تفسير سورة المائدة 111-115
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)}
قال ابن كثير: وهذا أيضاً من الامتنان عليه، عليه السلام- أي على عيسى- بأن جعل له أصحاباً وأنصاراً. انتهى
{وَ} اذكر يا عيسى نعمتي عليك {إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} الحواريون، هم خواص أصحاب عيسى عليه السلام وأنصاره {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} عيسى، قال بعض أهل العلم: هذا الوحي وحي إلهام، كما أوحى الله لأم موسى، وهو وحي إلهام بلا خلاف، وكما أوحى للنحل، أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم، وقال البعض: يحتمل أن يكون المراد: وإذ أوحيت إليهم بواسطتك، فدعوْتَهم إلى الإيمان بالله وبرسوله واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك، فـ {قَالُوا} قال الحواريون حين وفقهم الله {آمَنَّا} بالله ورسُوله {وَاشْهَدْ} يا ربنا أو يا عيسى {بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} مستسلمون وخاضعون لله ومنقادون لأمره.
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)}
قال ابن كثير: هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة، فيقال سورة المائدة، وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزلها الله آية باهرة وحجة قاطعة. انتهى
اذكر {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}
لم يقولوه شاكين بقدرة الله عز وجل، ولكن معناه هل ينزل ربك أم لا؟ كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع أن تنهض معي؟ وهو يعلم أنه يستطيع، وإنما يريد هل يفعل ذلك أم لا؟ وفي قراءة: {هل تستطيعُ ربَّك} أي هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء {أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} المائدة: الخُوان -أي طاولة الطعام، أو ما يوضع عليه الطعام وأدواته- الذي عليه الطعام، فلا يسمى مائدة إلا إذا عليه طعام، وسمي الطعام أيضا مائدة؛ لأنه يؤكل على المائدة {قَالَ} عيسى عليه السلام مجيبا لهم: {اتَّقُوا اللهَ} خافوه واحذروا عذابه، ولا تطلبوا هذا الطلب، فالمؤمن يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى، وأن ينقاد لأمر الله، ولا يطلب من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها شيئا {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إن كنتم مصدقين بالله ورسوله ومتبعين لأمره، فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.
{قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)}
{قَالُوا} أي قال الحواريون {نُرِيدُ} أي: إنما سألنا لأننا نريد {أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ} وتسكن {قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} بأنك رسول الله، أي: نزداد إيمانا ويقينا {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي ونشهد أنها آية من عند الله، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)}
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} عند ذلك {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} قال السدي: معناه نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيداً لأولنا وآخرنا، أي: نعظمه نحن ومن بعدنا، وقال سفيان: نصلي فيه. قوله (لأولنا) أي: لأهل زماننا، (وآخرنا) أي: لمن يجيء بعدنا {وَآيَةً مِنْكَ} دلالة وحجة {وَارْزُقْنَا} إياها {وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ}
{قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}
{قَالَ اللهُ} تعالى مجيباً لعيسى عليه السلام {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} يعني المائدة {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} أي: بعد نزول المائدة {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا} أي: نوع عذاب {لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} يعني: عالمي زمانه.
قال بعض السلف لم تنزل المائدة؛ لأنهم لما قيل لهم {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل.
ولكن الصواب -إن شاء الله- ما ذهب إليه الجمهور: أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير وابن كثير، قال ابن جرير: نزلت لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} قال: ووعْد الله ووعيده حق وصدق. قال ابن كثير: وهذا القول هو- والله أعلم- الصواب كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم. انتهى