تفسير سورة الأعراف (54-58)
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُ الْعَالَمِينَ (54) }
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ } إن سيدكم ومُصلحَ أمورِكم أيها الناس، هو المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أوجدهما من العدم، وخلق ما فيهما على عظمهما وسعتهما، وإحكامهما، وإتقانهما، وبديع خلقهما { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} قال ابن كثير: هي: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وفيه اجتمع الخلق كلُّه، وفيه خلق آدم عليه السلام، واختلفوا في هذه الأيام: هل كل يوم منها كهذه الأيام؟ كما هو المتبادر إلى الأذهان، أو كل يوم كألف سنة؟ كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس، فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت وهو القطع. انتهى
{ثُمَّ اسْتَوَى} علا وارتفع {عَلَى الْعَرْشِ} علواً وارتفاعاً يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، لا نعلم كيفيته.
والعرش في اللغة: سرير الملك.
قال ابن كثير: هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي: يأتي الليل على النهار فيغطيه، وكذلك: يغشي النهار الليل {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي: سريعاً، أي يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً أي سريعاً، لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا وعكسه {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ} أي: خلق هذه الأشياء مسخرات، أي: مذللات {بِأَمْرِهِ} أمرهن الله فأطعن أمره {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} له الخلق لأنه خلقهم، وله الأمر يأمر في خلقه بما يشاء. قال الطبري: ألا لله الخلق كله، والأمر الذي لا يُخالف ولا يُرد أمرُه دون ما سواه من الأشياء كلها، ودون ما عبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تضر ولا تنفع ولا تخلق ولا تأمر {تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} قال ابن كثير: أي: عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه، فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها، وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبِر الكثير، فكل بركة في الكون، فمن آثار رحمته، ولهذا قال: فـ {تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}
{ادْعُوا} أيها الناس {رَبَّكُمْ} وحده، فأخلصوا له الدعاء دون ما تدعون من دونه من الآلهة والأصنام {تَضَرُّعًا} تذللاً واستكانة لطاعته {وَخُفْيَةً} أي: سراً بإخلاص، لا جهراً علانية يخاف منه الرياء {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} لا يحب من اعتدى فتجاوز حده الذي حده لعباده في الدعاء وغيره؛ من أعظم أنواع الاعتداء في الدعاء؛ دعاء غير الله كالأوثان والأموات، وسؤال منازل الأنبياء عليهم السلام، والذين يدعون على غيرهم ظلماً، والجهر بالدعاء.
قال الحسن البصري: رفع الصوت بالدعاء بدعةٌ.
وقال سعيد بن المسيب: أحدث الناس الصوت عند الدعاء.
وقال الإمام أحمد: كان يُكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء.
{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) }
{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} أي: لا تفسدوا فيها بالشرك والمعاصي، بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: خوفاً من عذابه، وطمعاً في ثوابه {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي إن رحمته مرصدة أي معدة ومهيأة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره.
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)}
قال ابن كثير: لما ذكر تعالى أنه خالق السموات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر، وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قادر؛ نبه تعالى على أنه الرزاق وأنه يعيد الموتى يوم القيامة {وَهُوَ} الله {الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} يعني: أنها تبشر بالمطر {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي: قدام المطر، فيستبشر الخلق بهذه الرياح التي تأتي قبل المطر {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} حملت الرياح {سَحَابًا ثِقَالًا} بالمطر {سُقْنَاهُ} أي السحاب {لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} إلى بلد ميت محتاج إلى الماء {فَأَنْزَلْنَا بِهِ} أي: بالسحاب {الْمَاءَ} يعني: المطر {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} استدل بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال السعدي: أي: كما أحيينا الأرض بعد موتها بالنبات، كذلك نخرج الموتى من قبورهم، بعد ما كانوا رفاتا متمزقين، وهذا استدلال واضح، فإنه لا فرق بين الأمرين، فمنكر البعث استبعاداً له - مع أنه يرى ما هو نظيره - من باب العناد، وإنكار المحسوسات
وفي هذا الحث على التذكر والتفكر في آلاء الله والنظر إليها بعين الاعتبار والاستدلال، لا بعين الغفلة والإهمال.
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) }
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} طيب التربة والمادة إذا نزل عليها المطر {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} يخرج نباتها سريعاً حسناً، هذا مثل ضربه الله عز وجل للمؤمن والكافر، فمثل المؤمن مثل البلد الطيب يصيبه المطر فيخرج نباته بإذن ربه {وَالَّذِي خَبُثَ} يريد الأرض السبخة {لَا يَخْرُجُ} نباتها {إِلَّا نَكِدًا} النكد: الشيء القليل الذي لا ينفع.
فالأول مَثل المؤمن الذي إذا سمع القرآن ووعاه وعقله وانتفع به، والثاني مثل الكافر الذي يسمع القرآن فلا يؤثر فيه، كالبلد الخبيث الذي لا يتبين أثر المطر فيه {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} نبينها {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} بالاعتراف بنعمه، والإقرار بها، والعمل بها في مرضاة الله.