تفسير سورة الأنعام 95-99
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95}
{إِنَّ اللَّهَ} الذي يستحق العبادة دون غيره من الأصنام والاوثان هو {فَالِقُ} الفلق: الشق، أي هو الذي يشق {الْحَبِّ وَالنَّوَى} معناه يشق الحبة فيخرج منها النبت كالقمح والشعير، ويشق النواة فيخرج منها النخلة وغيرها من الشجر، والحب جمع حبة، وهي اسم لجميع البذور والحبوب من القمح والشعير والذرة، وكل ما لم يكن له نوى، والنوى جمع نواة كنواة التمر، وهي كل ما لم يكن له حب، كالتمر والمشمش والخوخ ونحوها {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كما يخرج من المني حيواناً، ومن البيضة فرخاً، ومن الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت؛ زرعاً وشجراً حياً {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ} وهو الذي لا نمو فيه، أو لا روح {مِنَ الْحَيِّ} كما يخرج من الأشجار والزروع النوى والحب، ويخرج من الطائر بيضاً.. ونحو ذلك {ذَلِكُمُ} الذي يفعل هذه الأشياء، أي الفالق المُخرج هو {اللَّهُ} الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي: فكيف تصرفون عن الحق، فتتركونه وتذهبون إلى الباطل فتعبدون مع الله غيره.
قال الطبري: يقول: فأي وجوه الصد عن الحق أيها الجاهلون تصدون عن الصواب وتصرفون، أفلا تتدبرون فتعلمون أنه لا ينبغي أن يجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب والنوى، فأخرج لكم من يابس الحب والنوى زروعاً وحروثاً وثماراً تتغذون ببعضه وتفكهون ببعضه، شريكٌ في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، ولا يسمع ولا يبصر؟
{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}
{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وكاشفه، والإصباح وهو الإضاءة، وأراد به الصبح، وهو أول ما يبدو من النهار، يريد: ومبدي الصبح وموضحه {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} يسكن فيه خلقه، قال الطبري: يسكن فيه كل متحرك بالنهار، ويهدأ فيه فيستقر في مسكنه ومأواه {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي: جعل الشمس والقمر يسيران بحِسَاب معلوم لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما.
قال السعدي: بهما تعرف الأزمنة والأوقات، فتنضبط بذلك أوقات العبادات، وآجال المعاملات، ويعرف بها مدة ما مضى من الأوقات التي لولا وجود الشمس والقمر، وتناوبهما واختلافهما ؛ لما عرف ذلك عامة الناس، واشتركوا في علمه، بل كان لا يعرفه إلا أفراد من الناس، بعد الاجتهاد، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت.
{ذَلِكَ} التقدير المذكور {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} أي: الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يُمانع ولا يُخالف {الْعَلِيمِ} بكل شيء، فلا يخفى عليه شيء.
قال السعدي: الذي من عزته انقادت له هذه المخلوقات العظيمة، فجرت مذللة مسخرة بأمره، بحيث لا تتعدى ما حده الله لها، ولا تتقدم عنه ولا تتأخر {الْعَلِيم} الذي أحاط علمه، بالظواهر والبواطن، والأوائل والأواخر.
ومن الأدلة العقلية على إحاطة علمه، تسخير هذه المخلوقات العظيمة، على تقدير، ونظام بديع، تحيرُ العقول في حسنه وكماله، وموافقته للمصالح والحكم. انتهى
وقال الطبري: وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله، وهو فلقه الإصباح، وجعله الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا، تقدير الذي عز سلطانه، فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام من الامتناع منه، العليم بمصالح خلقه وتدبيرهم، لا تقدير الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تفقه شيئا ولا تعقله، ولا تضر ولا تنفع، وإن أريدت بسوء لم تقدر على الامتناع منه ممن أرادها به. يقول جل ثناؤه: وأخلصوا أيها الجهلة عبادتكم لفاعل هذه الأشياء، ولا تشركوا في عبادته شيئا غيره.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)}
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} أي: خلقها لكم {لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} والله تعالى خلق النجوم لفوائد: أحدها: هذا وهو أن راكب السفينة والسائر في الصحاري يهتدي بها في الليالي إلى مقاصده.
والثاني: أنها زينة للسماء كما قال {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5].
والثالث: رميُّ الشيطان، كما قال: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله: أن الله جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ} أي بينا الأدلة، ووضحناها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ليتدبرها أولو العلم بالله منكم ويفهمها أصحاب العقول منكم، فينتفعوا بها.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) }
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} خلقكم وابتدأكم، يعني: الذي ابتدأ خلقكم من غير شيء، فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئاً {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: آدم عليه السلام {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أي: فلكم مستقر ومستودع، واختلفوا في المستقر والمستودع، فقال البعض: فمستقر في الرحم إلى أن يولد، ومستودع في أصلاب الآباء، وهو الذي رجحه ابن كثير، وقال آخرون: فمستقر في أرحام الأمهات، ومستودع في القبر إلى أن يبعث، وقيل غير ذلك {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ} بينا الأدلة ووضحناها {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} أي: يفهمون الأدلة وكلام الله.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) }
{وَهُوَ} والله الذي له العبادة خالصة الذي لا شريك له فيها، هو الإله {الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: بالماء {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} أي فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء من غذاء الأنعام والبهائم والطير والوحش، وأرزاق بني آدم وأقواتهم؛ ما يتغذَّون به ويأكلونه، فينبُتون عليه ويَنمُون {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} أي من الماء {خَضِرًا} يعني: أخضر، يعني: ما كان رطباً أخضر مما ينبت من القمح والشعير ونحوهما {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} أي: يركب بعضُه بعضاً، مثل سنابل البر والشعير {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا} والطلع أول ما يخرج من ثمر النخل {قِنْوَانٌ} جمع قنو، وهو العِذق، أي العرجون الذي يحمل الرطب، وهو من النخل كالعنقود من العنب {دَانِيَةٌ} أي: قريبة من المتناوِل {وَ} أخرجنا من الماء {جَنَّاتٍ} بساتين {مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} يعني: وشجر الزيتون وشجر الرمان {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} قال قتادة: معناه مشتبهاً ورقها، مختلفاً ثمرها؛ لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان، وقيل: مشتبه في المنظر، مختلف في الطعم {انْظُرُوا} يا مخاطبون نظر اعتبار {إِلَى ثَمَرِهِ} جمع ثمرة {إِذَا أَثْمَرَ} أول ما يبدو كيف هو {وَيَنْعِهِ} ونضجه وإدراكه كيف يعود، أي: فكروا في قدرة خالقه من العدم إلى الوجود، بعد أن كان حطباً صار عنباً ورطباً وغير ذلك مما خلق تعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ} أي: دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: يصدقون به، ويتبعون رسله، خصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها، بخلاف الكافرين.
التعليقات عدد التعليقات (0)
اضافة تعليق