تفسير سورة الأنعام 63-68
{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)}
{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله، ويدعونك لذلك {مَنْ يُنَجِّيكُمْ} يخلصكم ويسلمكم {مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي: من شدائدهما وأهوالهما والضلال فيهما، كانوا إذا سافروا في البر والبحر فضلوا الطريق وخافوا الهلاك، دَعَوُا الله مخلصين له الدين فينجيهم، فذلك قوله تعالى: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي: علانية وسراً {لَئِنْ أَنْجَانَا} أي: يقولون لئن أنجانا الله {مِنْ هَذِهِ} يعني: من هذه الشدائد والأهوال التي في الظلمات {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لنكونن ممن يوحدك بالشكر، ويخلص لك العبادة دون من كنا نشركه معك في عبادتك، والشكر: هو معرفة النعمة والإقرار بها مع القيام بحقها.
{قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}
{قُلِ} لهؤلاء المشركين يا محمد {اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا} يسلمكم منها {وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} والكرب: غاية الغم الذي يأخذ النفس {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} يريد أنهم يقرون أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي ينجيهم ثم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها لا تضر ولا تنفع.
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}
{قُلْ هُوَ} الله تبارك وتعالى {الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} يعني: الصيحة والحجارة والريح والطوفان، كما فعل بعاد وثمود وقوم لوط وقوم نوح {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني: الرجفة والخسف كما فعل بقوم شعيب وقارون، وقيل: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} السلاطين الظلمة، ومن تحت أرجلكم العبيد السوء وسفلة الناس، وقيل: {من فوقكم} من قبل كباركم و {من تحت أرجلكم} أي مِن أسفل منكم {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} أي يخلطكم ويجعلكم فرقاً وأحزاباً مفترقة، ويبث فيكم الأهواء المختلفة، كما هو حاصل اليوم بذنوبنا {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} يعني يقتل بعضكم بعضا، أي يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب. وهذا هو الحاصل اليوم كما ترون.
أخرج البخاري في صحيحه عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، قَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا أَهْوَنُ - أَوْ هَذَا أَيْسَرُ-"
{انْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} كيف نبين لهم الحجج والدلالات {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} ليفهموا ذلك ويعتبروا به ويتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان والأصنام، والتكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)}
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} أي: بالقرآن، كذبت به قريش {وَهُوَ الْحَقُّ} الذي ليس وراءه حق {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي لست عليكم بحفيظ، ولست بموكل بكم، كقوله {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} أي إنما عليّ البلاغ، وعليكم السمع والطاعة، فمن اتبعني سَعِد في الدنيا والآخرة، ومن خالفني فقد شقي في الدنيا والآخرة
{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}
{لِكُلِّ نَبَإٍ} خبر {مُسْتَقَرٌّ} يعني قرار يستقر عنده، ونهاية ينتهي إليها، فيتبين حقه وصدقه من كذبه وباطله {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أيها المكذبون بصحة ما أخبركم به من وعيد الله إياكم أيها المشركون وأنه حق عند حلول عذابه بكم.
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)}
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} يعني: في القرآن بالاستهزاء {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} فاتركهم ولا تجالسهم {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه} أي حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من التكذيب {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} نهينا {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} أي بعد أن تتذكر النهي {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالاستهزاء بآيات الله، يعني: إذا جلست معهم ناسياً فقم من عندهم بعدما تذكرت.
قال ابن كثير: والمراد بذلك كل فرد فرد من آحاد الأمة، أن لا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها، فإن جلس أحد معهم ناسياً، {فلا تقعد بعد الذكرى} بعد التذكر {مع القوم الظالمين} ولهذا ورد في الحديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
التعليقات عدد التعليقات (0)
اضافة تعليق