تفسير سورة الأعراف (38-43)
{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) }
{قَالَ} الله تبارك وتعالى يوم القيامة للمشركين {ادْخُلُوا} النار {فِي أُمَمٍ} أي: مع جماعات {قَدْ خَلَتْ} قد مضت {مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} يعني كفار الأمم الماضية قبلكم {كُلَّمَا دَخَلَتْ} النار {أُمَّةٌ} جماعة من الكفار {لَعَنَتْ أُخْتَهَا} يريد أختها في الدين لا في النسب، فتلعن الفرقة المتأخرة الفرقة المتقدمة التي اقتدت بها في الكفر فكانت سبباً في ضلالها {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا}أي: تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار {جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} دخولاً النار أي التي دخلت النار متأخرة، وهم الأتباع {لِأُولَاهُمْ} أي: لأولاهم دخولاً النار وهم القادة؛ لأن القادة يدخلون النار أولاً {رَبَّنَا} قالوا: يا ربنا {هَؤُلَاءِ} القادة والكبراء هم الذين {أَضَلُّونَا} عن الهدى {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} أي: فعاقبهم عقاباً مضاعفاً، وعذبهم عذاباً أشد من عذابنا؛ لأنهم هم الذين أضلونا عن طريق الحق {قَالَ} الله تبارك وتعالى {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} يعني للقادة والأتباع نصيب مضاعف من العذاب {وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} ما لكل فريق منكم من العذاب.
{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}
{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ} يعني القادة {لِأُخْرَاهُمْ} للأتباع {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} أي لستم أفضل منا حتى تستحقوا تخفيف العذاب؛ لأنكم كفرتم كما كفرنا، فنحن وأنتم في الكفر سواء، وفي العذاب سواء {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} أي عذاب جهنم {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا من الكفر والمعاصي.
قال السعدي رحمه الله: ولكنه من المعلوم أن عذاب الرؤساء وأئمة الضلال أبلغ وأشنع من عذاب الأتباع، كما أن نعيم أئمة الهدى ورؤسائه أعظم من ثواب الأتباع، قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} فهذه الآيات ونحوها، دلت على أن سائر أنواع المكذبين بآيات الله، مخلدون في العذاب، مشتركون فيه وفي أصله، وإن كانوا متفاوتين في مقداره، بحسب أعمالهم وعنادهم وظلمهم وافترائهم، وأن مودتهم التي كانت بينهم في الدنيا تنقلب يوم القيامة عداوة وملاعنة. انتهى
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) }
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} فلم يؤمنوا بها مع أنها آيات واضحات بينات لا خفاء فيها ولا لبس {وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} فلم ينقادوا لأحكامها {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} لا لأرواحهم إذا ماتوا وصعدت إلى السماء تريد الدخول، فتستأذن فلا يؤذن لها، ولا لأدعيتهم وأعمالهم في حياتهم الدنيا، إنما تفتح أبواب السماء لأرواح المؤمنين وأدعيتهم وأعمالهم {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ} يدخل {الْجَمَلُ فِي سَمِّ} ثقب {الْخِيَاطِ} الإبرة، أي: حتى يدخل الجمل الذي هو من أكبر الحيوانات جسماً، في ثقب الإبرة التي هي من أضيق الفتحات، والمراد منه أنهم لا يدخلون الجنة أبداً؛ لأن الشيء إذا عُلق بما يستحيل حصوله؛ يدل ذلك على تأكيد المنع، كما يقال: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، يريد لا أفعله أبداً، فالمكذبون بآيات الله لا يدخلون الجنة أبداً، فهي محرمة عليهم، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} {وَكَذَلِكَ} ومثل هذه العقوبة {نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} نكافئ الذين كثر إجرامهم واشتد طغيانهم.
{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}
{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} أي: فراش {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}أي: لحف، أغطية تغطيهم، يريد إحاطة النار بهم من كل جانب، كما قال الله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] {وَكَذَلِكَ} وبمثل هذه العقوبة {نَجْزِي} نكافئ {الظَّالِمِينَ} الذين تجاوزوا حدود الله فكفروا به وعصَوْه.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)}
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي: إلا ما تستطيعه وتقدر عليه، فعلى كل نفس أن تتقي الله بقدر استطاعتها، فإذا عجزت عن بعض الواجبات سقطت عنها {أُولَئِكَ} أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الذين يدخلون الجنة، ويمكثون فيها أبداً.
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) }
{وَنَزَعْنَا}وأخرجنا {مَا فِي صُدُورِهِمْ} أي ما في صدور أهل الجنة {مِنْ غِلٍّ} من حقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا، فجعلناهم إخواناً على سرر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضاً على شيء {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} تجري الأنهار من تحت غرفهم ومنازلهم {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} أي وفقنا إلى الإيمان والعمل الصالح الذي أوصلنا إلى هذه الدار{وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} وما كنا لنوفق إليه {لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ} لولا أن وفقنا الله إليه {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل بأعينهم، فكانوا مؤمنين بما وعدهم به الرسل من النعيم، ومستيقينين به وأنه حق، ثم رأوه بأعينهم وذاقوه، فانتقلوا من علم اليقين إلى حق اليقين على الترتيب الذي ذكره أهل العلم لليقين، قالوا: واليقين مراتبه ثلاثة، كل واحدة أعلى مما قبلها:
أولها: علم اليقين، وهو العلم المستفاد من الخبر.
ثم عين اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة البصر.
ثم حق اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة الذوق والمباشرة. انتهى
{وَنُودُوا} تهنئة لهم وإكراماً {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} هذه الجنة التي كانت رسلي في الدنيا تخبركم عنها {أُورِثْتُمُوهَا} أُعطِيتُمُوها وصارت لكم داراً ومستقراً {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا نلتم رحمة الله فدخلتم الجنة.
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا " فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
التعليقات عدد التعليقات (0)
اضافة تعليق