تفسير سورة آل عمران 104-108
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون {أُمَّةٌ} أي جماعة {يَدْعُونَ} الناس {إِلَى الْخَيْرِ} يعني إلى الإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} يقول: يأمرون الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ودينه الذي جاء به من عند الله {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} يعني وينهون عن الكفر بالله، والتكذيب بمحمد، وبما جاء به من عند الله؛ بجهادهم بالأيدي والجوارح، حتى ينقادوا لكم بالطاعة.
قال أهل العلم: وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه، ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين، والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام، ويدعون المنحرفين إلى الاستقامة، والمجاهدون في سبيل الله، والمتصدون لتفقد أحوال الناس وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام، وكتفقد المكاييل والموازين وتفقد أهل الأسواق ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة، وكل هذه الأمور من فروض الكفايات كما تدل عليه الآية الكريمة في قوله {ولتكن منكم أمة} إلخ أي: لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة، ومن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به، فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به، كالاستعداد للجهاد بأنواع العُدد التي يحصل بها نكاية الأعداء وعز الإسلام، وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها، وبناء المدارس للإرشاد والعلم، ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في الناس بالقول والفعل والمال، وغير ذلك مما تتوقف هذه الأمور عليه، وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين، ولهذا قال تعالى عنهم: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} يعني الفائزين عند الله، الباقين في جناته ونعيمه.
قال ابن كثير رحمه الله: والمقصود من هذه الآية، أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، وفي رواية: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». انتهى
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)}
{وَلَا تَكُونُوا} يعني: ولا تكونوا يا معشر الذين آمنوا {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} من أهل الكتاب {وَاخْتَلَفُوا} في دين الله وأمره ونهيه {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} من حجج الله، فيما اختلفوا فيه، وعلموا الحق فيه، فتعمدوا خلافه، وخالفوا أمر الله، ونقضوا عهده وميثاقه، جراءة على الله {وَأُولَئِكَ لَهُمْ} يعني ولهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا من أهل الكتاب، من بعد ما جاءهم الأدلة التي بينت لهم الحق {عَذَابٌ} من عند الله {عَظِيمٌ} يقول جل ثناؤه: فلا تفرقوا يا معشر المؤمنين في دينكم تفرق هؤلاء في دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنوا في دينكم بسنتهم، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم.
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)}
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} يعني: أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، تبيض وجوه المؤمنين، وتسود وجوه الكافرين {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فيقال لهم على وجه التوبيخ والتقريع: { أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي: كيف آثرتم الكفر والضلال على الإيمان والهدى؟ وكيف تركتم سبيل الرشاد وسلكتم طريق الغي؟ {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بسبب كفركم، فإن قيل كيف قال أكفرتم بعد إيمانكم، وهم لم يكونوا مؤمنين؟ قيل: أراد به الإيمان يوم الميثاق، حيث قال لهم ربهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. وقال الحسن: هم المنافقون تكلموا بالإيمان بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم، وقال عكرمة: أنهم أهل الكتاب آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به، وقال قوم: هم من أهل قبلتنا، وقال أبو أمامة: هم الخوارج، وقال قتادة: هم أهل البدع.
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)}
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} هؤلاء أهل الطاعة {فَفِي رَحْمَةِ اللهِ} في جنة الله {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي ماكثون فيها أبداً، لا يموتون ولا يفنون ولا يُخرجون.
{تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)}
{تِلْكَ} أي هذه الآيات وهي مواعظ الله وعبره وحججه، قال ابن جرير: وإنما يعني بقوله: "تلك آيات الله"، هذه الآيات التي ذكر فيها أمورَ المؤمنين من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمور يهود بني إسرائيل وأهل الكتاب، وما هو فاعل بأهل الوفاء بعهده، وبالمبدِّلين دينه، والناقضين عهدَه بعد الإقرار به {نَتْلُوهَا} أي نقرؤها ونقصُّها {عَلَيْكَ} يا محمد {بِالْحَقِّ} يعني بالصدق واليقين {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} قال ابن كثير: أي ليس بظالم لهم، بل هو الحَكَم العَدل الذي لا يجور؛ لأنه القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحداً من خلقه. انتهى.
التعليقات عدد التعليقات (0)
اضافة تعليق