تفسير سورة المائدة [77-81]
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}
{قُلْ} يا محمد للنصارى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} يا أهل الإنجيل {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أي: لا تتجاوزوا الحد {غَيْرَ الْحَقِّ} أي: غير اتباع الحق في عيسى وغيره، فلا تقولوا في عيسى: هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة. والغلو والتقصير كل واحد منهما مذموم في الدين {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ} والأهواء جمع الهوى، وهو: ما تدعو إليه شهوة النفس {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} يعني: رؤساء الضلالة الذين سبقوهم، نهوا عن اتباع شيوخهم شيوخ الضلالة الذين هم أسلافهم، فيما ابتدعوه بأهوائهم {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} يعني: ممن اتبعهم على أهوائهم {وَضَلُّوا} هم {عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} عن قصد طريق الحق.
قال ابن كثير: أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء، فجعلتموه إلهاً من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم، شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديماً، وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال. انتهى
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)}
{لُعِنَ} طردهم الله من رحمته {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ} نبي الله {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي: على لسان عيسى عليه السلام، قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنزله على داود نبيه عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} أي بسبب مخالفتهم لأمر الله وعصيانهم له {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} على الخلق، ويتجاوزون حدود الله.
{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)}
{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ} أي: لا ينهى بعضهم بعضا {عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} المنكر: المعاصي التي كانوا يعصون الله بها، فكل ما نُهوا عنه فهو منكر، فكانوا إذا فعل بعضهم ما يخالف الشرع، لا ينهاه الآخرون عن فعله {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} هذا ذم لهم على تركهم إنكار المنكر، وركوب محارمه، وقتل أنبياء الله ورسله.
{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)}
{تَرَى} يا محمد {كَثِيرًا مِنْهُمْ} من اليهود {يَتَوَلَّوْنَ} يعينون وينصرون {الَّذِينَ كَفَرُوا} يتولون المشركين من عبدة الأوثان، يعادون أولياء الله ورسُله {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة {أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ} غضب الله عليهم بسبب أعمالهم {وَفِي الْعَذَابِ} في عذاب الله يوم القيامة {هُمْ خَالِدُونَ} دائمون، ماكثون فيه لا ينقطع عنهم أبداً.
{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}
{وَلَوْ كَانُوا} ولو كان هؤلاء اليهود الذين يتولون الذين كفروا {يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} يصدقون بالله ويوحدونه ويتبعون أمره {وَ} يصدقون بـ {النَّبِيِّ} محمد صلى الله عليه وسلم بأنه مبعوث من عند الله، ويتبعونه {وَ} يقرون بـ {مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} يعني القرآن ويعملون به {مَا اتَّخَذُوهُمْ} يعني ما اتخذوا الكفار {أَوْلِيَاءَ} أصحاباً وأنصاراً من دون المؤمنين {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: خارجون عن أمر الله سبحانه وتعالى وطاعته إلى معصيته.