وَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ فِيهَا، وَحَذَّرَكُمُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْهَا، وَرَضِيَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالْجَمَاعَةَ، فَارْضَوْا لِأَنْفُسِكُمْ مَا رَضِيَ اللهُ لَكُمْ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» { وَاذْكُرُوا} أيها المؤمنون {نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ} أي واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام، قال قتادة: «كنتم تَذابَحون فيها، يأكل شديدُكم ضعيفَكم حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم، أما والله الذي لا إله إلا هو، إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب». انتهى {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} قبل الإسلام {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} جمع بينها بالإسلام وحبب بعضها إلى بعض {فَأَصْبَحْتُمْ} أي: فصرتم {بِنِعْمَتِهِ} برحمته وبدينه الإسلام {إِخْوَانًا} في الدين والولاية بينكم {وَكُنْتُمْ} يا معشر المؤمنين من الأوس والخزرج { عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ } أي على طرف حفرة، فشفا الحفرة: طرفها وحرفها، شفا البئر أي طرفه، فالمعنى: وكنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم {فَأَنْقَذَكُمْ} الله {مِنْهَا} بالإيمان {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي: كما بين لكم ربكم في هذه الآيات ما تضمره لكم اليهود من غشكم، وبين لكم ما أمركم به وما نهاكم عنه، وبين لكم الحال التي كنتم عليها في الجاهلية، وما صرتم إليه في الإِسلام ليعرفكم في كل ذلك مواقع نعمِه {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ}؛ أي: يفصل الله تعالى لكم {آيَاتِهِ}؛ أي: سائر حججه في تنزيله على لسان رسوله {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لتهتدوا إلى سبيل الرشاد، وتسلكوها فلا تضلوا عنها.
قال قتادة: " كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ أَذَلَّ النَّاسِ ذُلًّا، وَأَشْقَاهُ عَيْشًا، وَأَبْيَنَهُ ضَلَالَةً، وَأَعْرَاهُ جُلُودًا، وَأَجْوَعَهُ بُطُونًا، مَكْعُومِينَ عَلَى رَأْسِ حَجَرٍ بَيْنَ الْأَسَدَيْنِ: فَارِسَ، وَالرُّومِ، لَا وَاللَّهِ مَا فِي بِلَادِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ شَيْءٍ يُحْسَدُونَ عَلَيْهِ، مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ شَقِيًّا، وَمَنْ مَاتَ رُدِّيَ فِي النَّارِ، يُؤْكَلُونَ وَلَا يَأْكُلُونَ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ قَبِيلًا يَوْمَئِذٍ مِنْ حَاضِرِ الْأَرْضِ، كَانُوا فِيهَا أَصْغَرَ حَظًّا وَأَدَقَّ فِيهَا شَأْنًا مِنْهُمْ، حَتَّى جَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِسْلَامِ، فَوَرَّثَكُمْ بِهِ الْكِتَابَ، وَأَحَلَّ لَكُمْ بِهِ دَارَ الْجِهَادِ، وَوَضَعَ لَكُمْ بِهِ مِنَ الرِّزْقِ، وَجَعَلَكُمْ بِهِ مُلُوكًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَبِالْإِسْلَامِ أَعْطَى اللهُ مَا رَأَيْتُمْ، فَاشْكُرُوا نِعَمَهُ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ، وَإِنَّ أَهْلَ الشُّكْرِ فِي مَزِيدِ اللهِ، فَتَعَالَى رَبُّنَا وَتَبَارَكَ ". انتهى
التعليقات عدد التعليقات (0)
اضافة تعليق