تفسير سورة الأنعام 11- 18
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}
{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} معتبرين، قال البغوي: يحتمل هذا: السير بالعقول والفكر، ويحتمل السير بالأقدام {ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} كان عاقبتهم أن دمر الله عليهم، ثم صيرهم إلى النار، هذا جزاء تكذيبهم، يحذر المشركين أن يصيبهم ما أصاب الأمم الماضية من قبلهم الذين كذبوا الرسل فعذبهم الله بتكذيبهم.
{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}
{قُلْ} لهم يا محمد {لِمَنْ} ملك {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ثم أخبرهم {قُلْ لِلهِ} أي ذلك لله الذي استعبد كل شيء، وقهر كل شيء بملكه وسلطانه، لا للأوثان، ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلهاً من الأصنام وغيرها التي لا تملك لأنفسها نفعاً ولا تدفع عنها ضراً{كَتَبَ}أي: قضى {عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فهو رحيم بالعباد، لا يعجل بالعقوبة، ويقبل الإنابة والتوبة، فتوبوا إليه
قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء العادلين بي الجاحدين نبوتك يا محمد، إن تابوا وأنابوا قبلت توبتهم، وإني قد قضيت في خلقي أن رحمتي وسعت كل شيء.
{لَيَجْمَعَنَّكُمْ} لام القسم، كأنه قال: والله ليجمعنكم الله {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: في يوم القيامة {لَا رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه أنه أن الله يجمعكم إلى يوم القيامة فيحشركم إليه جميعا، ثم يُؤتَى كل عامل منكم أجر ما عمل من حسن أو سيئ {الَّذِينَ خَسِرُواَ أنْفُسَهُمْ} غَبَنوها، أي أهلكوها وضيعوها بشركهم {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} لا يوحدون الله، ولا يصدقون بوعده ووعيده، ولا يقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قال الطبري: وله ملك كل شيء؛ لأنه لا شيء من خلق الله إلا وهو ساكن الليل والنهار {وَهُوَ السَّمِيعُ} لما يقول المشركون وغيرهم {الْعَلِيمُ} بما يسرونه في أنفسهم، وما يظهرونه بجوارحهم، لا يخفى عليه شيء من ذلك، فهو يحصيه عليهم، ليُوفيَ كلَّ إنسان ثواب ما اكتسب وجزاء ما عمل.
{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)}
{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك، الداعين إلى عبادة الآلهة والأوثان {أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} ربا ومعبودا وناصرا ومعينا؟ قال الطبري: أشياء غير الله تعالى أتخذ ولياً، وأستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث؟ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: خالقهما ومبدعهما ومبتدئهما {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} أي: وهو يرزق ولا يرزق {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} يعني: من هذه الأمة، والإسلام بمعنى الاستسلام والانقياد لأمر الله، والخضوع والتذلل له بالعبادة {وَلَا تَكُونَنَّ} يعني: وقيل لي ولا تكونن {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين يعبدون مع الله غيره.
قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للذين يدعونك إلى اتخاذ الآلهة أولياء من دون الله ويحثونك على عبادتها: أغير الله فاطر السموات والأرض، وهو يرزقني وغيري، ولا يرزقه أحد، أتخذ ولياً، هو له عبد مملوك وخلق مخلوق؟ وقل لهم أيضا: إني أمرني ربي أن أكون أول من أسلم، يقول: أول من خضع له بالعبودية وتذلل لأمره ونهيه وانقاد له من أهل دهري وزماني {ولا تكونن من المشركين} يقول: وقل: وقيل لي لا تكونن من المشركين بالله الذين يجعلون الآلهة والأنداد شركاء.
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}
{قُلْ} لهؤلاء المشركين يا محمد: إن ربي نهاني عن عبادة شيء سواه، و{إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} فعبدت غيره {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني عذاب يوم القيامة، وصفه تعالى بالعظم لعظم هوله وفظاعة شأنه.
{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}
{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} يعني: من يصرف العذاب عنه {يَوْمَئِذٍ} يعني: يوم القيامة، يعني من ينجيه الله من العذاب يوم القيامة {فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ} أي صرف الله عنه العذاب يوم القيامة، ورحمته إياه {الْفَوْزُ} أي النجاة من الهلكة والظفر بالمطلوب {الْمُبِينُ} أي: النجاة البينة الظاهرة.
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ} إن يصبك الله بشيء يضرك {فَلَا كَاشِفَ} لا رافع {لَهُ} لهذا الضر {إِلَّا هُوَ} إلا الله {وَإِنْ يَمْسَسْكَ} يصبك {بِخَيْرٍ} عافية ونعمة {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من الخير والضر.
قال الطبري: يقول تعالى ذكره: والله الذي أصابك بذلك فهو على كل شيء قدير، هو القادر على نفعك وضرك، وهو على كل شيء يريده قادر، لا يعجزه شيء يريده ولا يمتنع منه شيء طلبه، ليس كالآلهة الذليلة المهينة التي لا تقدر على اجتلاب نفع على أنفسها ولا غيرها، ولا دفع ضر عنها ولا غيرها، يقول تعالى ذكره: فكيف تعبد من كان هكذا؟ أم كيف لا تُخلِصُ العبادة، وتقر لمن كان بيده الضر والنفع والثواب والعقاب وله القدرة الكاملة والعزة الظاهرة؟ انتهى
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)}
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} المذلل المستعبِد خلقه، العالي عليهم. قال الطبري رحمه الله: {القاهر} المذلِل المستعبِد خلقه، العالي عليهم. وإنما قال: {فوق عباده} لأنه وصف نفسه تعالى بقهره إياهم، ومِن صفة كل قاهر شيئا أن يكون مستعليا عليه. فمعنى الكلام إذن: والله الغالب عباده، المذل لهم، العالي عليهم، بتذليله لهم وخلقه إياهم، فهو فوقهم بقهره إياهم، وهم دونه {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في أمره {الْخَبِيرُ} بأعمال عباده، وبمصالح الأشياء ومضارها.