تفسير سورة الأعراف (94-102)
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)}
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} يعني: ما من قرية أُرسل إليها نبي من قبلك يا محمد فكذبوه {إِلَّا أَخَذْنَا} عاقبنا {أَهْلَهَا} حين لم يؤمنوا {بِالْبَأْسَاءِ} وهي شدة الفقر {وَالضَّرَّاءِ} المرض وسوء الحال في دنياهم {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} لكي يتضرعوا، أي لكي يتذللوا لله فيتوبوا. قال الطبري: فعلنا ذلك ليتضرعوا إلى ربهم، ويستكينوا إليه، وينيبوا بالإقلاع عن كفرهم، والتوبة من تكذيب أنبيائهم. انتهى
يبين الله تبارك وتعالى لنبيه سنته في الأمم التي قد مضت من قبل أمته، ويُذكِّر من كفر به من قريش وغيرهم ويحذرهم؛ لينزجروا عما هم عليه من كفر وتكذيب لنبيه صلى الله عليه وسلم.
{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) }
{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} يعني: مكان البأساء والضراء الحسنة، يعني النعمة والسعة والخصب والصحة {حَتَّى عَفَوْا} أي كثرت أموالهم وأولادهم.
تقدير الكلام أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما فعلوا شيئاً من الذي أراد منهم، فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم، وليشكروا على ذلك؛ فما فعلوا {وَقَالُوا} من غفلتهم بعد ما صاروا إلى الرخاء {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} أي: هكذا كانت عادة الدهر قديماً لنا ولآبائنا، تصيبنا شدة في المعيشة في أوقات، وسعة ورخاء في أوقات أخرى، ولم يكن ما مسنا من الضراء عقوبة من الله، فكونوا على ما أنتم عليه، كما كان آباؤكم؛ فإنهم لم يتركوا دينهم لما أصابهم من الضراء.
{فَأَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب {بَغْتَةً} فجأة، وهم آمنون منه لا يظنون أنه سيقع {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بنزول العذاب.
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)}
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} الذين أرسلنا لهم رسلنا {آمَنُوا} بالله ورسله {وَاتَّقَوْا} بفعل ما أمرهم به واجتناب ما نهاهم {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} يعني: المطر من السماء، والنبات من الأرض {وَلَكِنْ كَذَّبُوا} لم يؤمنوا {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فعاقبناهم بسبب أعمالهم الخبيثة.
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)}
ثم قال تعالى مخوفاً ومحذراً من مخالفة أوامره والتجرؤ على معصيته:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} الذين كفروا وكذبوا، يعني: أهل مكة وما حولها {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} عذابناً {بَيَاتًا} ليلاً {وَهُمْ نَائِمُونَ}
{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)}
{ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} أي: نهاراً: والضحى: صدر النهار، ووقت انبساط الشمس {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي في حال شغلهم وغفلتهم. قال السعدي: أي: أي شيء يؤمنهم من ذلك، وهم قد فعلوا أسبابه، وارتكبوا من الجرائم العظيمة، ما يوجب بعضه الهلاك؟!
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)}
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ} مكر الله استدراجه إياهم بما أنعم عليهم في دنياهم. {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} قال السعدي: فإن من أمن من عذاب الله، فهو لم يصدق بالجزاء على الأعمال، ولا آمن بالرسل حقيقة الإيمان.
وهذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ، على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه من الإيمان.
بل لا يزال خائفا وجلا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان، وأن لا يزال داعيا بقوله: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وأن يعمل ويسعى، في كل سبب يخلصه من الشر، عند وقوع الفتن، فإن العبد - ولو بلغت به الحال ما بلغت - فليس على يقين من السلامة. انتهى
قال ابن كثير: قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن. انتهى
{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) }
{أَوَلَمْ يَهْدِ} يعني أولم نبين {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ} هلاك {أَهْلِهَا} الذين كانوا فيها قبلهم {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} أي: أخذناهم وعاقبناهم {بِذُنُوبِهِمْ} كما عاقبنا من قبلهم {وَنَطْبَعُ} نختم {عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} الإيمان ولا يقبلون الموعظة.
{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)}
{تِلْكَ الْقُرَى} أي: هذه القرى التي ذكرت لك أمرها وأمر أهلها يعني قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} أخبارها لما فيها من الاعتبار {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالبراهين الواضحة على صدقهم {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} أي: فما كانوا ليؤمنوا بما جاءت به الرسل؛ بسبب تكذيبهم بالحق أولَ ما جاءهم {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} أي: كما ختم الله على قلوب الأمم الماضية التي أهلكها؛ كذلك يختم على قلوب الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا يؤمنون، عقوبة منه.
{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) }
{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}أي: وفاء بالعهد والتزاماً بما أوصاهم الله به. قال الطبري: ولم نجد لأكثر أهل هذه القرى التي أهلكناها واقتصصنا عليك يا محمد نبأها؛ من عهد، يقول: من وفاء بما وصيناهم به من توحيد الله، واتباع رسله، والعمل بطاعته، واجتناب معاصيه، وهجر عبادة الأوثان والأصنام. والعهد: هو الوصية. انتهى {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أي: ما وجدنا أكثرهم إلا خارجين عن طاعة الله.