تفسير سورة الأعراف (148-154)
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)}
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ} أي: من بعد انطلاق موسى إلى مناجاة الله {مِنْ حُلِيِّهِمْ} التي استعاروها من قوم فرعون وبقيت عندهم {عِجْلًا} صاغه لهم منه السامري ألقى فيه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام، فتحول عجلاً وهو ولد البقرة {جَسَدًا} من ذهب {لَهُ خُوَارٌ} وهو صوت البقر، كان يدخل فيه الريح ويخرج فيُسمع له صوت كالبقر {أَلَمْ يَرَوْا} يعني: الذين عبدوا العجل {أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} يعني العجل {وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} ولا يدلهم على طريق خير {اتَّخَذُوهُ} إلهاً {وَكَانُوا ظَالِمِينَ} وكانوا كافرين.
قال السعدي رحمه الله: وهذا من سفههم، وقلة بصيرتهم، كيف اشتبه عليهم رب الأرض والسماوات، بعجل من أنقص المخلوقات؟
ولهذا قال مبينا أنه ليس فيه من الصفات الذاتية ولا الفعلية، ما يوجب أن يكون إلهاً {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} أي: وعدم الكلام نقص عظيم، فهم أكمل حالة من هذا الحيوان أو الجماد، الذي لا يتكلم {وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا} أي: لا يدلهم طريقا دينيا، ولا يحصل لهم مصلحة دنيوية؛ لأن من المتقرر في العقول والفطر، أن اتخاذ إله لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر من أبطل الباطل، وأسمج السفه، ولهذا قال: {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} حيث وضعوا العبادة في غير موضعها، وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا.
وفيها دليل على أن من أنكر كلام الله، فقد أنكر خصائص إلهية الله تعالى؛ لأن الله ذكر أن عدم الكلام دليل على عدم صلاحية الذي لا يتكلم للإلهية. انتهى
{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) }
{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي: ندموا على عبادة العجل، تقول العرب لكل نادم على أمر: قد سقط في يديه {وَرَأَوْا} وأيقنوا {أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} عن طريق الحق بعبادتهم العجل {قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} يتب علينا ربنا {وَيَغْفِرْ لَنَا} يتجاوز عنا ما صدر منا من عبادة العجل{لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الذين خسروا الدنيا والآخرة، وكان هذا الندم والاستغفار منهم بعد رجوع موسى إليهم.
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)}
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى} من مناجاة ربه {إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} أي: ممتلئا غضبا وغيظا عليهم، لتمام غيرته عليه الصلاة السلام، وكمال نصحه وشفقته {قَالَ} موسى {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} أي بئس ما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن ذهبت وتركتكم {أَعَجِلْتُمْ} أسبقتم {أَمْرَ رَبِّكُمْ} حيث وعدكم بإنزال الكتاب، فبادرتم - برأيكم الفاسد - إلى هذه الخصلة القبيحة {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} التي فيها التوراة، وكان حاملاً لها، وألقاها على الأرض من شدة الغضب {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} بشعر رأس هارون ولحيته {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ} هارون عند ذلك {ابْنَ أُمَّ} قال: ابن أم، وكان هارون أخاه لأبيه وأمه؛ ولكنه قال له هذا ليرققه ويستعطفه {إِنَّ الْقَوْمَ} يعني عبدة العجل {اسْتَضْعَفُونِي} قهروني وعدوني ضعيفاً، قال الطبري: وكان استضعافهم إياه، تركهم طاعته واتباع أمره {وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} هموا وقاربوا أن يقتلوني {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} أي لا تسرهم. والشماتة: السرور بما يصيبه من المصائب في الدين والدنيا {وَلَا تَجْعَلْنِي} في مؤاخذتك علي {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يعني عبدة العجل.
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}
{قَالَ} موسى لما تبين له عذر أخيه { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} ما صنعنا{وَأَدْخِلْنَا} جميعاً {فِي رَحْمَتِكَ} أي وارحمنا برحمتك الواسعة عبادك المؤمنين {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فإنك أنت أرحم بعبادك من كل من رحم شيئًا.
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)}
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} إلهاً من بني إسرائيل {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هو ما أمروا به من قتل أنفسهم {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} الكاذبين.
وهؤلاء قد ابتدعوا في دين الله ما ليس منه وعبدوا غير الله، كما يفعل الصوفية والشيعة اليوم عند قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم.
قال ابن كثير: وقوله {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} نائلة لكل من افترى بدعة؛ فإن ذل البدعة ومخالفة الرشاد متصلة من قلبه على كتفيه، كما قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البَغْلات وطقطقت بهم البراذين. وهكذا روى أيوب السختياني عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} فقال:"هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة".
وقال سفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل. انتهى
{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)}
قال ابن كثير: أخبر الله تبارك وتعالى بهذا أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق، ولهذا عقب هذه القصة بقوله {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} الذنوب {ثُمَّ تَابُوا} بأن ندموا على ما مضى، وأقلعوا عنها، وعزموا على أن لا يعودوا {مِنْ بَعْدِهَا} من بعد الذنوب التي فعلوها {وَآمَنُوا} بالله وبما أوجب الله من الإيمان به، ولا يتم الإيمان إلا بأعمال القلوب، وأعمال الجوارح المترتبة على الإيمان {إِنَّ رَبَّكَ} أي: يا محمد يا رسول التوبة ونبي الرحمة {مِنْ بَعْدِهَا} أي من بعد التوبة {لَغَفُورٌ} لهم، يمحو سيئاتهم {رَحِيمٌ} بهم بقبول توبتهم.
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) }
{وَلَمَّا سَكَتَ} أي: سكن {عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} التي كان ألقاها {وَفِي نُسْخَتِهَا} أي: مشتملة ومتضمنة {هُدًى وَرَحْمَةٌ} أي: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي: للخائفين من ربهم.
قال السعدي: {هُدًى وَرَحْمَةٌ} أي: فيها الهدى من الضلالة، وبيان الحق من الباطل، وأعمال الخير وأعمال الشر، والهدى لأحسن الأعمال، والأخلاق، والآداب، ورحمةٌ وسعادةٌ لمن عمل بها، وعلمَ أحكامها ومعانيها، ولكن ليس كل أحد يقبل هدى الله ورحمتَه، وإنما يقبل ذلك وينقاد له، ويتلقاه بالقبول الذين هم {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي: يخافون منه ويخشونه، وأما من لم يخف الله ولا المقام بين يديه، فإنه لا يزداد بها إلا عتوا ونفورا، وتقوم عليه حجة الله فيها. انتهى. والله أعلم