تفسير سورة الأعراف (26-30)
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ} أي خلقنا لكم {لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} يستر عوراتكم {وَرِيشًا} ولباساً للتجمل، أي: ما يتجملون به من الثياب، فخلق الله تبارك وتعالى لكم لباساً لابد منه لستر العورة، ولباساً للزينة والتجمل {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} ولباس أفضل منهما وهو لباس تقوى الله، وهو فعل أوامره واجتناب نواهيه.
والمعنى: لباس التقوى الذي هو العمل بأمر الله واجتناب ما نهى الله عنه؛ خير لصاحبه إذا أخذ به مما خُلق له من اللباس الحسي.
{ذَلِكَ} المذكور من اللباس {مِنْ آيَاتِ اللهِ} أي: من دلائل قدرته؛ أي: ذلك الذي تقدم ذكره من النعم بإنزال الملابس من آيات الله الدالة على قدرته، وعظيم فضله، وعميم رحمته لعباده {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} ليذكروا، فيعتبروا ويرجعوا إلى الحق وترك الباطل، ويشكروا نعمة الله عليهم.
{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) }
{ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } لا يضلنكم الشيطان { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ} أي: كما فتن أبويكم آدم وحواء فأخرجهما {مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} ليرى كل واحد سوأة الآخر {إِنَّهُ يَرَاكُمْ} يعني أن الشيطان يراكم يا بني آدم {هُوَ وَقَبِيلُهُ} هو وذريته {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} وأنتم لا ترونهم، فيجب الحذر منه ومن ذريته، يذكر عن مالك بن دينار أنه قال: إن عدواً يراك ولا تراه لشديد الخصومة والمؤنة إلا من عصم الله {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ} قرناء وأعواناً {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} أما أهل الإيمان فلا سبيل لهم عليهم.
{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)}
{وَإِذَا فَعَلُوا} المشركون {فَاحِشَةً} الفاحشة: اسم لكل فعل قبيح بلغ النهاية في القبح، كالشرك وغيره {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} أي: وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها، قالوا: وجدنا عليها آباءنا، أي حجتهم أنهم وجدوا آباءهم يفعلونها وهذه صدقوا فيها {وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا} والله أمرهم بفعلها، وهذه كذبوا فيها؛ لذلك قال الله تبارك وتعالى {قُلْ} لهم يا محمد لتكذيبهم فيما قالوا على الله تبارك وتعالى {إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} بالمعاصي القبيحة {أَتَقُولُونَ} أيها المشركون {عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} كذباً وافتراء؟
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)}
{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} بالعدل، والتوحيد من العدل {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يعني وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة {وَادْعُوهُ} واعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الطاعة والعبادة، أي قاصدين بعبادته وجهه وحده لا شريك له، قال الطبري: واعملوا لربكم مخلصين له الدين والطاعة، لا تخلطوا ذلك بشرك، ولا تجعلوا في شيء مما تعملون له شريكاً {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} كما بدأكم فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً، كذلك تعودون أحياء يوم القيامة.
{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) }
{فَرِيقًا هَدَى} أي: جماعة منكم وفقهم الله للحق {وَفَرِيقًا} وجماعة {حَقَّ} وجب {عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} أي وجبت عليهم الضلالة، وذلك {إِنَّهُمُ} لأنهم {اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ} نصراء يطيعونهم ويخالفون أمر الله {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ويظنون أنهم على الحق، قال البغوي: فيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق، والجاحد والمعاند؛ سواء.
وقال الطبري: يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله وجاروا عن قصد المحجة؛ باتخاذهم الشياطين نصراء من دون الله وظهراء، جهلاً منهم بخطئ ما هم عليه من ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق، وأن الصواب ما أتَوه وركِبوا.
وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عناداً منه لربه فيها؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية. انتهى
وقال السعدي رحمه الله: وفيه دليل على أن الهداية بفضل الله ومَنِّه، وأن الضلالة بخذلانه للعبد، إذا تولى - بجهله وظلمه - الشيطانَ، وتسبب لنفسه بالضلال، وأن من حسب أنه مهتدٍ وهو ضالٌّ، أنه لا عذر له؛ لأنه متمكن من الهدى، وإنما أتاه حسبانه من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى. انتهى
التعليقات عدد التعليقات (0)
اضافة تعليق