تفسير سورة الأعراف (179-186)
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} خلقنا {لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} أي: لا يعلمون بها الخير والهدى {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} طريق الحق وسبيل الرشاد {وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} مواعظ القرآن فيتفكرون فيها، ويعتبرون بها، يعني قلوبهم وأعينهم وآذانهم لا تنفعهم وتؤدي بهم إلى اتباع الحق، ثم ضرب لهم مثلاً في الجهل والاقتصار على الأكل والشرب، فقال: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}أي: كالأنعام كالبهائم في أن همتهم في الأكل والشرب والتمتع بالشهوات، بل هم أضل؛ لأن الأنعام تميز بين المضار والمنافع، فلا تقبل على المضار، وهؤلاء يقبلون على النار معاندة مع العلم بالهلاك {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} عن الإيمان وطاعة الرحمن.
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) }
{وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ} الله تبارك وتعالى له أسماء كثيرة وكلها حسنى، منها تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة، و(معنى أحصاها): قيل: حفظها. وقيل: أقر لله بها وتعبد.
أخرج الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة»، منها: الله والرحمن و{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} {الْحُسْنَى} تأنيث الأحسن، وهي البالغة في الحسن غايته؛ فكل اسم دال على صفة كمال عظيمة {فَادْعُوهُ بِهَا} قال السعدي: وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة، فيُدعى في كل مطلوب بما يناسب ذلك المطلوب، فيقول الداعي مثلاً: "اللهم اغفر لي وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم"، "وتب عَلَيَّ يا تواب"، "وارزقني يا رزاق"، "والطف بي يا لطيف".. ونحو ذلك {وَذَرُوا} اتركوا {الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الذين يميلون بها عن الحق فيجعلونها لغير الله؛ كتسمية المشركين آلهتهم بأسماء الله، أو ينفونها عنه، أو يسمونه بغير أسمائه فيدخلون غيرها فيها، أو يحرفون معناها، فمعنى الإلحاد: هو الميل عن المقصد، قال يعقوب بن السكيت: الإلحاد هو العدول عن الحق، وإدخال ما ليس منه فيه {سَيُجْزَوْنَ} في الآخرة {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا من الكفر والإلحاد في أسماء الله وتكذيب رسوله.
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) }
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ}أي: جماعة فاضلة {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} أي: يدعون إلى الحق {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي: بالحق يحكمون، وبالعدل يقومون.
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)}
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} ولم يؤمنوا بها {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} سنرزقهم ونزيدهم في الرزق، ليبقوا على ضلالهم ويزيدوا فيه، ثم نباغتهم بالعقوبة.
{ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}
{وَأُمْلِي لَهُمْ} أي: أمهلهم، وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي: قوي شديد.
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) }
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} أولم يُعمِلوا أفكارهم وينظروا كي يتضح لهم {مَا بِصَاحِبِهِمْ} محمد صلى الله عليه وسلم {مِنْ جِنَّةٍ} من جنون أي ليس به جنون {إِنْ هُوَ} ما هو {إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} إنما هو رسول من الله تبارك وتعالى بعثه محذراً من عقاب الله إذا لم يؤمنوا به وبما جاء به. {مبين} أي ظاهر لمن كان له لب وقلب يعقل به ويعي به.
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)}
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} نظر اعتبار{ فِي مَلَكُوتِ} في ملك الله العظيم في {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَهُ} فيهما {مِنْ شَيْءٍ} أي: وينظروا إلى ما خلق الله من شيء ليستدلوا بها على وحدانيته {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} أي: وينظروا في آجالهم عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتوا قبل أن يؤمنوا، ويصيروا إلى العذاب {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي: بعد القرآن يؤمنون، يقول: بأي كتاب غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يؤمنون، وليس بعده نبي ولا كتاب، ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال:
{مَنْ يُضْلِلِ الَلهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}
{مَنْ يُضْلِلِ اللهُ} عن طريق الحق {فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} ويتركهم {فِي طُغْيَانِهِمْ} في كفرهم {يَعْمَهُونَ}يترددون متحيرين.