تفسير سورة الأعراف (130-137)
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)}
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} بالجدب والقحط. تقول العرب: مستهم السنة، أي: جدب السنة وشدة السنة، قال ابن كثير: أي اختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم بالسنين، وهي سني الجوع بسبب قلة الزروع ونقص من الثمرات {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} فصار الشجر لا يثمر إلا قليلاً {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي: يتعظون؛ لينزجروا عن ضلالتهم، ويرجعوا إلى ربهم بالتوبة، وذلك لأن الشدة ترقق القلوب وترغبها فيما عند الله عز وجل.
{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)}
{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ } يعني الخصب والسعة والعافية { قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أي: نحن أهلها ومستحقوها، على العادة التي جرت لنا في سعة أرزاقنا، ولم يروها تفضلاً من الله عز وجل فيشكروا عليها { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } جدب وبلاء، ورأوا ما يكرهون {يَطَّيَّرُوا} يتشاءموا {بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} وقالوا: ما أصابنا بلاء حتى رأيناهم، فهذا من شؤم موسى وقومه. قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} أي: نصيبهم وما يصيبهم من الخصب والجدب والخير والشر كله من الله، هو قدره عليهم. قال ابن عثيمين: والمعنى: أن ما يصيبهم من الجدب والقحط ليس من موسى وقومه، ولكنه من الله، فهو الذي قدره ولا علاقة لموسى وقومه به، بل إن الأمر يقتضي أن موسى وقومه سبب للبركة والخير، ولكن هؤلاء -والعياذ بالله- يلبسون على العوام ويوهمون الناس خلاف الواقع. انتهى {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أن الذي أصابهم من الله.
{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)}
{وَقَالُوا} يعني: القبط لموسى {مَهْمَا} ما {تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} من علامة {لِتَسْحَرَنَا بِهَا} لتنقلنا عما نحن عليه من الدين {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} قال ابن كثير: أيُّ آيةٍ جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها رددناها فلا نقبلها منك ولا نؤمن بك ولا بما جئت به.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)}
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار {وَالْجَرَادَ} هو الجراد المعروف، فأكل ثمارهم وزروعهم، ونباتهم {وَالْقُمَّلَ} اختلفوا فيه، قيل: صغار الجراد الذي لا أجنحة له، وقيل: السوس الذي يخرج من الحنطة، وقيل غير ذلك {وَالضَّفَادِعَ} فملأت أوعيتهم، وأقلقتهم، وآذتهم أذية شديدة {وَالدَّمَ} قال السعدي: إما أن يكون الرعاف، أو كما قال كثير من المفسرين: أن ماءهم الذي يشربون انقلب دماً، فكانوا لا يشربون إلا دماً، ولا يطبخون إلا بدم {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} مبينات، أي: أدلة وبينات على أنهم كانوا كاذبين ظالمين، وعلى أن ما جاء به موسى، حق وصدق {فَاسْتَكْبَرُوا} عن الإيمان {وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} قال السعدي: {وَكَانُوا} في سابق أمرهم {قَوْمًا مُجْرِمِينَ} فلذلك عاقبهم الله تعالى، بأن أبقاهم على الغي والضلال.
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)}
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} أي: نزل بهم العذب {قَالُوا} لموسى: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أي: بما أوصاك وأمرك به، قال السعدي: أي: تشفعوا بموسى بما عهد الله عنده من الوحي والشرع {لَئِنْ كَشَفْتَ} رفعت {عَنَّا الرِّجْزَ} العذاب {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} لنصدقن بما جئت به ودعوت إليه ولنقرن به لك {وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فلا نمنعهم أن يذهبوا حيث شاءوا.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)}
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ} فدعا موسى ربه، فأجابه الله تبارك وتعالى، فرفع عنهم العذاب الذي أنزله بهم {إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} إلى وقت هلاكهم المقدر لهم {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} ينقضون العهد، فلم يؤمنوا ولا أرسلوا مع موسى بني إسرائيل كما وعدوا.
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)}
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} حين جاء الوقت المؤقت لهلاكهم {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} يعني البحر {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} فلم يؤمنوا بها {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي وكانوا عن آياتنا معرضين، فتركوها ولم يقبلوا بها.
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)}
{وَأَوْرَثْنَا} وأعطينا {الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} الذين كان فرعون وقومه يقهرونهم ويستذلونهم بذبح الأبناء واستخدام النساء والاستعباد، وهم بنو إسرائيل {مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} يعني الشام، التي تبدأ حدودها اليوم من داخل تركيا وتشمل: ملطية، ومرعش، وغازي عنتاب، والمصيصة، وأضنة (أذنة)، وطرسوس، إلى داخل حدود السعودية إلى تبوك وتيماء ودومة الجندل، واختلفوا في تبوك وتيماء ودومة الجندل هل هي من الشام أم حدود الشام عندها تنتهي، ومن نهر الفرات إلى عريش مصر، وبحر الشام، وهو الجزء الذي عليه شواطئ الشام من البحر الأبيض المتوسط الذي كان يسمى بحر الروم {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} التي جعلنا فيها الخير ثابتاً دائماً لأهلها {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} يعني: وفت كلمة الله، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين في الأرض، وذلك قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] الآية {بِمَا صَبَرُوا} أي بسبب صبرهم على دينهم وعلى عذاب فرعون {وَدَمَّرْنَا} أهلكنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} وأهلكنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه في أرض مصر من العِمارات والمزارع {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور، وأخرجناهم من ذلك كله، وخربنا جميع ذلك.